على رغم المقاومة المستمرة والعنيفة التي تنظمها شعوب القوقاز المسلمة منذ 400 سنة ضد السيطرة الروسية، ما زالت القوى الغربية كما كانت في الماضي، تعتبر أن أراضي الجماعات المسلمة في شمال القوقاز هي جزء لا يتجزأ من روسيا، وذلك بخلاف مواقف هذه القوى من جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية التي اعترفت باستقلالها عن "الامبراطورية السوفياتية". ولا شك في أن الجغرافيا هي منبع مآسي شعوب جبال القوقاز التي تبز بارتفاعها ارتفاع جبال الألب الشهيرة، ذلك أنها تفصل قارة أوروبا عن آسيا وتقع على حدود العالمين الاسلامي والارثوذكسي. والشيشان شأنهم شأن الشركس والأنغوش والداغستانيين يعيشون في مجتمع تسيطر عليه التقاليد القبلية في اطار جبلي معزول يتيح استمرارها وتوارثها. ويسود اعتقاد أسطوري ان أصلهم عربي واعتقاد آخر أنهم أتراك لكن الفرضيتين تحتاجان الى اثباتات غير متوافرة بما فيه الكفاية. ويعتنق الشيشان الدين الاسلامي منذ حوالي 4 قرون، وقد تم ذلك على أيدي دعاة اسلاميين جاؤوا من داغستان المجاورة. وتنتشر بينهم الطرق الصوفية النقشبندية وهي الغالبة. كما تنتشر القادرية في صفوف قلة من الذين يعتمدون المذهب الاسلامي الشافعي بخلاف الشركس الذين يدينون للمذهب الحنفي المنتشر في تركيا. شكل الاسلام عنصر توحيد مهم لهذه الشعوب التي انتفضت على الروس قبل 4 قرون بقيادة رجال دين كانوا يشنون حروباً دموية على الجيوش الروسية. ولعل أهم هذه الحروب تلك التي بدأت في العام 1785 وانتهت عام 1791م بقيادة الشيخ منصور. في هذه الحرب تحالف الشيشان والداغستانيون والشركس وتمكنوا من هزيمة جيوش الملكة كاترين الثانية التي لم تقهر في معركة واحدة من قبل. لكن الانتصار كان موقتاً اذ حدثت تطورات اقليمية لم تكن لمصلحتهم، فقد هزم العثمانيون أمام الروس في البحر الأسود 1791 وانضمت مملكة جيورجيا المتمردة طواعية الى روسيا عام 1801، وسيطر الروس بسهولة على آذربيجان. كل ذلك حرم الجبليين من قواعد ارتكاز لاستقلالهم وسمح للروس بمحاصرتهم من أجل خنقهم لكنهم لم يستسلموا واستمروا في المقاومة حتى العام 1856. وعندما أصابهم الضعف انتهجت روسيا القيصرية سياسة تصفية منهجية ضد كل فئة على حدة. فبدأ الجيش الروسي بتصفية الشركس الذين طردوا الى أراضي الامبراطورية العثمانية المجاورة ولم يبق منهم على أرضهم الأصلية سوى عدد محدود يسبح في بحرٍ من الأكثرية الروسية والقوقازية. أما الشيشان فاعتبروا الأكثر صلابة وحباً للحرية. وتفيد الروايات المتواترة من تاريخ روسيا القيصرية ان الجنرال آرمولوف وعد القيصر بأن "لا تغمض له عين طالما وجد شيشاني واحد على قيد الحياة" لأن هذا الشعب المطبوع بعقلية الاستقلال يمكن أن يتحول الى مثال حتى لرعايا القيصر المقربين. الإمام شامل وعلى رغم الحملات المتتالية التي جندها آرمولوف ضد الشيشان فإنه لم يفلح في الوفاء بالوعد الذي قطعه للقيصر. ذلك ان الشيشان انحازوا بأكثريتهم الى أحد الدعاة المتمردين في داغستان ويدعى الامام شامل. وهو شخصية تاريخية محبوبة لدى شعوب القوقاز الاسلامية بسبب نهجه الاصلاحي وقضائه على النظام الاقطاعي واستخدامه الاسلام وسيلة لتحرير العبيد. ولعل شامل طبع المقاومة الشيشانية والاسلامية عموماً في القوقاز خلال القرن التاسع عشر. واستطاع أن يصمد حتى النهاية في مواجهة الروس. وتفيد الروايات التاريخية ان المعركة الأخيرة التي خاضها كانت في حاجز جبلي في داغستان عام 1859 حيث كان متحصناً مع 500 من أنصاره في حين كان الجيش الروسي يحاصره ب 40 ألف جندي، الأمر الذي اضطره الى الاستسلام. لم يرض الشيشان باستسلام شامل، فواصلوا المقاومة وأصيبوا بخسائر فادحة يقودهم الباي سنغور. لكن هذه المقاومة كلفتهم غالياً إذ لم يبق منهم سوى 40 ألفاً. ولم تكن الهزيمة تعني سيطرة الروس على مناطقهم سيطرة نهائية إذ كانوا على الدوام يقاومون، الأمر الذي حمل السلطات الروسية في العهدين القيصري والشيوعي على الاحتفاظ دائماً بإدارة عسكرية في أراضيهم. مع انطلاقة الثورة البولشفية عام 1917 دخلت المقاومة الشيشانية عهداً آخر. ففي العام 1918 اتحدوا مع الداغستانيين والانغوش وأسسوا جمهورية فيديرالية في الجبال المقيمين فيها. وبما ان الجيش الروسي الأبيض كان يسيطر على أراضيهم فقد قاتلوا هذا الجيش الذي كان يقوده الجنرال دينكين. وكان هذا يقول انه يريد الحفاظ على روسيا موحدة ما يعني انه يريد مواصلة سياسة الضم الروسية لأراضيهم. ولعل البلاشفة كانوا أكثر ذكاء من الروس البيض فوعدوا الشيشان بجمهورية مستقلة مستفيدين من قتالهم للروس البيض. وتمكن البلاشفة من السيطرة على جمهوريات ارمينيا وجورجيا وآذربيجان خلال أسابيع واتجهوا للسيطرة على الشيشان لكنهم لم يفلحوا إلا بعد تجنيد مئات الآلاف من الجيش الأحمر في العام 1921. وهنا ايضاً لم يتم القضاء على مقاومة الشيشان الذين واصلوا الانتفاضات في الأعوام 1924 - 1928 - 1936. وظل البلاشفة يتهيبونهم الى درجة أنهم رفضوا تجنيدهم في القتال ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية. لكن الشيشان بادروا الى تشكيل فرقة عسكرية على حسابهم لقتال النازيين إلا أن هذه الخطوة لم تغفر لهم فاتهمهم الجيش الأحمر بالعمالة للنازيين علماً ان هؤلاء لم يصلوا يوماً الى أراضيهم. ستالين وبادر ستالين، مسلحاً بانتصاره على النازيين في الحرب العالمية الثانية الى انتهاج سياسة تصفوية للقوميات المستقلة، ولاحت الفرصة لتصفية الشيشان الذين تعرضوا لتهجير شامل من دون استثناء وخربت مدنهم وقراهم لئلا يعودوا اليها. حصل ذلك في فصل الشتاء حيث عمد الجيش الأحمر الى حشر شعب كامل في قطارات ووسائل نقل أخرى مسافة 7 آلاف كلم الى أراضي كازاخستان القصية والباردة فمات نصف الشعب الشيشاني على الطريق وألغيت الجمهوريات المستقلة في القوقاز. كان على الشعب الشيشاني أو ما بقي منه أن ينتظر موت ستالين كي يتمكن من العودة الى أرضه تدريجاً في العام ما بين 1956 و1960. لكن رجوعهم لم يكن نهاية المطاف، فقد ظلوا مصدراً للشكوك تسيطر على مناطقهم قوات الشرطة ويتعرضون للقمع حتى العام 1990. في العام 1991 أعلن الشيشان استقلالهم فلم يرق الأمر للروس الذين اتهموا رئيس الجمهورية الشيشانية جوهر دوداييف بأنه زعيم "عصابة مافيا". في حين تنشر وسائل الاعلام الغربية أخباراً عدة عن ولاء المافيا الشيشانية لموسكو. لكن المدهش في هذا المجال هو أن الروس القياصرة والبلاشفة، واليوم جماعة بوريس يلتسن لم يعثروا يوماً على حجة "مقنعة" لاخضاع الشيشان غير القول انهم "جماعة من المتمردين"، أي الرافضين الخضوع للسيطرة الروسية.