إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الشباب يتعرض للخسارة أمام ضمك    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    تعليم مكة : 1485 مدرسة تحتفي بأكثر من 30 ألف معلم ومعلمة في يوم المعلم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته البرية في جنوب لبنان    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    «زلزال الضاحية».. ومصير حزب الله    غريبٌ.. كأنّي أنا..!    ذكورية النقد وأنثوية الحكاية.. جدل قديم يتجدّد    إنجاز في ملف «البطالة»    الشاهي للنساء!    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    درجات أم دركات معرفية؟    معالي وزير العدل    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    مملكة العز والإباء في عامها الرابع والتسعين    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



3881 فلسطينياً يبحثون عبثاً عن منازل للايجار اسرائيل تفرض العقاب الجماعي : عائلات الاستشهاديين بلا مأوى
نشر في الحياة يوم 13 - 09 - 2004

مئات العائلات الفلسطينية، التي فقدت أبناءها في عمليات التفجير داخل اسرائيل او ضد أهداف اسرائيلية في الاراضي المحتلة، تتعرض لعقاب جماعي من دون ذنب اقترفته. فلمجرد ان أحد أفرادها نفذ عملية، يعاقبون الأب والأم والأخ والأخت. يحرمونهم من البيت اولا، بعد هدمه ويمنعونهم من اخلاء الاثاث او حتى الملابس. والفلسطينيون الآخرون يخشون تأجيرهم بيتا بديلا خوفا من انتقام اسرائيلي آخر بهدم البيت.
هي شريحة ليست قليلة من الشعب الفلسطيني. تختلف معاناتها عن معاناة اي فرد فلسطيني آخر يذوق يومياً مرارة الاحتلال وقساوته. تتشكل من بضع مئات من العائلات لكنها تحمل مأساة ربما يعجز القلم عن وصفها:
ان تفقد ابناً شهيداً فهذا لا يكفي الاحتلال.
ان تحرم من ابنها الأسير وتعجز حتى عن لقائه وكلامه، فهذا أمر بات روتينياً وعادياً لدى الفلسطينيين في ظل اجراءات الاحتلال.
ان تعيش لاجئة من مكان لآخر خوفاً من ملاحقة الاحتلال لها فهذا أمر متعب ومرهق لكنه بات جزءاً من حياة الكثيرين.
ان تفقد ثروة العمر بهدم بيتها مع كل ما يحتويه من أثاث وذكريات فهذا ما لم تتوقعه حتى في أسوأ أحلامها، ولكن ما هو اسوأ من هذا وذاك هو انها لا تجد بيتاً يؤويها ولا مسؤولاً يرعاها ولا جاراً يحميها وحتى أقرب الناس اليها يتخوفون من ايوائها، وهذا يزيد من شدة معاناتها. وإن لم يكن الأمر ينطبق على كل فرد من هذه الشريحة فإن الألم لا يختلف بين الواحد والآخر.
3881 فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة فقدوا 607 بيوت لهم كعقاب جماعي لهم بعد تنفيذ عمليات استشهادية ضد أهداف اسرائيلية. يعيشون حالة تشرد باتت انعكاساتها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية تمس حياة كل فرد منهم وتحولها الى جحيم حقيقي.
في هذا التحقيق حاولت "الوسط" دخول بيوت عائلات الاستشهاديين الفلسطينيين التي لم تكن الواحدة منها تعلم بنشاط ابنها السياسي وقراره بتنفيذ عملية استشهادية. فوجدنا الغالبية العظمى من هذه العائلات تعيش تشرداً حقيقياً اقترن بالفلسطينيين منذ العام 1948. وعلى رغم مرور اكثر من سنتين على تشريد عائلات بعد هدم منازلها الا انها لم تتمكن من الاستقرار بعد. فالوعود التي غمرتها في الايام الأولى بعد هدم البيت تلاشت مع الايام، والاوضاع الاقتصادية القاسية أوصلت الواحد منها الى ترديد عبارة "أعطنا خبزنا كفاف يومنا" على مدار الساعة، وأحياناً حتى هذا، لا يتوافر لهم. أما الحالات النفسية الصعبة فهذه لا أحد يتحدث عنها بل لا يعلم بها أحد، أصلاً.
العقوبات الجماعية
سياسة اسرائيل في العقاب الجماعي الفلسطيني انعكست على مختلف وجوه حياة الفلسطينيين اليومية، سواء بفرض الحصار ومنع التجول لمجرد وقوع مواجهات بين فلسطينيين وجيش الاحتلال او قيام أحد سكان البلدة بتنفيذ عملية استشهادية او بمعاقبة سكان حي بأكمله استهدفه الجيش لضبط من أسماهم ب"المُطاردين والمطلوبين". وحتى داخل السجون تفرض اسرائيل العقاب الجماعي على الأسرى اذا ما وقعت مشادة كلامية بين أسير وسجان او بين ممثلي الأسرى وإدارة السجن.
ومع ارتفاع عدد العمليات الاستشهادية، وبالتحديد في اواسط العام 2002 بدأت اسرائيل تلجأ الى عقاب جماعي من نوع أقسى وأخطر أسمته ب"أساليب الردع" في محاولة لترهيب وتخويف الشباب ومنعهم من الانخراط بالمقاومة الفلسطينية وتنفيذ عمليات استشهادية. ففرضت عقاب هدم بيوت عائلات الفلسطينيين الاستشهاديين او نفيهم من مناطق سكناهم متمسكة بقوانين الطوارئ التي وضعها الانتداب البريطاني أثناء استعماره البلاد. وما ضاعف عدد هذه القرارات دعم المحكمة الاسرائيلية العليا التي صادقت تقريباً على كل قرار أصدره وزير الامن السابق بنيامين بن اليعازر وتلاه الحالي شاؤول موفاز، وصادق عليه رئيس الحكومة آرييل شارون بهدم بيت الاستشهادي. وكل المحاولات التي بذلها الفلسطينيون لمنع تشريد الاطفال والنساء والشيوخ باءت بالفشل.
وفي حين شهد العام 2002 عشرات القضايا في المحكمة العليا، وبالتحديد بعد شهر تموز يوليو عندما تقرر هدم بيوت اربعة منازل لعائلتي منفذي عمليتي مستوطنة عمانوئيل وتل أبيب في مخيم عسكر للاجئين قرب نابلس، وتضاعف العدد في العام الماضي، كانت المحاكم الاسرائيلية شبه خالية هذه السنة من قضايا مشابهة بعدما تحولت قراراتها التي تبنّت فيها موقف النيابة والجيش بهدم البيوت الى ضوء أخضر اطلق يد الجيش بحرية لتنفيذ عمليات الهدم التي اصبحت تنفذ خلال ساعات قليلة من تنفيذ العملية التفجيرية، في حين كانت الإجراءات تؤخر العملية لمدة 48 ساعة يمكن خلالها تقديم التماس على القرار او حتى افساح المجال للعائلة لإفراغ البيت من محتوياته. والحديث لا يقتصر على هدم البيوت المحددة فقط، ففي بعض الحالات تكون البيوت قائمة داخل مبنى مؤلف من 16 او 18 بيتاً فإن لم ينسف المبنى كله فإن غالبية البيوت تتعرض لتصدع وتلحق بها أضرار كبيرة.
ولا تقتصر مأساة العائلات الفلسطينية على هدم بيوت عائلات الاستشهاديين بل تشمل كل من تقرر اسرائيل انهم نشطاء في تنظيمات فلسطينية تدرجها ضمن "التنظيمات الارهابية" فهنا لا تكتفي بهدم البيوت بل تعتقل افراد العائلة الذين لا شأن لهم وأحياناً تنفيهم الى خارج أراضي الضفة الغربية او مناطق سكناهم لمجرد علاقة القربى.
"ان تنفينا اسرائيل خارج الضفة فهذا ظلم ولكن مرارة ما نعيشه من دون نفي لا يقل عن ظلم النفي الى قطاع غزة او حتى خارج اراضي السلطة الفلسطينية"، يحدثنا جواد القواسمي والد الاستشهادي فؤاد القواسمي الذي نفذ العملية الاستشهادية بالقرب من الحرم الابراهيمي الشريف في السابع عشر من ايار مايو السنة الماضية. فمعاناته لا تقتصر على هدم البيت وتشريد عائلته المؤلفة من 11 نفرا: "فؤاد استشهد وزياد في السجن واصغرهم 13 عاماً يعاني من حالة نفسية خطيرة تمنعه من الذهاب الى المدرسة بدأت عندما وصلت قوة من الجيش في ساعات الفجر الأولى لاعتقال شقيقه زياد. وتفاقمت مشكلته عندما هدم الجيش بيتنا ووصل الى حال انهيار عندما تم هدم البيت الذي استأجرناه عندما طارد الجيش مطلوبين فلسطينيين".
سنة ونصف السنة وعائلة القواسمي غير قادرة على الاستقرار بعد : "في الليلة نفسها من تنفيذ العملية وصلت قوة كبيرة من الجيش واعتقلتني مع اثنين من اولادي. بقيت قيد الاعتقال لمدة اسبوع وحتى اليوم يلاحقني الجيش بين الفينة والاخرى ويستدعيني للتحقيق من دون اي مبرر منطقي، وكل محاولاتنا للاستقرار فشلت مرة تلو الاخرى. ضربة وراء ضربة".
عائلة القواسمي، مثل كل عائلة فلسطينية، تدرك الاجراءات الاسرائيلية الرامية الى معاقبة العائلة بهدم منزلها. فبعد ساعات من تنفيذ العملية الاستشهادية تجمهر سكان الحي في بيت القواسمي، وبجهود الجميع أفرغ من كل محتوياته وتم نقلها الى بيوت اشقاء والد فؤاد: "في ساعات الفجر داهمت العائلة قوة من الجيش، وكنت لا أزال مع ولدي في السجن، فاقتحمت منزلنا المؤلف من ثلاث شقق ولما شاهدوها فارغة من محتوياتها أصيبوا بحال من الهستيريا فاقتحموا بيوت اشقائي المحاذية لنا وحطموا كل ما طالته أيديهم من أثاث ومحتويات ثم غادروا المكان. ومن دون إخطارنا او حتى إبلاغنا نسفت المتفجرات الشقق الثلاث لتتحول خلال ثوان الى ردم من التراب. هكذا بكل سهولة فقدنا تعب سنوات عمري وعمر أولادي خلال ثوان قليلة. أتعلمين ما يعني هدم الشقق الثلاث"، تساءل القواسمي وأجاب: "يعني كل جهودي انا وأولادي والعمل ليل نهار لبناء البيت فقدناه بلحظات معدودة. لم نعد نملك شيئاً. ولا نستطيع الإقدام على خطوة اخرى لبناء البيت. فنحن اصلاً لا نملك المال للبناء".
مأساة القواسمي لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد ايام من السكن عند اشقائه بدأ معركته الجديدة للاستقرار الموقت في البحث عن بيت للإيجار. وعندما يقال معركة فذلك يعبّر بصدق عن معاناة هذه العائلات . فرفع أسعار البيوت بات تجارة مربحة لدى الفلسطينيين بعدما تحولت سياسة هدم البيوت الى ظاهرة يومية. ولكن في حالة القواسمي فهذه المشكلة لم تكن العائق امامه لأنه اصلاً لم يجد البيت. فلمجرد ان يكون الفلسطيني الباحث عن بيت للايجار من عائلات الاستشهاديين او المُطاردين او المطلوبين لاسرائيل فإنه يشكل "قنبلة موقوتة"، ليس للاسرائيليين بل للفلسطينيين اصحاب بيوت الايجار . فهناك تخوف شديد من مواصلة السلطات الاسرائيلية ملاحقته وهدم البيت الذي يسكنه حتى لو كان بالإيجار، واحياناً لا يقتصر الهدم على بيت هذه العائلة بل البناية التي تشمل بيوتاً سكنية عدة: "طرقت اكثر من باب لكن الذرائع بعدم إمكانية التأجير كانت كثيرة وما كان واضحاً منها هو ان اصحاب البيوت، كما تعاملوا مع آخرين امثالي، رفضوا تأجير البيت خوفاً من ملاحقة الجيش لنا وهدم البيت الذي نسكنه مرة اخرى".
والتخوف الذي عانى منه والد الاستشهادي فؤاد لم يأت صدفة، فقد سبق ان نسف الجيش الاسرائيلي بعد يوم من تنفيذ عملية الحرم الابراهيمي، بيتاً تستأجره عائلة الاستشهادي باسل تكروري نفذ عملية في القدس في بناية مؤلفة من 16 وحدة سكنية، وزادت هذه الحادثة من تخوف الفلسطينيين اصحاب البيوت المعروضة للإيجار فدفعتهم الى عدم إيجار بيوت لعائلات قد تكون اسماؤها مدرجة على قائمة الهدم. أما الذين يغامرون فاستغلوا الوضع ورفعوا أسعار بيوت الإيجار أضعاف ما كانت عليه قبل انتفاضة الاقصى ما منع كثيرين من الاستئجار. وبمثل حالة جواد القواسمي فقد بقي بضعة اشهر يبحث عن بيت للإيجار لكن احداً لم يوافق على تأجيره، حتى ابن عمه: "بصراحة حتى أقرب الناس اليّ قالوا انهم يتخوفون من اسكاني حتى وإن دفعت لهم أضعاف التسعيرة، ولم يكن أمامي إلا مواصلة الضغط على ابن عمي وفقط بعد أيام طويلة من المفاوضات معه وافق على ان استئجر منزلاً يملكه، وجاء هذا بعد التخجيل والضغط من اقارب للعائلة ووجهاء الحي".
وتنفس محدثنا الصعداء... ولكن "يا فرحة ما تمت، فبعد فترة قصيرة من السكن لم نكن قد لملمنا جروح فقدان ابننا وبيتنا بعد حتى جاءتنا المصيبة الثانية، فقد هدم هذا البيت ايضاً ولكن لم نكن نحن السبب".
في البناية التي سكنتها عائلة القواسمي وتسكنها 28 عائلة اخرى، لجأ المقاومان الفلسطينيان عز الدين مسك وأحمد عثمان بدر بعد ملاحقتهما من قبل قوات الجنود الاسرائيليين. وفي ساعات الفجر علم الجيش بمكانهما فوصلت قوة منه الى المكان، وقامت بتطويق البناية ثم أطلقت عيارات نارية فأصيبت عائلة الدجاني وتضرر البيت وبات الخطر يهدد كل سكان البناية. عندها طلب الجيش من الجميع مغادرة المنازل من دون ان يتمكن أحد من اخراج محتوياته او حتى حاجياته الشخصية . وصعد الجنود الى البناية وقاموا بتفتيشها لكنهم لم يعثروا على الفلسطينيين الاثنين، لكنهم كانوا على قناعة بأنهما في البناية فخرجوا منها ومن دون السماح لأحد من أصحاب البيوت بإخراج حاجياته جرى نسفها خلال دقائق لتتحول الى أكوام من الردم تطمر كل المحتويات والذكريات والحاجيات.
هذه المرة إن لم تفقد عائلة القواسمي بيتاً تملكه فقد فقدت كل ما تبقى لها من أثاث ومحتويات تقدر قيمتها بآلاف الدولارات... "بكينا... تألمنا... صرخنا... لكن شيئاً لم يجد نفعاً"، يقول محدثنا الذي لم يستطع حبس دموعه. واضاف: "حتى هذا كنا سنتحمله ولكن ابني الصغير الذي لم يتعد الثالثة عشرة من عمره أُصيب بحال انهيار شديد عندما طوّقت قوات الجيش البناية ودعت السكان بمكبر الصوت للمغادرة. وحالته هذه بدأت بشكل بسيط قبل سنوات عندما وصل الجيش في ساعات الفجر لاعتقال شقيقه وزادت عندما هدموا بيتنا أول مرة ووصل الى حد الانهيار عندما هدموا البيت المستأجر. حالته اليوم في غاية الخطورة لا يستطيع الذهاب الى المدرسة واحياناً لا استطيع شراء العلاج له بشكل مستمر فهو يكلفني شهرياً ما لايقل عن مئتي دولار وأنا لا أجد ما يكفيني لشراء حاجيات ضرورية للبيت بعدما فقدت كل شيء".
العائلة المؤلفة من 11 شخصاً تعيش اليوم في بيت صغير لا يتعدى مئة متر مع عائلة بكرها المتزوج ، وحتى الاسبوع الماضي لم تكن قد نجحت في استئجار بيت.
مركز "بتسيلم"
توجهنا لأكثر من جهة فلسطينية من المفترض ان تكون راعية لمثل هذه العائلات لكننا لمسنا عن كثب معاناة هذه العائلات لما تلقاه من نسيان حتى اهمال على رغم انها تجد نفسها من اكثر ضحايا القضية الفلسطينية. فهي التي فقدت ابنها ومنها من شاهد جثته ممزقة وملقاة في شوارع اسرائيل بعد تنفيذ العملية تجد نفسها اليوم وحيدة لا من يسمعها ولا من يرعاها. لا جمعية تهتم بشؤونها ولا بيت يأويها وحتى القضاء لا يوفّر لها الحق بالحياة الكريمة.
مركز "بتسيلم" بدأ بإعداد تقرير عن هذه الظاهرة لم يستكمله بعد، والمعلومات التي في حوزته تشير الى تشريد 3831 عائلة فلسطينية من 607 بيوت هدمت. من بين هذه البيوت 327 بيتاً لعائلات استشهاديين والبقية جريمتهم انهم يسكنون في بناية مشتركة او بيت مجاور طالته عملية الهدم، وتقول مسؤولة الاعلام في المركز، سهاد ساق الله: "هناك حاجة ماسة لتوعية الرأي العام الاسرائيلي والعالمي على ممارسات الجيش الاسرائيلي داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة. فهناك عائلات تُعاقب بشكل جماعي من دون أي ذنب ارتكبته والمحاكم الاسرائيلية تتبنى موقف الجيش والنيابة من دون اي تردد. فقد رفضت مئة التماس قدمت اليها ضد هدم بيوت ودعمت بقراراتها الحكومة".
وتشير ساق الله الى المعاناة التي تلحق كل فرد من العائلة المتضررة، سواء على الصعيد الشخصي او العائلي وتقول: "من خلال الإفادات التي حصلنا عليها من عائلات هدمت بيوتها انعكست أمامنا المأساة الحقيقية التي تعيشها هذه العائلات سواء من الناحية الاجتماعية او النفسية او الاقتصادية، والمتضررون هم من الأطفال والشباب والنساء والشيوخ. كل فرد يصاب بأضرار كبيرة تعكس معنى العقاب الجماعي. فهذه العائلات تعيش بداية حالة التوتر والخوف ثم بعد هدم البيت تتشرد بعد ان تفقد كل ما كانت تملكه من ذكريات وأغراض شخصية تركتها خلفها تحت الدمار وبعد معاناة البحث عن البيت تضطر العائلة الى تغيير مسار حياتها الذي اعتادت عليه لسنوات طويلة".
أما المؤسسات الرسمية فتعيش في ظل حصار اسرائيلي متواصل وأوضاع اقتصادية متدهورة ولا تجد مكاناً في برامجها لهذه العائلات إلا نها تدرك خطورة الموضوع وإمكانية المساعدة، لكن التنفيذ الفعلي يكون أحياناً بعيداً عن التصريحات والوعود.
عائلات كثيرة تلقت وعوداً من جهات فلسطينية مسؤولة بالتعويض لكنها لم تحصل عليها بعد. منها من وُعدت بألفي دولار وأخرى 1500 دولار، لكن الوعود بقيت وعوداً. أما التنظيمات الفلسطينية التي تتبنى العمليات الاستشهادية فهذه لها شأنها الخاص. فأبو قصي، أحد كبار القياديين في كتائب شهداء الاقصى، قال ان التنظيم حريص على هذه العائلات ضمن الإمكانات المتوافرة له، واضاف: "هذه العائلات تهمّنا جداً ولا ننساها فنتواصل معها وضمن إمكاناتنا نقدم المساعدة لكننا على ثقة بأن كل فلسطيني وكل عائلة فلسطينية تقدّم بفخر واعتزاز ما تستطيع في سبيل القضية الفلسطينية وهناك من قدّم اكثر من استشهادي او اثنين".
وأما المؤسسات الفلسطينية فتقول انها تحاول قدر امكاناتها. في الخليل، مثلاً، يقول محافظ المدينة عريف الجعبري، ان المحافظة ترعى بشكل مباشر العائلات التي تضررت جراء هدم بيوتها سواء كعقاب لها او بذريعة البناء غير المرخص، ونقدم لها الدعم المالي ما بين 1500-2000 دولار ويضيف: "الدول العربية قررت تقديم الدعم لهذه العائلات من خلال صندوق الأقصى الذي أُقيم خصيصاً والبنك الاسلامي في جدة تبنى من جهته رعاية تنفيذ مشروع ترميم البيوت وإعادة بنائها، ولكن هذه الدول لم تف بوعودها ولم تحوّل الاموال الأمر الذي منعنا من القيام بواجبنا على أكمل وجه مع هذه العائلات. وفي ظل الظروف القاسية التي نعيشها نقدم بقدر استطاعتنا".
ويؤكد الجعبري الصعوبات التي تواجهها هذه العائلات عندما تنوي استئجار بيت بسبب تخوّف أصحابه، لكنه يقول أن محافظة الخليل تمكنت من استئجار بيوت لعشرات العائلات الفلسطينية التي هدمت بيوتها بعد تنفيذ عمليات استشهادية.
والمشكلة الكبرى التي تواجهها هذه العائلات ان حالتها المادية لا تسمح لها بإعادة بناء بيت من جديد فالبطالة في ارتفاع مستمر والحصار يحول البلدات الفلسطينية الى سجون والسيولة المالية شبه معدومة، ما يعني ان التشرد سيلاحق هذه العائلات من دون ان يوفّر لها اي طرف الأمل بالمستقبل. ويقول الجعبري ان السلطة على معرفة كاملة بهذا الجانب من المعاناة وبأنها خططت لبناء بيوت بديلة لهم، لكن "كل هذه المشاريع منوطة بالدول العربية ومدى تنفيذ التزاماتها وتحويل الدعم الى صندوق الأقصى. فهناك مشاريع أُعدت لترميم البيوت التي ألحقت بها عمليات الهدم الأضرار وإعادة بناء البيوت المهدومة، ولكن لا يمكن تنفيذ هذه المشاريع من دون اموال الدعم"
القانون الدولي: أوامر الهدم ارهاب دولة
ليس صدفة اثارة الخلاف بين المسؤولين الاسرائيليين عندما اتُخذ اول قرار بهدم البيوت كعامل ردع للفلسطينيين. فبعد القرار الاول الصادر في تموز يوليو 2002 عارض المستشار القضائي للحكومة، آنذاك، الياكيم روبنشتاين، الخطوات الاسرائيلية وفي معارضته هذه ينعكس جانب المخالفة القانونية الاسرائيلية وما يمكن ان تتعرض له اسرائيل دولياً. ويقول المحامي أسامة حلبي ان القانون الدولي يتعامل مع هدم بيوت العائلات الفلسطينية بذريعة الردع الأمني كإرهاب دولة، ويضيف: "تنفذ قرارات هدم بيوت العائلات الاستشهادية وفق المادة 119 من أنظمة الطوارئ لعام 1945 اي منذ الانتداب البريطاني. وخلال سنوات طويلة قدمت طلبات لإلغاء هذه القوانين بعدما بيّنت نتيجة بحث ان هذه الأنظمة لم تُطبّق بتاتاً طوال فترة الحكم الاردني ما يعني ضرورة إلغائها وعدم استعمالها إطلاقاً. واستعمال اسرائيل لها من خلال أوامر هدم البيوت لعائلات استشهاديين هي مخالفة لأن هذه الأوامر بمثابة عقاب جماعي للعائلات التي لا علاقة لها بتاتاً بالعمليات الاستشهادية، وتنفيذها تحت شعار "عامل الردع" أمر مرفوض ومخالف ايضاً للقوانين الدولية".
في القانون الدولي، كما يقول حلبي: "تعتبر الممارسات الاسرائيلية ارهاب دولة لأنها تمس أبرياء وتلغي حقهم الاساسي بالسكن الذي ينص عليه القانون. فما تنفّذه اسرائيل هو انتقام لا علاقة لكل ما تذكره بالردع لأن الحديث يجري عن عائلات من اطفال ونساء ومسنين لا علاقة لهم بأي عمل يقوم به أحد الأبناء كما ان البيت الذي يهُدم هو أصلاً ليس ملكاً للاستشهادي نفسه، وهنا تكون اسرائيل قد مارست العقاب الجماعي، ما يمكن ترجمته بإرهاب دولة".
وتبقى المشكلة مأساة هذه العائلات الفلسطينية التي لم يصلها الدور بعد لمتابعة قضيتها اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً، أما الجانب القانوني فربما بإثارة الموضوع وإنجاز تقرير مركز "بتسيلم" ما يضع قضيتهم على رأس سلم الأولويات ولو من خلال تقديم الملفات الى المحكمة الدولية ك"إرهاب دولة"، فعلى الأقل ربما تتراجع اسرائيل تحت ضغط الإعلام الدولي.
قتلوا طفله وأعاقوه وهدموا بيته
كان الطفل فادي حسن العجلوني، ابن السابعة، يحلم ببيت جديد يضمن فيه غرفة خاصة به ليتخلص من حياة الذل والفقر في البيت الصغير المُستأجر الذي لا يتسع لجميع افراد العائلة. ولم ينحصر الحلم بفادي وحده، فجميع أفراد عائلته كانوا يتمنون كل يوم ان تتاح لهم ظروف شراء بيت جديد.
فادي، لأنه طفل فلسطيني يعيش تحت الاحتلال، لا يحق له ان يحلم. ليس فقط لأن الإمكانات الاقتصادية لا تسمح لعائلته تحويل الحلم البسيط الى حقيقة بل لأن الضغط على زناد بندقية الجندي الاسرائيلي باتجاه طفل فلسطيني باتت أسهل مهمة.
كانت عائلة فادي تعيش في حال مستورة في بيت مستأجر. في أحد الأيام القليلة التي أعلن عن رفع منع التجول انطلق الوالد حسن العجلوني وابنه فادي في السيارة لشراء مواد غذائية للعائلة ولئلا يتأخر الوالد عن موعد اعادة حظر التجول وجد نفسه يقود سيارته بسرعة لم ترق لأحد الجنود الاسرائيليين فلاحقه واطلق الرصاص على السيارة فأصاب الابن ثم انقلبت السيارة وأدى الانقلاب الى قتل الطفل.
"كانت مصيبتنا كبيرة بقتل فادي. كان عائداً الى البيت فرحاً بعد شراء بعض المواد الغذائية التي افتقدناها من البيت بسبب الحصار المتواصل. مع فقدانه لم أعد أفكر لا بشراء بيت ولا بحياة أفضل ففقدان فادي حوّل حياتنا الى جحيم حقيقي".
حادثة فادي وقعت قبل عامين. وبقيت العائلة على حالها الى ان حاول الاصدقاء والأقارب إخراجها من هذه المعاناة بالضغط عليها لشراء بيت والاستقرار فيه. وفي الوقت نفسه سعى أحد المحامين للحصول على تعويضات للأضرار التي تسببت للعائلة بعد اطلاق الرصاص وانقلاب السيارة. وحصلت العائلة على مبلغ ضمن لها القسط الأكبر من البيت فتشجعت واشترت البيت... "بعدما ضمنت عائلتي في بيتنا الجديد في بناية سكنية توجهت الى المستشفى لإجراء عملية جراحية نتيجة الاصابات التي سببتها لي الحادثة التي قتل فيها فادي. توجهت الى المستشفى وكلي أمل بأن أعود بحال صحية أفضل لأواصل عملي وأضمن حياة هادئة لعائلتي، لكن حالتي هذه لم تستمر 48 ساعة. ففي اليوم الثاني من وجودي في المستشفى وقبل إعلامي بنتيجة العملية الجراحية أُبلغت بأن الجيش هدم بيتنا ونسف كل البناية السكنية".
أولاد هذه العائلة اطفال لا يعرفون بعد الاستشهادي والاستشهاديين وهم غير نشيطين في اي تنظيم فلسطيني، فالوالد يعمل ليل نهار لضمان لقمة خبز اطفاله. لكنها كمئات العائلات الفلسطينية شملها العقاب الجماعي الذي نفذته اسرائيل بهدمها بناية كاملة اثناء ملاحقة مطلوبين.
لا حاجة للمزيد من التفاصيل عن وضع هذه العائلة اليوم، فهي لا تختلف كثيراً عن عائلة الاستشهادي القواسمي، لكن مأساتها ان رب العائلة يعيش حالة عجز بسبب الإصابة السابقة، فيما قسط كبير من ثمن البيت هو دين مُلزم بإرجاعه خلال فترة قصيرة في وقت يبحث فيه عمن يسلّفه لشراء الحاجيات الضرورية التي فقدها مع هدم بيته الجديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.