في الوقت الذي اتخذت فيه محكمة العدل العليا الاسرائيلية قرارا يلزم الجيش الإسرائيلي تسليم الفلسطينيين جثث ابنائهم الاستشهاديين، ارسل عدد من الجنود لفتح قبور جماعية. والعديد من هذه الجثث دفنت فيها. فلماذا؟ هل هو مجرد تهرب من قرار المحكمة وتحقير لها؟ أم هو نوع من الانتقام من العائلات الفلسطينية الثكلى؟ ام محاولة تستر على سرقة اعضاء من هذه الجثث؟! لم يستوعب ابو أيهم، الحركة المتواصلة لسيارات الجيش الاسرائيلي التي عبرت منطقة سكناه غرب بحيرة طبريا في ساعات متأخرة من الليل. فالظلام دامس وبيوت قريته وادي الحمام تقع على تلة مرتفعة ولا يمكن الوصول الى المنطقة المنخفضة التي شهدتها حركة الجيش بسهولة. ظن أبو ايهم ان حالة طوارئ او حصار ستفرض على بلدته أو أن عملية حربية خطيرة تجتاح المنطقة وان هذه القوات جاءت لمواجهة هجوم عسكري. فقضى ليلته قلقا يفكر بما جرى. وما ان بزغ نور الشمس حتى وجد نفسه يغادر بيته مهرولا الى تلك المنطقة. المكان هو المقبرة المعروفة بمقبرة وادي الحمام والتي يحتضن ترابها اكثر من سبعين جثماناً من رجال المقاومة الفلسطينية منذ العام 1948، وبشكل خاص في العام 1967، الجثث المدفونة مجهولة الهوية كون الارقام التي وضعت على بعض هذه القبور قبل عشرات السنين صدئت او لم تعد قائمة على القبور. ولم يعد صعباً على أبو ايهم اكتشاف سر تحركات الجيش فقد وجد اربعة قبور من الحجم الكبير طول كل واحد منها حوالي عشرة امتار وعرضه أربعة أمتار، وقد وضعت على كل قبر احجار صغيرة الصرار من دون وضع الأرقام التي تكون الوسيلة لمعرفة مكان دفن كل شهيد. وانضمت هذه القبور الى عشرات وربما مئات القبور التي تشمل جثث فلسطينيين او مقاتلين من العالم العربي مدفونة في اسرائيل. لدى زيارتنا لهذه المقبرة، يظهر بشكل لا يقبل التأويل ان الحديث يجري عن دفن عدد كبير من الجثث قبل فترة قصيرة. وظهر للعيان انها مدافن حديثة العهد ووضعيتها بهذا الحجم وبلا ترقيم تطرح اسئلة حول هذه القبور بشكل يوازي الاسئلة التي يطرحها الفلسطينيون حول مصير الجثث الفلسطينية التي يطالبون اسرائيل باعادتها لذويها، من خلال المحاكم والمؤسسات الفاعلة في مجال حقوق الانسان. فإسرائيل ومنذ السنة الاولى من انتفاضة الاقصى وبالتحديد لدى وصول ارييل شارون الى رئاسة الحكومة الاسرائيلية ونقضه كل ما جاء في اتفاقات اوسلو بين الفلسطينيين والاسرائيليين، باتت تمارس ابشع عمليات الانتقام ضد الفلسطينيين. ولم تتردد في استخدام حتى جثث القتلى بهدف التعذيب النفسي. لقد رفضت تسليم الجثث لذويها، وبالتحديد جثث الاستشهاديين. وحسب ما تتضمنه هذه الاتفاقية فإن الجيش الاسرائيلي يقوم بتسليم الجثث للارتباط الفلسطيني وفق نظام اتفق عليه، لكن الجيش في ظل الحكومة السابقة والحالية لم يتوصل إلى أي اتفاق على هذا الموضوع، ولا يعرف الفلسطينيون حتى الآن ما هو العدد الدقيق للشهداء الذين تحتفظ اسرائيل بجثثهم، لكن مؤسسة قانون لوحدها تتابع احتجاز 50 جثة. ومع الكشف عن هذه القبور الجديدة في هذا التوقيت بالذات وبعدما أصدرت المحكمة الاسرائيلية العليا قراراً يلزم الجيش تسليم الجثث، تبرز شكوك جديدة لدى الفلسطينيين حول قيام الجيش بدفن هذه الجثث التي من المفروض تسليمها بشكل فوري. الجواب في القضاء الجيش الاسرائيلي، وحتى تقديم الالتماس ضده، يحاول التهرب من الحديث عن مصير هذه الجثث. فتارة يزعم في رده على المؤسسات الفلسطينية التي تتوجه اليه بأن الجثث في معظمها موجودة في معهد التشريح في ابو كبير بهدف تشخيصها، وتارة يكتفي بالرد ان الجيش الاسرائيلي يحتفظ بهذه الجثث حتى يتم الاتفاق على اعادتها، ويرفض الحديث عن مكان هذه الجثث. ومع كشفنا هذه القبور الجديدة وزيارتها والتقاط الصور لها توجهنا الى الجيش الاسرائيلي لمعرفة التفاصيل، وكذلك فعلت في ما بعد "جمعية اصدقاء المعتقل والسجين" ومقرها في الناصرة والتي تعمل الى جانب أهالي المعتقلين وأيضاً الشهداء بهدف البحث عن السبل اللازمة لضمان معرفة تفاصيل الجثث أولاً ثم اعادتها الى العائلات الفلسطينية التي يعيش بعضها حوالي سنتين بانتظار وصول جثة ابنها الشهيد لدفنها. لكن الجيش لا يرد بشكل قاطع حول مكان وجود الجثث ويحاول التهرب من الحديث عن تفاصيل الجثث في هذه القبور، ولم يتبق امام المؤسسات الفلسطينية التي تواكب قضية استعادة جثث الفلسطينيين الا انتظار مداولات المحاكم الاسرائيلية للحصول على جواب شاف من الجيش الاسرائيلي. والمحاكم الاسرائيلية ذات نفس طويل. ولا شيء يدفعها إلى الاسراع في انجاز هذا العمل. عقاب صريح تندرج قضية هذه الجثث الفلسطينية التي يرفض الجيش الاسرائيلي تسليمها لأهاليها الفلسطينيين منذ سنتين ضمن قضية المفقودين الفلسطينيين الذين يقدر عددهم بالمئات ويعتقد الفلسطينيون ان معظمهم بات في عداد الموتى. ولكن قضية هذه الجثث بالذات تختلف عن جثث الفلسطينيين المفقودين في الستينات والسبعينات. فهنا يجري الحديث بالاساس عن جثث لاستشهاديين هويتهم معروفة للاسرائيليين، والعائلات الفلسطينية تعرف بالضبط تاريخ يوم استشهاد ابنها. فهناك من استشهد اثناء تنفيذ عملية داخل اسرائيل، وكما هو معروف فان التنظيمات الفلسطينية تعلن عن هوية منفذي العمليات وبالتالي تعلن اسرائيل عن تفاصيله بل تتخذ خطوات لعقاب عائلته مثل هدم البيوت او الطرد من البلدات التي تسكنها العائلة ضمن سياسة اسرائيل "الرادعة" والتي تهدف إلى ترهيب الشباب الفلسطيني من تنفيذ العمليات تحسباً من العقاب الذي ستناله عائلاتهم. ولدى تحقيقنا حول الجثث التي تحتجزها اسرائيل في فترة الانتفاضة وامكان ان تكون هي التي تم دفنها في القبور التي اقيمت حديثاً، وجدنا ان الجيش الاسرائيلي يستخدم بشكل متعمد ومدروس حتى هذه الجثث للعقاب الجماعي مرتين، في المرة الاولى عندما يقرر هدم البيت وأحياناً اعتقال الوالد وافراد من عائلة الاستشهادي للتحقيق معهم، وأحياناً كثيرة اعتقالهم وتعذيبهم. وفي المرة الثانية يحرمهم من حقهم الأساسي بتكريم الميت ودفنه في مسقط رأسه وفي مقبرة العائلة. وتبين ان اسرائيل أعلنت للفلسطينيين صراحة ان قصدها الاساسي من عدم تسليم الجثث هو معاقبة العائلات بوسائل تكون رادعة للآخرين وتمنعهم من التفكير في تنفيذ عمليات داخل اسرائيل أو مقاومة الجيش الاسرائيلي. المحامية حنان خطيب من جمعية قانون والتي تتابع قضايا العشرات من العائلات التي تطالب باستعادة جثث ابنائها، تقول ان ممثل الجيش الاسرائيلي قال لها بكل صراحة أثناء احدى الجلسات في المحكمة العليا التي تبحث الالتماس الذي قدمته الجمعية ضد الجيش وتطالب بتسليم الجثث، ان الجيش الاسرائيلي قرر اتباع سياسة منع تسليم الجثث ضمن سياسة الردع التي اتبعتها الحكومة الاسرائيلية لمعاقبة الفلسطينيين والحد من العمليات الاستشهادية داخل اسرائيل. ويدرك الجيش الاسرائيلي الذي يتبع سياسة هدم البيوت وسيلة ردع للفلسطينيين أنه يولّد معاناة صعبة جداً لعشرات العائلات الفلسطينية، ويبدو انه بدأ يشعر بأن المعاناة التي تعيشها عائلات الشهداء التي لم تدفن ابناءها لا تقل عن معاناة أصحاب البيوت المهدمة. خليل التل، من سكان الخليل، حفر قبر ابنه الشهيد خالد 23 عاماً منذ يوم 10/2/2002 عندما استشهد مع زميله محمد البطاط 20 عاماً في عملية مسلحة في سوق بئر السبع في الجنوب. وفي حينه اعلنت حركة "حماس" مسؤوليتها عن هذه العملية، فيما كشفت إسرائيل اسمي منفذي العملية. وحسب ما كان متبعاً في الجيش الاسرائيلي لدى تسليم الجثث الفلسطينية، فإن اسم كل جثة يكون مرفقاً معها. لكن والد الشهيد خالد يعيش اليوم وضعاً قد لا يمكنه من الحصول على جثة ابنه او تشخيصها مثل بقية الجثث المدفونة. ويقول: "لم نترك أي باب إلا وطرقناه حتى نتمكن من الحصول على جثة ابننا وكذا فعلت عائلة زميله محمد البطاط الذي استشهد معه. ووصلنا الى المؤسسات الفلسطينية النشيطة في متابعة هذه القضية، خصوصاً "مؤسسة الضمير"، ووصلنا الى المحكمة الاسرائيلية العليا لكن شيئا لم يساعدنا في الحصول على جثة ابننا". ولا تنتهِ معاناة والد خالد عند هذا الحد، فقد طلبت منه اسرائيل دفع مبلغ 30 ألف شاقل 6 آلاف دولار بدل الفحص الذي تريد ان تجريه لتشخيص جثة ابنه. ويقول الوالد: "لم يترك الجيش الاسرائيلي أية وسيلة إلا واتبعها لتعذيبنا. نحن نعلم ان الاحتلال هو احتلال وان ممارساته تفوق ببشاعتها كل تصورات البشر، ولكن ان يصل الى حد يتاجر بجثث الشهداء فهذا أمر لا يحتمل. فالجيش الاسرائيلي بنفسه اعلن عن اسم ابننا بأنه هو الذي نفذ العملية وأعلن اسمه عبر وسائل الاعلام الاسرائيلية وهو يدرك تماما ان هذه هي جثة ابننا، فكيف له ان يطلب اليوم هذا المبلغ بحجة اجراء الفحص لتشخيص الجثة؟ انها متاجرة بل اختلاس وسرقة علنية وسط سكوت غير مفهوم". والد خالد الذي ينتظر لحظة وصول جثة ابنه لدفنها لا يزال يصر على ابقاء حفرة القبر على امل ان يجد اي ذكرى لابنه خالد في كل لحظة يريد. لكن بعد الطلب الاسرائيلي بدفع هذا المبلغ الطائل والذي يعتبره تعجيزياً في وقت لا يجد لنفسه عملاً ولا ينجح احياناً في توفير الطعام لعائلته، بدأ يشعر بأن أمله حتى في وجود قبر لابنه بدأ يتبدد، فهو لا يجد المال لدفعه للجيش الاسرائيلي لتشخيص جثة ابنه وبات يدرك ان الجيش الاسرائيلي، باختراقه الكثير من القوانين الدولية من خلال ممارساته في قتل واعتقال ومحاصرة الفلسطينيين، يمكنه ايضاً أن ينفذ سياسته في استمرار احتجاز الجثث كوسيلة رادعة. تصريح للتشخيص المحامية حنان خطيب التي تتابع هذه القضية كانت التقت النيابة العسكرية قبل عقد جلسة المحكمة في محاولة للتوصل الى تفاهم لضمان استعادة الجثث، لكنها لم تنجح في معرفة مكان وجود الجثث بالضبط، والجيش يضع شروطاً كثيرة لتسليم الجثث، فهو أولاًِ يطلب من كل عائلة ان تصل الى اسرائيل لتشخيص الجثة. وكما تقول حنان: "قد يظهر هذا الشرط بأنه سهل، فحتى تصل العائلة فهي بحاجة الى تصريح، والتصريح بحاجة الى الحضور وتقديم الطلب. وهذا يعني مغادرة البيت، ومغادرة البيت باتت مخاطرة ومغامرة، وغالباً تفشل، إذ أن الحصول على تصريح بات اليوم شبه مستحيل في ظل تأزم الأوضاع. كما ان الجيش يضع العراقيل الكثيرة امام حصول الفلسطينيين على تصاريح لدخول اسرائيل. فمن الطبيعي ان من سيصل من العائلة سيكون من جيل الشباب وليس من المسنين الذين يعجزون عن السفر للوصول الى اسرائيل. كما ان وضعية التشخيص بحد ذاتها قضية حساسة جداً قد لا يتحملها المسنون. وهنا تشترط اسرائيل مجيء أبناء جيل معين فوق الخامسة والخمسين من العمر للدخول، ما يحول دون إمكان دخول أحد. أما الأمر الثاني الذي نضعه على رأس قائمة الاسئلة التي نوجهها الى الجيش في بحث الالتماس، فيتعلق بالجانب البيولوجي إذ الحديث يجري عن تشخيص جثث موجودة منذ سنة وسنتين ولا ندري أين هي موجودة واذا ما كانت في ثلاجة أو مدفونة، وفي الحالتين يصعب على العائلة التشخيص". وتضيف المحامية خطيب: "الجيش الاسرائيلي لا يقدم طلبات ثابتة وواضحة، وفي كل مرة يخرج بطلب جديد، حتى انه عندما طلب اجراء فحص التشخيص فإنه طلب من عائلات دفع مبلغ بقيمة 30 الف شاقل، وطلب من عائلات اخرى مبلغ 5 آلاف شاقل ألف دولار وهذا أمر غير مفهوم لأحد، لأن تكاليف الفحص ثابتة للجميع، الا ان اسرائيل تختلق الأسباب والحجج لعرقلة تسليم الجثث، وربما يكون ذلك لأسباب أخطر تتعدى السياسة الاسرائيلية في ردع الشباب وعقاب العائلات الفلسطينية". سرقة الاعضاء إلا أن التساؤلات المطروحة تظل ناقصة من دون التطرق الى حالة تلك الجثث اليوم، والسبب في اختيار هذا الوقت بالذات لدفنها تحت التراب. ففي الاشهر الاخيرة أثيرت في اسرائيل فضيحة كبرى عن معهد التشريح في أبو كبير، إذ كشف احد العاملين فيه من اصحاب الضمائر، ان جثثاً عدة مبتورة الاطراف وغيرها مبتورة الاعضاء الاخرى. فقد كان هناك من دأب على سرقة هذه الأعضاء والتصرف بها من دون اذن اصحابها. وعندما انتشرت الفضيحة، كان الحديث يجري فقط عن جثث جنود في الجيش الاسرائيلي ممن قتلوا في عمليات عسكرية. فإذا كان هذا التصرف تم مع جثث جنود اسرائيليين يهود خدموا في جيشهم، فهل من المستبعد ان يكون العاملون في ابو كبير نفذوا السرقة نفسها في جثث الفلسطينيين؟ الدكتور معاوية حسين، مدير مستشفى الشفاء في غزة قال ل"الوسط" ان جثثاً عدة وصلت الى المستشفى بعد احتجازها في اسرائيل وظهرت عليها بوضوح آثار التشريح. وقام أطباء المستشفى بتشريحها من جديد وتبين انها خالية من العديد من اعضائها. وكما قال الدكتور حسين فإن المستشفى يملك تقارير واضحة حول التصرف غير القانوني بالجثث الفلسطينية التي سيتم بحثها في المحاكم ضد الجيش الاسرائيلي. وهنا يُطرح السؤال اذا ما كانت هذه الجثث هي التي وضعت داخل القبور الجديدة، فلماذا في هذه الفترة بالذات عندما اصدرت المحكمة الاسرائيلية قراراً يلزم الجيش إعادة الجثث؟ هل توجد هنا محاولة لتحقير المحكمة العليا والتهرب من قراراتها؟ ليس هناك شك في ان القضية أخطر من ان تكون سياسة رادعة ومؤلمة للفلسطينيين، وأكثر حتى من سياسة الانتقام. انها نوع من التمثيل الصريح في الجثث. وهذه جريمة اخرى تضاف الى مسلسل الجرائم الاحتلالية ضد الفلسطينيين. فهم لا يكتفون بقتل الفلسطيني مرة واحدة، بل يقتلونه مرتين… ويقتلون أهله ألف مرة