اكتشفت روسيا متأخرة أن سياسة محاباة الغرب ومناداة خصوم الامس السوفيتي ب» الشركاء» هي من غير طائل ودون جدوى، لذلك قررت وقف مسار الانحدار الذي الّم بها عندما عاملها الغرب كخاسرة ومهزومة في « الحرب الباردة» التي دامت رحاها نحو 50 عاما، فسعى الكرملين منذ اقتناعه بان الغرب لا يرحب بروسيا لا شريكا ولا ندا, لإعادة رسم خريطة فضائه الاستراتيجي الذي تقلص حتى حدوده الدنيا، إثر انضمام بلدان «حلف وارسو» وجمهوريات سوفياتية سابقة إلى حلف شمال الاطلسي «الناتو»، لترتفع عضوية ناديه من 16 إلى 28 دولة؛ بعضها يقع على الحدود الروسية تماما مثل دول البلطيق التي كانت في عداد الاتحاد السوفيتي السابق. ولم يكتفِ الناتو الذي اعتقد لوهلة بأنه الآمر الناهي في أربع رياح الأرض بهذا القدر، فسعى وما زال يسعى، لجذب جورجيا وأذربيجان وأوكرانيا، بقصد استكمال تطويق بلاد القياصرة، وحصر نفوذها ضمن نطاق جغرافيتها دون السماح لها بالامتداد الى الفضاء الاوروبي الذي يعتبر نفسه اكثر تقدما وتحضرا !!!. ومن أجل تضييق الخناق على «الدب الروسي» داخل الادغال المصقعة وحدها، وفيما كان هو يسحب قواعده العسكرية من كوبا وفيتنام بعد سحبها من اوروبا الشرقية وخاصة المانياالشرقية التي ذابت في جارتها الغربية، اخذت الولاياتالمتحدة بنشر قوات في شرق أوروبا ودول البلطيق المحاذية للحدود الروسية، وبنصب أذرع منظومة الدرع المضادة للصواريخ على أراضي بولندا وتشيكيا وتركيا، ورومانيا لاحقاً، بذريعة درء خطر صواريخ بالستية إيرانية مزعومة! لم تقنع هذه الذريعة الأميركية الواهية الجنرالات الروس الذين اعتبروا أن الدرع موجهةٌ ضد ترسانة بلادهم الصاروخية والنووية بالدرجة الأولى، بما يخلّ باتفاقيات الأسلحة الإستراتيجية القائمة بين البلدين. وَكَرَدٍّ عملاني، أقدموا- بعد اقناعهم الرئيس فلاديمير بوتين بذلك- على نشر صواريخ تكتيكية من طراز (اسكندر- أي) القادرة على حمل رؤوس نووية في جيب كالينينغراد المحاذي للحدود البولونية, فاصبحت اوروبا كلها تحت مرمى هذه الصواريخ الحديثة. وفيما كانت روسيا تحاول استرجاع القليل القليل من النفوذ السوفيتي المفقود في العالم, اندلعت وعلى حين غرّة «ثورة» ملوّنة جديدة في اوكرانيا بدعم من واشنطن والغرب، مطلع العام 2013، لتطيح السلطة الموالية لموسكو هناك، تمهيداً لفتح أبواب الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» أمام أوكرانيا، الذي يسعى لجعلها خط تماس مباشرا، بعدما شكلت، لعقدين، حاجزاً فاصلاً بين روسيا وخصومها الجدد في بولندا ورومانيا والمجر، الشوكة المتقدمة للحلف في شرق أوروبا. ولحماية أمنها القومي، سارعت موسكو إلى استعادة جزيرة القرم، القاعدة الرئيسة لأسطول البحر الأسود، وشجّعت حركات الاحتجاج في مقاطعات جنوب شرق أوكرانيا، التي تقطنها غالبية روسية، على السعي للانفصال عن المركز. استغلّت واشنطن وحلفاؤها رد الفعل الروسي لإعلان حرب مفتوحة على موسكو تذكّر بإوار الحرب الباردة التي انطفأت للتو، فكانت البداية عقوبات متدرجة طالت الاقتصاد وشخصيات مقربة من الرئيس بوتين للتأثير فيه. وبعدها، وبسحر ساحر هبط سعر برميل النفط إلى ما دون ال 50 دولاراً، ما أثّر في صرف العملة الروسية (الروبل) الذي فقد نحو ثلثي قيمته الشرائية، خلال ستة أشهر. كما أدّى إلى خسارة الخزانة الروسية قرابة 120 مليار دولار حتى الآن. هذا الوضع، جعل الرئيس الأميركي يتفاخر، أثناء إلقائه خطاب حال الاتحاد، قائلا قبل اسبوعين «اليوم، الولاياتالمتحدة هي التي تقف قوية ومتحدة مع حلفائها، فيما روسيا معزولة واقتصادها متهالك كأسمال بالية». في أجواء هذه المناخات الضاغطة، صدّق الرئيس فلاديمير بوتين وثيقة العقيدة القتالية للجيش الروسي (2015 - 2020) التي حدّدت 14 خطراً، وبعض خيارات الرد عليها. وهي شبيهة بوثيقة 2010، مع تحديثات جديدة أبرزها: 1- تحول حلف «الناتو» من مجرد تهديد محتمل لروسيا إلى التهديد الأول لها، بإصراره على الوصول إلى عتبات أبوابها، عبر منح عضويته لأوكرانيا. وكان برلمانها، الذي تهيمن عليه قوى موالية للغرب، قرر قبل نهاية 2014، التخلي عن وضعية الدولة غير المنحازة، وهي خطوة ممهدة للانضمام إلى الحلف لاحقاً. هذا التبدل الخطير، دفع بالرئيس الروسي لوصف الجيش الأوكراني بفرقة أجنبية تعمل على إرباك بلاده لمصلحة القوى الغربية. 2- انزعاج روسيا من نشر الحلف قوات في دول البلطيق وشرق أوروبا، وإجراء مناورات عسكرية وطلعات جوية دورية، وكذلك تواجد اسفن حربية أميركية في بحار بارنتس والبلطيق والأسود والمتوسط. وكإجراء مضاد، تبنّت العقيدة الروسية الجديدة مفهوم «الردع غير النووي» عبر تكثيف المناورات، ورفع كفاءة القوات العسكرية التقليدية، وإبقائها في حالة جهوزية عالية. 3- أشارت الوثيقة إلى سعي ا لولايات المتحدة لعسكرة الفضاء، ونصب أقمار صناعية عالية الدقة، وأسلحة إستراتيجية في مداراته، مستعيدة تجربة حرب النجوم التي اطلقها الرئيس الاميركي الاسبق دونالد ريغان خلال ثمانينيات القرن الماضي، التي أدّت إلى تسعير سباق التسلح مع الاتحاد السوفياتي. وتسعى واشنطن لتكرار التجربة، وجر موسكو إلى سباق ينهك حيويات اقتصادها الضعيف أصلاً. 4- أضاءت الوثيقة، للمرة الأولى، على أهمية القطب الشمالي، كمنطقة استراتيجية للتنمية الاقتصادية، غنية بالطاقة والثروات الطبيعية. وألقت على القوات المسلحة الروسية مهمة حمايتها، كونها محاذية للحدود مع الولاياتالمتحدة وكندا. 5- لحظت الوثيقة أحقية استخدام روسيا لترسانتها النووية، في حال تعرضها لعدوان أو تهديد يمس وجود الدولة، أو أيا من حلفائها الأقربين. لكن مع الالتزام بالطابع الدفاعي، «لأن تفادي نزاع عسكري نووي أو أي نزاع آخر، يشكل أساس السياسة العسكرية الروسية» حسب نص الوثيقة المقرّة. 6- تتزايد مخاوف موسكو من مخاطر الإرهاب الداخلي، لزعزعة الاستقرار وتهديد وحدة الاتحاد الروسي، لا سيما بعد ارتفاع وتيرته، وانفلات الحركات المتطرفة في مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا. وتشير الوثيقة إلى عدم التعاون الجدي من واشنطن وحلفائها للقضاء على آفته السامة. 7- لفتت الوثيقة الأنظار إلى الحرب الاعلامية التي يشنها الغرب ضد سياسات الرئيس بوتين، لزعزعة الاستقرار السياسي والوضع الاجتماعي، بقصد تأليب الرأي العام الروسي عليه. وأكد كل من سيرغي إيفانوف رئيس ديوان الكرملين، وميخائيل فرادكوف رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، وجود خطط أميركية تستهدف إسقاط إدارة بوتين، وإن إحدى الخطط تتضمن العمل من أجل تقسيم روسيا إلى 50 ولاية ومقاطعة، عبر إثارة الفتن العرقية والدينية، وتحريض الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز ومناطق ما وراء جبال الأورال. إضافة إلى ما تقدّم، تبنّت العقيدة القتالية الجديدة خيارات سبق واعتمدتها روسيا للرد على «البلطجة» الغربية، منها: إقرار خطط لرفع كفاءة أذرع الجيش، لا سيما في مجالات أسلحة البحر والجو والفضاء. وتكثيف الطلعات الاستطلاعية للقاذفات البعيدة المدى، القادرة على حمل رؤوس نووية من طراز «تو- 95- أم أس» و»تو – 160» ومقاتلات «سوخوي-35» في الأجواء الأوروبية. وكانت هذه الطلعات قد توقفت مع انهيار الاتحاد السوفياتي، واستؤنف العمل بها مجدداً، العام 2011. هذا فضلاً عن رفع الموازنة العسكرية حتى 83 مليار دولار لعام 2015، أي بزيادة 15 في المئة عن موازنة العام الفائت، إضافة إلى نفقات الخطة العشرية (2010 - 2020) الجاري العمل بها، وقيمتها 750 مليار دولار، لتحديث أسلحة ومعدات الجيش الروسي. سألت الرئيس بوتين في احد مؤتمراته الصحفية : هل تاخذون بعين الاعتبار الوقائع الجيوسياسية المستجدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في تعاملكم مع الغرب؟؟ فردّ بقريحية قائلا « بالطبع نحن نعرف تماما الوقائع التي ترتبت على انهيار دولة عظمى ونعرف ان روسيا الجديدة ليست الاتحاد السوفيتي ولا تملك قدراته ولا ايديولوجيته, ونأخذ كل هذا بعين الاعتبار، لكن على الغرب ان يعرف ان لروسيا مصالحها الحيوية ايضا, وان يكف عن معاملتها كما لو انها دولة مهزومة في الحرب الباردة, فإذا كنا قد سحبنا قاعدتنا للتجسس الالكتروني من كوبا مراعاة لعلاقاتنا مع واشنطن، فاننا لن نقبل ان تقابل اميركا حسن نيتنا هذا بنشر قواعد لها وللاطلسي على مرمى حجر من حدودنا, فنحن كلما تراجعنا مراعاة لموازين القوة الجديدة,كلما عمد الغرب الى التقدم باتجاه حدودنا» . وختم ممازحا «اذا كان شريكك عسلا فلا تلعقه كله حتى النهاية». الظروف الدولية تغيرت كلياً، والعالم لم يعد منشطراً بين اصطفافين تحركهما الايديولوجيا أكثر من المصالح. ومن يرصد مسارات السياسة الخارجية الروسية، يلحظ ميلها الشديد إلى بناء علاقة شراكة إستراتيجية مع الولاياتالمتحدة، التي تفرّدت بإدارة الملفات الدولية، بقصد تثبيت هيمنتها الأحادية. كما أن توازن القوى العسكرية بين الطرفين في المجالين التقليدي والنووي، يجعلهما يدركان أن معادلة «الردع المتبادل» لا تزال الفيصل في الميدان العسكري. وهذه نقطة حاسمة تعرفها روسيا جيداً، وبالتالي لا تخشى القوة الأميركية التي تصر على التعاطي معها حتى الآن، كدولة كبرى وليست دولة عظمى، بحسب مقولة زبينغيو بريجنسكي. ولذا تسعى واشنطن جاهدة لتكريس معادلة المنتصر والمهزوم، التي أفرزتها الحرب الباردة، ومنع وريثة الاتحاد السوفياتي من استعادة عافيتها الكاملة. لكن ما تخشاه روسيا فعلاً، هو الوجه الآخر للحرب الذي أنهك اقتصادها وعرى عيوبه البنيوية، فمهما امتلكت من قوة عسكرية تبقَ قاصرة، إن لم تستند إلى اقتصاد متين، لا تزال تفتقده. ويرى الخبراء العسكريون، أن جوهر الحرب الحديثة آخذٌ بالتغير، وأن مفهوم التأثير الضاغط على القيادة السياسية والعسكرية للخصم عبر عزله وتقويض اقتصاده، يَحُلُّ، تدريجاً، مكان فكرة التدمير الشامل للقوات المعادية. ولكي تستطيع روسيا كسب السباق، لا بد من هيكلة اقتصادها المدني، لزيادة قدراته الإنتاجية ورفع كفاءته التنافسية. وأول شرط لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، هو الإقلاع عن الاعتماد المفرط على قطاع الطاقة الذي تشكل عائداته 52 في المئة من الميزانية العامة، ونحو ربع الناتج القومي. فمن المحال استعادة حضورها كدولة عظمى، واحتفاظها بمكانة عسكرية مُهابة، بالارتكاز على اقتصاد شبه ريعي، تعاني صناعاته المدنية تخلفاً جلياً، مقارنة بالصناعات الغربية. واللافت أن هناك هوة تكنولوجية تزداد اتساعاً بين منتجات الصناعات العسكرية والمدنية الروسية. وهذا يدفع المراقبين للتساؤل، لِمَ لا توضع خبرات التكنولوجيا الذكية المستثمرة بمجالَي العسكرة والفضاء، في خدمة بعض مجالات الصناعة المدنية، كما سبق وفعل الأميركيون طوال النصف الثاني من القرن الماضي، وأدى إلى انطلاق القطاعين العسكري والمدني في خطين شبه متوازيين؟ ولأن الحرب هي «اقتصاد مكثف»، فان الرئيس الروسي يعلن مرارا وجهارا رفضه الانجرار الى حرب باردة جديدة وسباق تسلح ينهك الاقتصاد الروسي الذي يحاول النهوض من نكسة الانهيارات المريعة التي أصابته بعيد زوال الاتحاد السوفيتي، لذلك ما على « الدب» الروسي الا مراقصة الذئب الاميركي ولو على حافة هاوية حرب باردة جديدة.. حتى إشعار آخر!.