أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    استشهاد أربعة فلسطينيين في غارة إسرائيلية على منزل وسط قطاع غزة    إقبال جماهيري كبير في اليوم الثالث من ملتقى القراءة الدولي    "مجدٍ مباري" احتفاءً بمرور 200 عام على تأسيس الدولة السعودية الثانية    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    التعادل يسيطر على مباريات الجولة الأولى في «خليجي 26»    مدرب البحرين: رينارد مختلف عن مانشيني    ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    رينارد: مواجهة البحرين صعبة.. وهدفنا الكأس الخليجية    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    «الأرصاد»: طقس «الشمالية» 4 تحت الصفر.. وثلوج على «اللوز»    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    200 فرصة في استثمر بالمدينة    سفارة السعودية بواشنطن تحتفي باليوم العالمي للغة العربية    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    وفد «هارفارد» يستكشف «جدة التاريخية»    حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي    ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف الشريف    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    موعد مباراة السعودية والبحرين.. والقنوات الناقلة    وزير الطاقة وثقافة الاعتذار للمستهلك    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    الحربان العالميتان.. !    ضبط (20159) مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    رواية الحرب الخفيّة ضد السعوديين والسعودية    هل يجوز البيع بسعرين ؟!    12 مليون زائر يشهدون أحداثاً استثنائية في «موسم الرياض»    رأس وفد المملكة في "ورشة العمل رفيعة المستوى".. وزير التجارة: تبنّى العالم المتزايد للرقمنة أحدث تحولاً في موثوقية التجارة    الإستثمار في الفرد والمجتمع والوطن    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    مدرب الكويت: عانينا من سوء الحظ    لمحات من حروب الإسلام    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الكويت وعُمان في افتتاح خليجي 26    النصر يُعلن عن تفاصيل إصابة عبدالله الخيبري    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    المؤتمر الإعلامي الثاني للتصلب المتعدد: تعزيز التوعية وتكامل الجهود    طريقة عمل شوربة البصل الفرنسية    حرس الحدود بعسير ينقذ مقيمين تعطلت واسطتهم البحرية في في عرض البحر    محمد بن ناصر يفتتح شاطئ ملكية جازان    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    أمير القصيم يرعى انطلاق ملتقى المكتبات    القبض على شخص في الرياض لترويجه المخدرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي    محمد آل فلان في ذمة الله    ضيوف خادم الحرمين يشيدون بعناية المملكة بكتاب الله طباعة ونشرًا وتعليمًا    المركز الوطني للعمليات الأمنية يواصل استقباله زوار معرض (واحة الأمن)    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يدفعون باهظاً ثمن الانتظار في المخيمات الفلسطينيون في لبنان : مجتمع على حافة الحياة
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 2004

تعقد وكالة الأمم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا مؤتمرها السنوي في جنيف، بدعوة من الحكومة السويسرية. ويناقش المؤتمر هذا العام المستوى التعليمي للاجئين، والوضع الصحي، والاغاثة والخدمات الاجتماعية وبرنامج تمويل المشاريع الصغيرة.
ولتسليط الضوء على الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين وعلى احتياجاتهم، جالت "الوسط" على عدد من المخيمات الفلسطينية في لبنان.
جلس محمد معروف ابن علي معروف ونهاد سرور في حجرة يسمونها صالوناً، كانت صغيرة الى درجة أن نقطة الوضوح في الكاميرا لا تطيعني لألتقط صورة من دون أن أحشر ظهري في الزاوية وألصق رأسي الى جدار أكلته الرطوبة ونشرت عليه بقع غامقة عفنة انبعثت منها رائحة الموت. جلست على كنبة تجاوز طولها طول الغرفة ببضعة سنتيمترات، وحاولت أن أميز ألوانها فاختلط علي الأمر فاعتبرتها بنية اللون تعلوها رسوم ربما كان لونها يوما ما أبيض. فصلني عن محمد طاولة صغيرة الحجم متآكلة القوائم. سمعت عن محمد من هدى ترك التي تعمل في قسم الاعلام في الأونروا وكان ذلك عندما سألتها عن حالات اجتماعية خاصة تعنى بها الأونروا.
ها هو محمد يجلس أمامي شابكاً أصابعه، شاخصاً الي بعينين قويتي النظرات. ورد على سؤالي اذا كان من سكان شاتيلا وعما يشغله في هذه الدنيا. قال: "أنا من دير القادسية قضاء عكا، عمري 15 سنة، وبدي أدرس فلسفة، لأنه هذا الموضوع بساعدني على ما أنا فيه وبكون في ايدي أداة عشان أقدر أقول اللي في قلبي، عشان أفهم ليه الناس ما احترمتش اللي قالوه حكماؤهم وانقادوا لأوامر حكامهم؟ ليه؟ أنا بعرف انه لو حصلت على شهادات عالية مش راح أشتغل، لأنه ممنوع على الفلسطيني العمل خصوصاً في الوظائف الرفيعة وأنا بعرف انه راح أظل عالة على أهلي وعلى الأونروا، وبعرف انه راح أبقى ساكن هون في هذه الدار لأنه ممنوع على الفلسطيني يعمّر دار بدواعي عدم تشجيع التوطين. بس لكن أنا راح أتعلم وأكمل. انتي جاي تعرفي عن أوضاع المخيمات؟ الوضع الحمد لله كلُّه تمام مفش مشاكل".
دخلت نهاد والدة محمد مع اربعة أطفال آخرين باسمة مرحبة، لبست ثوباً أخضر موشى برسوم بيضاء وعلى رأسها منديل أبيض برسوم خضراء. جلست على طرف الكنبة وهمست لصغير لم يتجاوز طوله ذراع الكنبة بشيء ما، وقد ركض بعدها المتر الذي يفصله عن باب الدار الخارجي وكأنه سيقطع باحة متسعة الأرجاء، ثم ابتلعه ضوء من شمس بخلت بدفئها على كنبة رطبة تهدد من يجلس عليها بنزلة صدرية. انتزعت نفسي من أحلامي بالشمس وقلت إن الأونروا ستعقد اجتماعها السنوي للدول المانحة، وسيحاولون اقناع الدول بأن الشعب الفلسطيني بحاجة للمساعدة.
وسأل محمد: "وإنت شو شايفة؟ شفتي بيتنا؟ شفتي مدارسنا؟ شفتي شوارعنا؟ شو رأيك؟ إحنا بحاجة واللا لأ؟
جاء صوت المذياع من الغرفة الداخلية: ان "خطة الفصل" التي عرضها شارون في استفتاء داخل الليكود تجهض أي أمل بقيام دولة فلسطينية. فيرد محمد على المذيع: "الليكود لا يقرر مصير الشعب الفلسطيني".
وسألت محمد ماذا يحدث لو لم تقم فلسطين.
فتح محمد عينيه متسائلاً: "وشو بصير لو أزلنا أميركا؟ وشو بصير لو أزلنا الصين؟ ها؟ شو بصير؟ أنا بسأل حالي دايماً ليه الإنسان أو شو بيكون الإنسان اللي بيلاقي سعادته بإبادة أخوه الإنسان؟ كثير مرات بسأل هذا السؤال لأولاد بيتقاتلوا في الشارع وبقول الواحد للثاني بدي أموّتك. بسأل اللي بيهدد، وبتكون مبسوط لو مات؟ بتنتهي مشاكلك في الدنيا بدون وجوده؟
الرجاء عدم التدخين وشكراً.
ضرب الحاج أبو هشام كفا بكف وقال "شو اللي صار يا عالم لوصل حالنا الى أسفل الدرك شو اللي صار يا عالم يا هو… شو اللي صار يا ناس؟". رفع الحاج يده الى ذقنٍ مهذبة أمسك بها وقال: "هذه الذقن البيضاء شاهدة على أيام سوداء وأيام أسود من سودة، والله اذا بتهدأ الحال في لبنان بتولع في غزة، واذ بتهدأ الأحوال في غزة بتولع في رفح، من رفح الى الفالوجة الى افغانستان كله عدو واحد بستعمل ذات العميل، وإحنا قاعدين منقول ويا جبل ما يهزك ريح! اختصرت القضية الفلسطينية في شخص، واختصرالعالم العربي في أشخاص، هيك اختفت الشعوب العربية؟! شو اللي صار ما بعرف. بدك تفهمي ياعمي على السياسة العالمية؟ لازم تفهمي السياسة والقضية الفلسطينية واللي ما بيفهم هذه القضية ملوش علاقة في السياسة. وأقلّك أحسن من هيك؟ اذا بتفهمي ليش مخيم البداوي هيك كمان بتفهمي شو اللي صاير في العالم".
"ولكم تو فينيس لاند"
خرجت و أبو مراد لوباني الى أزقة مخيم البداوي الغارقة في مياه المجاري، وعندما وصلنا الى زقاق ضيق قال أبو مراد: "هذا زقاق "ون وي هيومان بين" ثم قهقه لكن حنجرته لم تساعده على المواصلة فاضطر أن يختصر القهقهة بما يتناسب ونزلته الصدرية التي أثقلت على رئتيه المعبأتين بدخان علبتي سجائر. وقفنا على باب الزقاق بانتظار عبور امرأة لامست كتفاها جدران البيوت الزنكية، باعدت بين قدميها وتركتهما تتحسسان حافتي القناة الجارية بينهما، سمعت صوت شاب من على السطح كان يراقب قلقي من عبور الزقاق فرحب بي بسخرية وقال: "ولكم تو فينيس لاند". في تلك الأثناء وصلت السيدة الى حيث كنا وقالت بعد أن طرحت السلام وكأنها بدأت المحادثة منذ فترة: "ها يا أبو مراد، قالولي انك جايب ناس تزور المخيم والله لفيت عليكم، بدك تجيبهم على بيتنا خليهم يشوفوا بلكي ربما على الله أجا دورنا وصلحولنا السقف أو أعطونا من مرة دفعة واحدة الدور للعمار؟ ومن دون أن تنتظر أي إجابة أمسكتني من رسغي وشدتني الى الوراء ثم على اليمين باب أو بابين وفتحت باباً وجدت نفسي في غرفة النوم أو غرفة تمدد فيه رجل ما أن سمع الصوت حتى جلس في فراش بالٍ ولا أدري إذا كان يدخن وهو ونائم أم أنه أشعلها بلمح البصر؟ ولكن على رغم الظلام المطبق لم ألاحظ اشتعال عود ثقاب! سعل الرجل بشدة فحولت وجهي الى الجهة الثانية لأتفادى لعاباً طائراً نحوي لا محالة، فرأيت مرحاضاً من تحت ستارة ففهمت أن حالة الاختناق التي حلت بي تكمن هنا وليس هناك من الفراش، وبلحظة هرولت خارجة فلحق بي أبو مراد وقال: "مثل هذا البيت يوجد 95 بيت زنك آخر في البداوي وحده، تحاول الأونروا البحث على تمويل لها منذ عشرين سنة. لكن المال غير متوافر والأرض غير متوافرة. إن اللاجئين في لبنان هم من الاكثر حرماناً، لأنهم لا يستفيدون من الخدمات الحكومية إلا بشكل محدود، ويتعين عليهم الاعتماد بشكل شبه كامل على وكالة الغوث الأونروا، وذلك من اجل الحصول على التعليم الأساسي والخدمات الصحية والغوثية والاجتماعية. وتبقى مسألة دخول مواد البناء مرهونة بالحصول على موافقة السلطات العسكرية، وهي موافقة لا تمنح دائماً، إضافة الى البطالة، وتحريم حقوق الميراث على الفلسطينيين. هناك بعض اللاجئين من الذين أنعموا عليهم بالجنسية عام 1994 لكن البعض يحاول اسقاط الجنسية اللبنانية. وضع اللاجئين في لبنان أسوأ من وضع اللاجئين في سورية، لأنه في سورية بإمكان اللاجئ الاستفادة بصورة كاملة من الخدمات الحكومية، مثل التعليم والصحة والإسكان، والمرافق والأمن.
توقف أبو مراد أمام مبنى ناصع البياض بدا غريباً في بياضه وارتفاع طبقاته، قال أبو مراد: "هذا حي الشانزيليزيه الخاص بالمخيم، هؤلاء السكان كانوا يسكنون بيوت زنك مثل الذي رزيته قبل قليل".
تطل سيدة برأسها علينا من النافذة وتقول: "إمسك الخشب يا أبو مراد إمسك الخشب، مع إنُّه كُلُّه بفضلكم بس لكن يعني بتعرف الحسد ما بيعرف صاحب".
من رفح الى النهر البارد
هبّ مدير مخيم النهر البارد لاستقبالي بحرارة ومودّة قائلاً :حظك مش كل ولا بد، المخيم مقلوب فوقاني تحتاني عشان بسبب مشروع الصرف بس لكن أهل المخيم مبسوطين، بلكي علّ وعسى على الله يرتاحوا الشتوية الجاي، بس يعني بتشوفي المخيم على طبيعته، مش بالضبط على طبيعته لأن الوضع في الشتاء غيره في الصيف".
كان علينا السير على أطراف حفر الصرف، ولئلا نسقط فيها تشبثنا بحواف النوافذ المطلة على القناة. وكان بالإمكان النظر الى داخل البيوت، ومعرفة نوع الطعام الذي يطهى سواء من خلال الرائحة أو من النظر الى سلة أو بالأحرى تنكة المهملات، هذا اذا كانت النافذة تطل على المطبخ. أما إذا كانت مطلة على غرفة المعيشة فيمكن متابعة الأخبار في رفح أو الفالوجة أو النجف. على رغم الاعتذار عن تطفلنا بإدخال رؤوسنا الى داخل البيت، إلاّ أنهم كانوا قد اعتادوا هذا التطفل، فتراهم أحياناً ينضمون الى حافة النافذة ويتبادلون معنا أطراف الحديث. أو يدلّوننا على أفضل الأمكنة للتشبث لتفادي السقوط. أطلت سيدة علينا لتساعدنا ولكنها رأت أبو عماد فسألته عن موعد دورهم للبناء. وانتهزت فرصة محاولة أبو عماد بالسيطرة على توازنه وقالت شيئاً عن ألواح الزنك البالية، لكن صوت التلفزيون غطّى على صوتها وصوت المذيع وهو يقول إن سجن أبو غريب سيدمر ومعارك طاحنة تدور في مدن جنوب العراق. تحاول السيدة رفع صوتها لكن صوتها اختلط مع الخبر الذي أعلن عن سقوط جنود اسرائيليين وسقوط 85 جريحاً فلسطينياً. وبدلاً من أن تخفض من صوت التلفاز زعقت على أبو عماد: "ما إنت شايف هذه ألواح الزنك بطقطق طول الليل وهذا بالشتا والله ما بينشفلنا فراش وهذا الولد الصغير طول الوقت بيعن يئن من الربو وأنا عندي القلب والضغط والسكري، دخيلك يا أبو عماد تقلهم للأونروا عن أحوالنا".
علا صوت شاب من الداخل يقول: "والله بقولوا انه الدنيا قايمة في رفح، ومدير الأونروا عاد من بيروت على عجل وبستغربش انه الاسرائيلية هدموا البيوت على أصحابها".
تلاحقنا السيدة برأسها وتقول لأبو عماد: "بيطقطق الزنك والله بطقطق والأولاد ما يعرفوا يناموا".
نظرت الى أبو عماد الذي استمر في سيره معتقداً انني وراءه، كان ينقل قدمين ثابتتين من مطب الى آخر من دون تردد ولم يعبر بأي شخص جالس في دكان أو متكئ على حافة نافذة من دون طرح السلام، وأحياناً يثني على السلام بالسؤال عن الأحوال عن كل شخص بالإسم، وإذا كان العابر طفلاً يسأله أن يوصل السلام الى الوالد أو الوالدة، ولا يتردد بأن يربت على كتف صغير مستعملاً مهارات المقاتلين اليابانيين للحفاظ على توازنه. وأخيراً انتبه الى أنه يسير وحده فوقف من دون أن ينزعج منتظراً للحظات، ثم غير رأيه ودق على أحد الأبواب منادياً على أبو مصطفى، ثم أشار لي بيده أن ألحق به الى الداخل. فأسرعت وراءه لاهثة كي لا أتوه عن الباب الذي لا يختلف عن الأبواب الأخرى. ستة أبواب ووصلت الى باب يقود الى درج يوصلنا الى طابق تحت الأرض. وصلت الى باب مفتوح على صالة معدومة الضوء، لحقت بالأصوات المنبعثة من غرفة لاح الظلام أكثر كثافة، فتلمست الأرض بحذر حتى وصلت الى حيث يوجد أبو عماد الذي كان يحاول إيقاظ رجل ناداه بأبي مصطفى.
وفجأة غرقت الغرفة في ضوء ساطع أشعلته عجوز صغيرة الحجم رقيقة العظام سعيدة الملامح. نهض الرجل النائم، تعرف على أبي عماد فاحتضنه بحرارة نشرت في أرجاء الغرفة دفئاً طرد سكون المكان. انزلق أبو مصطفى من على الفراش فبانت ساق له مربوطة بالجبس. شرح بسرعة أنه سقط سهواً عندما أراد التشبث بحافة في الشارع اعتاد على وجودها ولكنهم أزالوها من دون علمه فسقط متدحرجاً على الدرج. ثم تحول عن قصة ساقه الى هذه الزيارة المفاجئة، معبراً عن ابتهاجه بمد يديه ممسكاً بيدي وكأنه يعرفني أنا الأخرى، وحاول الوقوف فسارعت العجوز السعيدة وناولته عصا للاتكاء عليها، وقالت بهمس: "زارتنا البركة"، ثم تركتنا بصحبة أبو مصطفى الذي قادنا الى غرفة وثيرة الأثاث، اعتلت جدرانها صور كبيرة احتلت حائطين. أما الجدار الثالث فاحتلته مكتبة رصت فوقها كتب ضخمة وعلى رغم قِدَمِها فقد كانت خالية من الغبار.
الاونروا وشارون وهانسن
عندما رآني أبو مصطفى أنظر للصور، قال: "هذا الله يرحمه استشهد، وهذا في ليبيا الله يرضى عليه، وهذا محمد في الدانمارك الله يحفظه، وهذه الله يصبرنا على فراقها، وهذا مصطفى هون هنا في المخيم الله يديمه لألنا ولأولاده". ثم تحول عن الموضوع وقال: "أهلاً وسهلاً أهلاً وسهلاً، ها يابا جاي من جنيف؟ بيقولوا في مؤتمر في جنيف للدول المانحة، والأونروا بتطالب بأربع ميت مئة ألف دولار، بعد اللي صار في رفح وغزة بدهم قدهم على مرتين، صحيح واللاّ أنا غلطان؟ والله يابا الأونروا بتساعد من هون وشارون بهدم من هون. شفتي أحوال أهل المخيم يابا؟ كانوا متأملين بزيارة هانسن كل الخير، مع إنُّه دانمركي لكن إنسان بيحبنا قولي هم الدانمركيين مكنوش عاطلين معانا هم والسويد والنرويجية وسويسرا، هذا يابا لأنه ولا مرّة استعمروا بلاد غيرهم ولا سرقوا خيرات بلاد الناس. شوفي يابا خذي وقيسي بريطانيا لأنها استعمرت العالم، بتلاقيها أوسخ القائمة، وفرنسا بتيجي وراها وايطاليا وهولندا على طول من بعدهم، وأما أميركا فهذيك قصة لحالها، لكن أهل كربلاء والنجف والفلوجة مْطَلْعين عينيهُم، والخير لقدام يابا، شعوبنا بدها الحرية يابا وبدها الديموقراطية، أي هو يعني بوش وبلير مقطعين الديموقراطية من ذيلها! طيب ما يعملوا حكامنا مثلهم؟ شو ناقصهم؟ لا ناقصهم مال ولا أحمال، لكن إحنا قتلنا الجهل. الأمية مش عند شعوبنا وبس، الأمية عند حكّامنا أولاً،لأنه الأمية مش بفك الحرف وبس. شوفي تقلك وإسمحيلي كثر كلامي يعني أنا فلاح إبن فلاح وشعبنا كلو فلاح مسالم، لا كان عنده سلاح ولا كان بدّو يقاتل، كان عندهم شوية بواريد صيد مش أكثر. لكن العدواني عدواني، بعثولنا اليهود من عندهم لأنهم ما بدهم إياّهم وبعد ما ذبحوا منهم لشبعوا، هذول أجوا يقاتلوا قبل ما نحكي معهم، قبل ما نعرف شو بدهم من عندنا. ولليوم بقاتلوا وبِقَتْلوا وما بوقِّفْهُم إللاّ اللِّي ربّاهم! خذي على سبيل المثال الولد الشقي بيظل يتشاقى ويشاكس ويصَعِد وصَعَّد تنُّو حتى يلاقي حدا يْوَقْفوا، أصلاً هو تِعِب من المشاكسة لكن مش قادر يوقف. شوفي شارون من مذبحة صبرا وما وقف ولا حدا قالُّو وقف فبالنتيجة ما وقَّفْ".
توقف أبو مصطفى عن سيل الكلام ونظر الى صورة صغيرة الحجم بالأبيض والأسود لشاب وسيم، وقال مبتسماً: "هذا محسوبك أنا لما كنت شباب، لكن راح العمر لما راح ابني في عملية في افريقيا، ومن يومها والشيب دب بالراس وبهذه اللحية"، ثم أغمض أبو مصطفى عينيه وهمس: "معليش كلُّه فداك يا وطن. فلسطين حلوة يابا، صفورية بلدنا جنب الناصرة. كان في مركز قيادة في صفورية، والله الأرض سليبة وما بترجع من حالها".
حالة اجتماعية صعبة
نور حسن حريري أصعب حالة اجتماعية في مخيم الرشيدية، قالت هنادي العاملة الاجتماعية وهي تنظر في الملفات التي أمامها بعينين خضراوين زينتا وجهاً خالياً من أي زينة، ثم تابعت وهي ترفع خصلة من شعرها انزلقت من وراء أذن صغيرة الحجم "والد نور في السجن، ووالدتها تعمل في التنظيف بشكل متقطع، لأنها تعمل فقط داخل المخيم لأن الخروج من المخيم صعب ومكلف، هذا إن وجدَت الفرصة. نور بنت صعبة ومشاكسة وبذيئة اللسان ومزعجة في البيت والمدرسة. نور في الصف الأول تذهب الى مدرسة الأونروا، وتخصص الأونروا لها مبلغاً صغيراً لكن غير ثابت، لأنه متعلق بالميزانيات المتوفرة لهذا المجال. لنور شقيق أصغر منها بعام يعني عمره خمس سنوات أو أقل".
سألت هنادي عن أسباب صعوبة التعامل مع نور على صغر سنها، ومع انتهائي من السؤال سقط التحفظ الذي وضعته هنادي وقالت دفعة واحدة "مش عارفين نتعامل معها، مجنِّني إمها وبتضرب أخوها الصغير لأنه محبوب أكثر منها، لأنه هادي ووديع، مجنِّني المعلمة في المدرسة. وكمان بتروح على مؤسسة أطفال الصمود، حاولوا إيجاد كفيل ليكفلها، بتعرفي عندهم في الجمعية عدد كبير من الأطفال أحوالهم المادية جداً صعبة بسبب فقدان الأب أو الأم أو أحياناً الأب والأم، فبالتالي بعيشو، مع أحد الأقارب جد أو جدّة، والكفيل هو فاعل خير يتبرع لهذا الطفل بمبلغ شهري بقيمة 35 دولاراً، وهم والطفل براسلوا الكفيل، الطريقة جيدة لكن قضية الإعلان عن المنهج محدودة، معتمدين على طريقة الإعلان من شخص لشخص، فنور ما زالت في الانتظار هي وأخوها ما فيش لا يوجد حظ، لما بتسكر الدنيا بتسكر من جميع الجهات".
في مدرسة القادسية سألت عن نور، فوجدتها طفلة آية في الجمال، سمراء الملامح عسلية العينين، عقصت شعرها المجعد ذيل فرس فبدت رقبتها النحيلة تشي بجمالٍ واعد. جلست نور أمام مكتب مديرة المدرسة مندهشة من هذا الاهتمام المبالغ فيه وغير المتوقع، واحتارت من هذا الكم من الأسئلة التي وجهت لها، بدل الأوامر والنصائح التي اعتادت عليها. وشعر الجميع وكأن من واجبه المساهمة بالأسئلة التي كانت في غالبيتها لا معنى لها، من المدرسات المنتظرات حصصهن والمديرة، الى عدنان الذي رافقني في مشواري، الى خليل السائق .
ومما زاد الطين بلة عندما حاولتُ التدخل بأن يكفوا عن توجيه الأسئلة ثم سؤالي لها اذا كانت ترغب في الخروج من المكتب لنتحدث، عندها أرخت عينيها وجمدت في مكانها بصمت. وكأنني رأيت ستائر من الفولاذ قد أسدلت، فسكت وفهمت أن نور أقفلت الأبواب. عندما رأت المديرة هذه الحال بادرت بإمطار نور بالمديح، على أنها ذكية عندما تدرس في البيت، وأن بإمكانها أن تكون من الأوائل لو أرادت. ثم تابعت، "نور بحاجة الى تشجيع، لكن أمها مشغولة والعاملة الاجتماعية لديها عدد من الحالات يفوق طاقة الإنسان، والمشاكل تزداد مع ازدياد البطالة، ونور هي نتيجة لوضع عام يجتاح المخيم".
ونور بالذات بحاجة الى نشاط جسدي رياضة وسباحة، وفي المخيم هذه النشاطات شبه معدومة، الأونروا لا توجد لديها إمكانات خارج إطار النشاط التعليمي، بقيت منظمة أطفال الصمود ولكن بشكل محدود وعلى نطاق ضيق. لأن المشكلة الأساسية بما في ذلك الأونروا، هو المكان، والمدارس مشغولة، في الصباح المدرسة للصغار وبعد الظهر للكبار، هذه الطريقة في التعليم غير موجودة في العالم إلا في مدارس الأونروا، والمنهج الدراسي خال من الرياضة أو الرسم أو الموسيقى.
الزهور لا تعيش في شاتيلا
جلست سحر الشيخ وراء مكتبها الصغير في مخيم شاتيلا وجلس أمامها رجل في الأربعينات، قالت سحر للرجل: "هذا المشروع لن يعيش طويلاً. محل زهور؟ مين بدو يشتري زهور؟ وإذا ما بعت يوم أو يومين بذبلوا! وما في ثلاجة تحفظها، وإذا كان في ثلاجة الكهرباء بتقطع كل يوم والثاني". أخذ الرجل نفساً عميقاً وقال: "طيب بلاش محل زهور ساعدونا نفتح محل سمانة". تتنهد سحر وتقول: "في كل الأحوال المسؤولة مش موجودة، وأنا هاي مش شغلتي، ومحل سمانة لشو؟ مفي يوجد في الشارع الواحد عشرين محل سمانة، لليش كمان محل سمانة؟ افتحلك محل خردة هيك على الأقل الخردة بتخربش ولا بتعفن، وبيوت المخيم قايمة على الخردة وعليها طلب، عاود وفكر شوي بالموضوع، لأن الأنروا بتمول بالكثير هاي اذا كان المشروع - منجرة - ثماني آلاف دولار، ولازم نتأكد إنو المشروع مربح عشان تسديد القرض".
خرج الرجل مكسور الخاطر وقال: "بخاطرك يا ست سحر".
التفتت سحر نحوي وقالت بأسف: "يعني بيجولك يأتون بمشاريع فاشلة من أصله، إذا واحد فتح محل حلو كلهم بدهم يفتحوا محل حلو، وإذا فتح واحد محل عصير كلهم بدهم يفتحوا محل عصير وهيك على هالعدالة هكذا وهلُمّ جرا شو بتقترحي أقلهم ؟ كيف أرد عليهم؟
وكالة الأمم المتحدة لاغاثة اللاجئين الفلسطينيين
تأسست الأونروا عملاً بقرار الجمعية العامة الرقم 302 د-4 المؤرخ 8 كانون الاول ديسمبر 1949. واستهلت نشاطها في 1 أيار مايو 1950، وبدأت في الاستجابة للاحتياجات الفورية لنحو 8800000 لاجىء فلسطيني في المنطقة . وعلى مدار العقود الخمسة الأخيرة توسعت الوكالة لتصبح من أكبر برامج الأمم المتحدة في المنطقة، حيث تستخدم نحو 22 الف موظف منهم المدرسون والعاملون في المجال الصحي، والاخصائيون الاجتماعيون وغيرهم من مقدمي الخدمات الأخرى. وتتولى الوكالة تشغيل حوالي 900 مرفق تقدم الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية والغوثية، الى جانب التمويل المحدود والمشاريع الصغرى لمصلحة عدد متزايد من اللاجئين الفلسطينيين الذين أصبح عددهم أكثر من أربعة ملايين لاجئ يقطنون في أربعين مخيماً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.