تدور روسيا بعيداً من فلك أوروبا والغرب عموماً، وهي جزء تاريخي وجغرافي منه. ويبدو أنها غادرت هذا المدار الى غير رجعة. فتخلّى زعماء روسيا عن"الانتماء"الى الغرب، وهم ينشئون نظامهم الخاص، ومركزه موسكو. وتناول الكرملين السياسة الخارجية، على الوجه الذي يتناولها عليه، يفترض أن بلاداً شاسعة مثل روسيا، لا أصدقاء لها. فليس من قوة عظمى تريد روسيا قوية، ومنافساً على قدم المساواة. ودول كثيرة على خلاف هذا، تريد روسيا ضعيفة. وعليه، لا يسع روسيا إلا أن تختار إما الخضوع أو استعادة موقعها قوةً عظمى، والمطالبة بمكانتها المشروعة في العالم الى جانب الولاياتالمتحدةوالصين، وليس في صحبة البرازيلوالهند. وعلى الولاياتالمتحدة وأوروبا أن تقرّا بأن شروط العلاقة الحية بين الغرب وروسيا، وهي لم تتغير منذ 15 عاماً أو ابان انهيار الاتحاد السوفياتي، انقلبت رأساً على عقب. فالانهيار المباغت للنفوذ السوفياتي، وسرعة استئناف المانيا وحدتها، أخذا الولاياتالمتحدة وأوروبا على غفلة. وأرجأت الحكومات الأوروبية والأميركية مسألة صوغ استراتيجيا ما بعد المرحلة السوفياتية، وعندما باشر صناع القرار التفكير في هندسة نظام متماسك جديد، يخلف الحرب الباردة، باء مسعاهم بالفشل. وبقي موقع روسيا الجديدة معلقاً. وغداة سقوط جدار برلين، في 1998، أملت الحكومات الغربية في التحاق بلدان شرق أوروبا وجنوبها ووسطها بأوروبا الغربية، على ألا تتخلف روسيا عن الركب، ولكن النزاع في البلقان أحبط التوقع، وأظهر لا مبالاة الولاياتالمتحدة، وضعف أوروبا، تجاه القوة التي حررتها نهاية المواجهة بين القوتين العظميين. وبدت روسيا في عين الغرب حالاً على حدة. فهي تملك أسلحة نووية، وعقلية"القوة العظمى"التي توجه سياستها اهتزت، ولكنها لم تنكسر. وهي كبيرة واسعة جداً. وبابها على الغرب ينبغي ألا يغلق. وكان الأمل في أن تيمم روسيا وجهها تدريجاً، بمساعدة الغرب، الى الديموقراطية واقتصاد السوق. وفي الأثناء، الملحّ هو أن تنتهج موسكو سياسة خارجية مؤاتية للغرب. ولكنها رفضت العرض هذا. واشترطت، لقاء انتسابها الى الغرب، اشراكها في قيادة النادي الغربي. ومع انضمام بلدان حلف وارسو السابقة الى الغرب العريض، اقترحت صيغ جديدة على روسيا. وأبقت الصيغ على بعض التمييز. فالمقصود من ضم روسيا الى"مجموعة السبع"فتصبح ثماني دول ربط موسكو بالغرب سياسياً، وتألف زعمائها. وقصد بمجلس"ناتو - روسيا"الى تنسيق البرامج الأمنية، أولاً، وتعزيز الاصلاح العسكري في روسيا ثانياً. وتوسل المجلس الأوروبي، بعد ضم روسيا اليه بينما لم تكن حرب الشيشان الأولى حسمت، الى الترويج للقيم والمعايير الغربية في روسيا نفسها. والحق ان"الدول الثماني"لا تزال"الدول السبع"زائد روسيا فعلاً أي سياسياً. وتحول المجلس الأوروبي، خصوصاً جمعيته البرلمانية، ساحة حرب خطابية بين المشرعين الروس ونظرائهم الأوروبيين موضوعها الشيشان وحقوق الإنسان. وغداة 11 أيلول سبتمبر، أرادت روسيا مقايضة قبولها قيادة الولاياتالمتحدة العالمية بإقرار هذه بدور روسيا حليفاً متصدراً، يُعهد اليه خصوصاً بالفضاء السوفياتي السابق. ورفضت واشنطن الصيغة الثقيلة هذه. وانضمت روسيا الى الدول الأوروبية في معارضة غزو الولاياتالمتحدةالعراق. وأملت في دخول أوروبا من الباب هذا، وانشاء محور روسي - ألماني - فرنسي يكافئ حلف أو محور واشنطن ولندن. وأخفقت روسيا في مسعاها الجديد. ومضت الهيئات والأبنية العالمية والأوروبية على توسّعها شرقاً، فضمت سائر دول حلف وارسو ودول البلطيق التي كانت سوفياتية قبل أعوام قليلة. وبعث انضمام بولندا ودول البلطيق الى الاتحاد الأوروبي قلق موسكو. ونزعت الولاياتالمتحدة وأوروبا الى مساندة تغيير الأنظمة من الداخل، وحملت أوكرانيا وجورجيا، وهذه كانت جزءاً من الأراضي الداخلية الروسية، على توجه جيوسياسي جديد. واستعيد معيار"الجوار القريب"، وكانت موسكو توسلت به الى إحياء هيمنتها على الدول المستقلة الجديدة في محيطها، على نحوين: واحد من منظور موسكو، وآخر من منظور بروكسيل. وتنازع القطبان على الأرض نفسها وتعثرت مرة أخرى، علاقات موسكوبالولاياتالمتحدة وأوروبا. وفي نهاية ولاية بوتين الأولى، في 2004، خلصت الحكومات الغربية الى أن روسيا ليست على وشك التحول ديموقراطية، فأنزلتها خانة الصين، آملة في الاستفادة من شراكة أنشئت في زمن سعيد أفل. ولم تعدم التغيرات الروسية آثاراً تخطت السياسات المحلية. فطوال عقدين سبقا 2005، لم تنفك السياسة الدولية الروسية تضعف وتتردى. وفي أواخر 2004 ومطلع 2005، في ذروة أزمة رهائن بيسلان وفضيحة التدخل في الانتخابات الأوكرانية، انحدرت حكومة بوتين الى أدنى درجات التردد والهزال. بيد أن الكرملين نهض من كبوته على حين غرة، فاستثمر موارد جديدة، وجدد ثقته في قدراته. ولا ريب في أن محرك النهوض كان أسعار النفط والغاز المرتفعة. فنسق الكرملين مع ببيجينغ دعوة الولاياتالمتحدة الى سحب قواتها من آسيا الوسطى. وفي أواخر 2005، استمال أوزباكستان حليفاً رسمياً، وأعلن الخلاف مع أوكرانيا على خطوط إمداد أوروبا بالغاز، وعلى أسعار حصة أوكرانيا من الغاز. ومذ ذاك، لبست روسيا لبوس قوة عظمى. ونظمت مناورات عسكرية مع الصين وهذه غير مسبوقة، ومع الهند. وطوت معونات الغاز الى جيرانها، السوفيات سابقاً. وقطعت الإمدادات عن أوكرانيا، وضاعفت الأسعار نحو أربعة أضعاف. واستقبلت قادة"حماس"، وقدّمت دعماً مالياً الى الفلسطينيين، حين قطعت أميركا وأوروبا مساعداتهما. ورفضت روسيا العقوبات على ايران اذا لم ترجع عن تخصيب اليورانيوم. وتتضافر المبادرات هذه على بلورة نهج يقوم على مغادرة إنشاء فلك خاص ومستقل. وتنزل موسكو الجمهوريات السوفياتية السابقة في محل الأولوية، وتروج لتوسيع الاقتصاد الروسي. وترى روسيا أن التأثير الأميركي يتلاشى، وأن الاتحاد الأوروبي يقتصر على قوة اقتصادية وحسب. وهي تتعاون مع بيجينغ، وتتطلع الى التعاون مع الهند. ولا ريب في أن سبب استعادة موسكو ثقتها في نفسها هو تحسّن حالها المالية، وحصر النفوذ الداخلي في دائرة النواة. فهي تملك ثالث احتياط مالي في العالم، الى 50 بليون دولار لتثبيت التمويل المحلي. وهي تسدد ديونها الخارجية قبل استحقاقها. وفي روسيا نفسها، مستوى المعيشة يتحسّن. والمعارضة مهمّشة. وبعثت مركزية السلطات الرسمية. وأمسك الكرملين بزمام الأمور كلها. وأعرب الروس للعالم عن إرادتهم أن يقتصر شأن سياساتهم الداخلية عليهم وحدهم. وانصرفت النخبة الحاكمة في روسيا عن ايلاء الغرب أذناً صاغية، وأوقفت همها على الاقتصاد، وخصوصاً أسواق النفط والغاز. عن ديميتري ترينين نائب مدير مركز كارنيغي بموسكو، "فورين أفيرز" الأميركية، 7 / 8 / 2006