طرحت عملية بيسلان أكثر من سؤال حول ظروفها ودمويتها، لكن السؤال الأهم هو حول مكانها، فلماذا في اوستيا الشمالية وليس في روسيا، مثلاً، التي يعتبرها الثوار الشيشانيون عدوهم الأول؟ في الواقع تم تنفيذ عمليات شيشانية متنوعة وكثيرة في داغستان وأنغوشيا، وفي غيرهما من المناطق التابعة لروسيا، على رغم ان غالبية سكان داغستان وأنغوشيا من المسلمين، تماماً كسكان الشيشان، وكذلك غالبية سكان أوسيتيا الشمالية. والكيانات الأربعة ما هي الا جمهوريات صغيرة المساحة، قليلة السكان تدار ذاتياً، لكنها تابعة للاتحاد الروسي، وهي متجاورة ويحاذي بعضها بعضاً، بل وهناك مشاكل تتعلق بالأراضي والحدود المشتركة بينها. فهل هناك ما هو مخفي بين الشيشانيين والأوسيت الشماليين؟ وهل في خبايا التاريخ ما يمكنه ان يُلقي أضواء على الحدث الأخير ودمويته. القوقاز ويرمولوف وبوشكين لقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر محاولات جادة لسيطرة الامبراطورية الروسية على مناطق القوقاز الواقعة في جنوبروسيا، على رغم وعورتها الجبلية والمقاومة الشرسة التي أبداها سكان المنطقة، خصوصاً في الجبال. وتقول كتب التاريخ ان الجنرال يرمولوف عُين قائداً عاماً للقوات الروسية في القوقاز في عام 1816، وشرع ببناء القلاع في المنطقة، ومن بينها قلعة غروزني معناها المهدِد أو الرهيب على شاطئ نهر سونغا في عام 1818، ما دفع بالسكان قبائل شيشانية وغيرها الى مهاجمة هذا الحصن باستمرار. وكتب يرمولوف في حينه الى الامبراطور الروسي، ما يأتي: "عندما تكون القلاع جاهزة، فسأعرض على "الأوغاد" القاطنين بين نهري تيرك وسونغا، والذين يسمون أنفسهم مسالمين، قواعد للعيش والتزامات توضح لهم انهم رعايا لجلالتكم لا حلفاء، كما كانوا يأملون حتى الآن"، بحسب ما جاء في كتاب "احتلال الروس للقفقاس" لجون بادلي. وهكذا توالت حروب "الرعايا" مع "المستعمرين" الجدد، وتابع الجنرال يرمولوف هجومه لاحتلال منطقة إثر أخرى في القوقاز. كذلك فعل الجنرالات الذين تبعوه. وذكر الشاعر الروسي الأشهر بوشكين في قصيدة له، اثر نفيه الى منطقة القوقاز: "أيها القفقاس طأطئي رأسك الثلجي، واخضعي إن يرمولوف قادم". هكذا... وبغزوات مستمرة ومتلاحقة، انتزع الروس القوقاز من بعض الامارات المحلية، ومن الامبراطوريتين المسلمتين: العثمانية والصفوية الفارسية، على اعتبار انهما كانتا تحتلان أقساماً مهمة من تلك البلاد. لقد كان الإطلال على المياه الدافئة، واحتلال مناطق محاذية للبحرين الأسود وقزوين، وصولاً الى البحر المتوسط، حافزاً مهماً للحروب الروسية في المنطقة، اضافة الى موقعها المهم بين قارتي أوروبا وآسيا، وإيجاد مناطق واسعة معقدة التضاريس تفصل بين روسيا المسيحية الأوروبية وبين الامبراطوريتين المسلمتين: الامبراطورية التركية العثمانية، والصفوية الفارسية. ولأن سكان المنطقة كانوا في معظمهم من المسلمين، لذا فإن هجرات سكانية أخذت تتوالى بعد استيلاء الروس عليها، خصوصاً ان مواطنين كثراً من تلك المنطقة كانوا يحملون جنسيات الامبراطوريتين الصفوية والعثمانية، خصوصاً الأخيرة، كون معظم سكان القوقاز من المسلمين السنّة، كذلك كان معظم سكان الامبراطورية العثمانية في مناطقها الشرقية. وتزايدت الهجرات بعد قضاء الروس على الثورة التي قادها الشيخ شامل، والتي كان مركزها في داغستان، وشملت مناطق عدة في بلاد الشيشان والأنغوش، واستمرت ما يزيد على 35 سنة، تخللتها حروب كر وفر، وحملت طابعاً وطنياً دينياً، كان من أبرز أهدافها انتزاع حرية المنطقة واستقلالها. الا ان الروس استطاعوا كسب الحرب، بعدما طوّروا أسلحتهم وتكتيكاتهم الحربية، وتم أسر الشيخ شامل نفسه في عام 1859، ونُفي الى تركيا العثمانية، وانتقل بعدها الى المدينةالمنورة في الجزيرة العربية، حيث توفي هناك في عام 1871. واللافت ان الأوسيت، على رغم وجود غالبية مسلمة بينهم، تعاونوا مع المحتل الروسي، ودخل أفراد كثر من بينهم في الجيش الامبراطوري الروسي، وبرز من بينهم ضباط اشتهروا بالشجاعة، فقرّبتهم الامبراطورة الروسية كاثرين الثانية، ومنحتهم امتيازات وأملاكاً ومراتب مهمة، ما أوجد شروخاً وشكوكاً، وربما عداوات بينهم وبين أبناء المنطقة الآخرين. هذا جانب مما حصل في العهد الامبراطوري، أما في العهد السوفياتي، فإن هناك ما يُلفت من جانب الأوسيت أيضاً الذين قاموا بشراسة قوات الألمان النازية الزاحفة لاحتلال القوقاز وتخليصه من أيدي السوفيات أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقوا موالين للروس، كذلك فعلت بقية شعوب المنطقة. إلا ان هناك وجهاً آخر للعملة أيضاً. فبينما كان آلاف الشيشان والأنغوش والشراكسة والقراتشاي وغيرهم من سكان منطقة القوقاز ينخرطون في الجيش الأحمر السوفياتي يقاومون الزحف الألماني، كان هناك الآلاف من بينهم أيضاً يتعاونون معه، وجرت محاولات ألمانية لإقامة حكومات محلية متعاونة مع الألمان، خصوصاً من بعض رجال الدين، ما أثار غضب ستالين، وهو بالمناسبة من أب جورجي وأم أوسيتية، وكان من نتيجة ذلك ان شعوباً كثيرة نفاها ستالين من أراضيها وأملاكها، كالشيشانيين والأنغوش والشركس والقراتشاي وتتار القرم وألمان روسيا وغيرهم. صحيح ان ستالين كان غاضباً على جماعات من تلك الشعوب، وأراد عقابها على تعاونها مع الألمان، لكنه كان يريد تطبيق نظرياته أيضاً في تجاوز الحالة القومية، الى الحالة الأممية ودمج شعوب مختلفة قومياً ودينياً ببعضها بعضاً، بهدف إيجاد مواطن سوفياتي جديد. الا ان الأمر في التطبيق العملي كان يتم على حساب الشعوب المقتلعة من أوطانها، نظراً الى عدم توافر أماكن عيش وخدمات وأعمال مناسبة، اضافة الى وجود طبيعة قاسية في بلاد المنافي، ان كان في سيبيريا أو في كازاخستان أو في غيرهما. لذا فإن الآلاف من السكان المنفيين ماتوا، إما على الطريق، وإما من جراء عدم وجود المآوي والخدمات المناسبة، في ظل ظروف مناخية قاسية، وفي ظل الحروب التي شنت على الاتحاد السوفياتي الوليد. حروب داخلية من الروس البيض وأصحاب الأملاك والمصانع المصادرة، وحرب عالمية ثانية كادت موسكو نفسها ان تكون ضحية لها! ولأن الطبيعة نفسها تأبى الفراغ، لذا فإن فراغ مناطق وجمهوريات سوفياتية من سكانها: الشيشان، الأنغوش، الشركس وغيرهم في منطقة القوقاز، أتبعه ستالين بتوزيع بعض أراضي الشعوب المقتلعة على الشعوب التي قدّر ستالين وقوفها ضد الغازي الألماني، كتوزيع أراضٍ من بلاد الأنغوش والشيشان والشركس والقراتشاي على الجورجيين والأوسيت الشماليين. وكان من الطبيعي ان يحافظ السكان المقتلعون من أرضهم على شعور الانتقام من الأوسيت الشماليين خصوصاً، ومن الروس في شكل عام، خصوصاً بعد عودة تلك الشعوب الى أوطانها الأصلية بعد وفاة ستالين، واصدار رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروشوف قرارات بإعادة تلك الشعوب الى مواطنها الأصلية في عام 1957. لكن عودة المنفيين لم تلغ نقمتهم على من احتل أرضهم وأهدر كرامتهم الوطنية من الجيران، خصوصاً ان مساحات من الأراضي الوطنية لم تتم استعادتها. حروب "الأخوة" وإذا كانت الحقبة السوفياتية لم تشهد نزاعات في القوقاز الا أن "حروب الأخوة" سرعان ما اشتعلت بين الأوسيت الشماليين من جهة، وبين الانغوش والشيشان من جهة أخرى، فور انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع التسعينات بسبب ما خلّفته الحقبة السابقة من خيبات وأحقاد واحتقانات، ومن مس بالكرامة الوطنية الجماعية، وأيضاً بسبب استمرار استيلاء الأوسيت الشماليين على أراض وأملاك كانت تابعة للجارين الملاصقين: الانغوش والشيشان. ولم يمنع الدين المشترك الاسلام من نشوب نزاعات المصالح، خصوصاً ان أحداث التاريخ استمرت تتفاعل، وأصبحت من نوع الارث الذي يتناقله جيل بعد آخر. لذا فإن طفرات من العنف الأعمى كانت تبرز بين فترة وأخرى، وآخرها عملية مدرسة بيسلان الاوسيتية الشمالية، على رغم ان الهدف هو المطالبة باستقلال الشيشان