خلال مؤتمر خاص بواقع الإعلام الأميركي عقد في مدينة لاس فيغاس قبل فترة، حرص الجنرال الأميركي المتقاعد والديموقراطي ويسلي كلارك من الحزب الديموقراطي على مخاطبة ممثلي كبريات الشبكات الإعلامية الأميركية ودعوتها الى توخي الحرص في نقل الحقيقة إلى الأميركيين. أسهب كلارك في الحديث عما اعتبره ضرورة أن يعي الأميركيون ما يجري في العراق وفي العالم وخلفيات تورط الإدارة الأميركية في كثير من السياسات الفاشلة التي انعكست بشكل كارثي على العالم بأسره. بدا كلارك وهو يناشد ممثلي وسائل الإعلام الأميركي مساعدة مواطنيهم في المعرفة متحمساً وقلقاً في آن. هذه المناشدة التي أطلقها كلارك ويرددها كثيرون غيره لم تأت من فراغ، فهذا الجنرال الذي قاد حملة عسكرية ناجحة في كوسوفو، فيما فشل في تحقيق طموحه بالوصول إلى البيت الأبيض، يدرك كم أن إدارة الرئيس الحالي جورج بوش استفادت من طغيان مفاهيم السوق والربح على صناعة الإعلام الأميركي، إذ تكاد التغطية الموضوعية المستقلة للأحداث أن تختفي من وسائل تعد المصدر الأساس في تلقي المعلومات لدى الأميركيين. فالانحياز للسوق بات المحرك والهدف والبرامج السياسية والإخبارية على شاشات كبريات المحطات الأميركية أصبحت منافساً قوياً لبرامج تلفزيون الواقع والبرامج الترفيهية اجمالاً. اليوم، برز مفهوم جديد للأخبار في أميركا هو infotainment أو الترفيه المعلوماتي، فالأخبار أصبحت مجرد سلعة غالباً ما تفقد قيمتها بصفتها معلومة حيوية لها وظيفتها المعرفية إزاء متطلبات السوق، إذ تحرص شبكات التلفزة الأميركية على ضمان العلاقة بين المشاهدين والمعلنين، وبالتالي فإن الشاشات الأميركية مغرقة بكم هائل مما يعرف بHead line news وهي الأخبار المقتضبة الخالية من أي خلفية خصوصاً تلك المتعلقة بالأحداث الدولية، إذ لا يزال الأميركيون أكثر انشغالاً بأخبارهم المحلية. يزيد على ذلك عدد كبير من المذيعين الذين يقدمون معلومات سريعة ومن دون أي عمق عن الأحداث، لكنهم يحرصون في المقابل على إبراز موقف ما، كاللعب على العواطف الوطنية لجذب المشاهدين أو الاستفادة من الكوميديا السياسية للسخرية من الحدث وبالتالي تسلية الجمهور وجذبه. إنه واقع تعززه حقيقة أن 30 في المئة من الأميركيين يحصلون على معلوماتهم الإخبارية والسياسية من البرامج الترفيهية وتحديداً من أشهر المقدمين لهذه النوعية من البرامج، أمثال دايفيد ليترمان وجاي لينو. ولا يخفي الصحافي والكاتب المعروف تشارلز لويس، الذي عمل في شبكة "سي بي اس" الأميركية لأكثر من عشر سنوات قبل أن يستقيل، استياءه وإحباطه من تهافت الإعلام الأميركي على تصوير تشنجات الناس ودموعهم بصفتها مادة درامية تستدر تعاطف المشاهدين وبالتالي أموال المعلنين. فالبرامج الإخبارية اللاهثة وراء الربح باتت تحت ضغط كبير من أجل تحقيق نسبة مشاهدة أكبر وذلك من خلال تحويل الأخبار إلى مواد تطغى فيها الحساسية العاطفية، بالتالي يتم التركيز على القصص التي تستثير مشاعر المشاهدين. فأخبار مثل قضية أو جي سيمبسون أو الطفل الكوبي إليان غونزاليس كانت طوال اشهر محط الاهتمام الأول لدى الشبكات التلفزيونية لتحقيق الربح. هذا الواقع إضافة إلى تجارب عاشها من منع بث بعض المعلومات والتقارير هي ما دفعت بصحافي مثل لويس إلى الاستقالة وتأسيس مركز مهمته تقصي الحقائق سواء في الإعلام أو في السياسة. ولا يخفي لويس اشمئزازه من حجم الأموال التي تنفق في السباق الرئاسي الحالي بين المرشحين الديموقراطي جون كيري والرئيس الجمهوري جورج بوش. ويعتبر هذا الصحافي الخمسيني أن المال يكاد يحتكر السياسة والإعلام في أميركا اليوم. واللافت أنه على رغم الكم الهائل من المحطات التلفزيونية على امتداد الولاياتالمتحدة فإن لويس لا يعتبر أن هناك برنامجاً له صدقية فعلية على الشاشات الأميركية باستثناء برنامج "ستون دقيقة" على شبكة "سي بي اس"!. ومن المعلوم أن هذا البرنامج هو الأقدم في المحطات الأميركية وكشف العديد من الفضائح آخرها فضيحة تعذيب معتقلي سجن أبو غريب التي هزّت صورة الإدارة الأميركية والولاياتالمتحدة أمام العالم. يسخر لويس من أساليب مشاهير الإعلاميين الأميركيين في تقديم الأخبار أو البرامج السياسية. ففي أحيان كثيرة، حين يتعلق الأمر مثلاً بالعراق، يقدم كثيرون من الصحافيين والإعلاميين معلومات مغلوطة، وغالباً ما يحدث ذلك بسبب ضآلة معلوماتهم عن الشأن العراقي أو بسبب الاكتفاء بما تبثه الإدارة الأميركية بوصفه حقيقة مطلقة. وحتى الآن لا يزال عدد ليس بقليل من الإعلاميين والصحافيين الأميركيين لا يجيدون التمييز بين السنة والشيعة في العراق وواقع كل طرف علماً أن التورط الأميركي في العراق عمره أكثر من سنة ومرشح للمزيد. هذا الأمر لا يثير حفيظة بعض المسؤولين في وسائل الإعلام، إذ يجيب صحافي يعمل في محطة محلية عند سؤاله عن مثل هذا القصور، بأن المشاهد الأميركي لا يحتاج لأكثر من معرفة أن في العراق ثلاثة أطراف حسب رأيه: سنة وشيعة وأكرادا. تتعقد الصورة أكثر حين يؤخذ في الاعتبار ذلك الانقسام الكبير الذي تشهده الولاياتالمتحدة بين تياري المحافظين والليبراليين، والذي ينعكس بشكل لم يسبق له مثيل في السباق الرئاسي الى البيت الأبيض. هذا الواقع السياسي الاقتصادي عززته الإدارة الأميركية الحالية بمجموعة من الأخبار والمعلومات المضللة التي سبقت الحرب على العراق ما حول الكثير من الشبكات والصحف الكبرى إلى بوق دعائي، بوعيٍ أحياناً ومن دون إدراك أحياناً أخرى. وما إقرار صحيفة عريقة مثل "نيويورك تايمز" قبل أسابيع قليلة بأن تغطيتها للمرحلة التي سبقت الحرب على العراق لم تكن دقيقة ولا نقدية كما ينبغي سوى اعتراف بما انساق إليه الإعلام الأميركي. ففي افتتاحية اعتذارية الشهر الماضي أعلنت "نيويورك تايمز" أنها فشلت في التأكد من صدقية بعض المعارضين العراقيين السابقين مثل أحمد الجلبي الذي زود الصحيفة والإدارة الأميركية بكم كبير من المعلومات المغلوطة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق الامر الذي دفع بكاتبة معروفة في الصحيفة بصفتها خبيرة في الإرهاب البيولوجي هي جوديث ميلر لأن تنشر افتتاحيات عن أسلحة الدمار الشامل في العراق تبين أنها مجرد أكاذيب. ولم تكن "نيويورك تايمز" الوحيدة التي انساقت وراء ادعاءات واشنطن عن مبررات الحرب، فقد انجرفت مؤسسات كبرى وراء الأمر نفسه لكنها قليلة هي المؤسسات التي قررت أن تراجع أخطاءها كما فعلت "نيويورك تايمز". حالياً يتعرض بعض المؤسسات الإعلامية الأميركية لهجوم من قبل المحافظين بحجة تغطيته لفشل الإدارة الأميركية في العراق وتحديداً لقضية فضيحة تعذيب معتقلي سجن أبو غريب. وفي هذا السياق قرر المقدم التلفزيوني الشهير بيل أورايلي في محطة "فوكس نيوز" اليمينية، والذي يستقطب جمهوراً واسعا بين مشاهدي محطات الكابل ألا تستمر محطته في التركيز على قضية سجن أبو غريب إلا إذا استجد ما يستدعي التغطية لأن هذه القضية في رأيه، قد تؤثر على سلامة "قواتنا" في العراق، معتبراً أن الصحافة الليبرالية الأميركية بالغت في استغلال القضية ضد الرئيس بوش. الربح معيار الحقيقة! ببساطة يبدو الهدف الحقيقي لوسائل الإعلام هو الربح وليس الإقناع، وبالتالي فإن ما يحرك كبريات الشبكات الإعلامية هو المال قبل أي عامل آخر. فالتحدي الأكبر الذي يواجه الشبكات الأميركية هو جذب انتباه المشاهد أو القارئ أو المستمع في قطاع يغلب عليه الترفيه كعامل أساسي لجلب الأرباح. فهذه الشبكات تلاحق المشاهد ثانية بثانية من خلال الاستطلاعات اليومية لمعرفة ما الذي تابعه الجمهور الأميركي بمختلف شرائحه. إنها مشكلة تبرزها شركات الإحصاء ومراكز الدراسات التي تهتم بتطور قطاع الإعلام، إذ يجادل هؤلاء في أن صناعة الأخبار في خطر بدأ يبرز قبل أربع سنوات. وعلى رغم ازدياد الاهتمام بالاخبار في مرحلة ما بعد 11 ايلول سبتمبر وحالياً في ظل التطورات في العراق إلا أن ذلك لا يعتبره الباحثون مؤشراً. فهم يدللون على أن المشاهد الأميركي المنهمك بتفاصيل حياته اليومية يفقد سريعاً اهتمامه بمتابعة الأخبار. وبالتالي فإن المحطات التي تكثف بث البرامج الإخبارية عند تصاعد أزمة سياسية ما، سريعاً ما تعود إلى برمجتها العادية التي يغلب عليها الطابع الترفيهي. ومع تصاعد المنافسة وبلوغ مردودات هذا القطاع مبالغ خيالية بات الجدل يتركز اليوم على ملكية وسائل الإعلام وطغيان الاحتكار فيه. والأمر تجاوز حدود امتلاك معظم الشبكات من قبل تكتلات اقتصادية مهمة، فقد أصبحت الشركات التي تمتلك الوسائل الإعلامية الأميركية أكبر من حيث القوة الاقتصادية لكنها محدودة من حيث العدد ما يعني تركز قوة إعلامية اقتصادية كبرى في يد مجموعة صغيرة. إنه واقع بدأ منذ الثمانينات عندما نمت السيطرة على الإعلام الأميركي. ففي عام 1983 كان في الولاياتالمتحدة حوالي 1700 صحيفة يومية و11 ألف مجلة و 9 آلاف محطة إذاعية وألف محطة تلفزيونية و2500 دار نشر للكتب. في تلك الحقبة كانت خمسين شركة تملك هذا القطاع وطبعا كانت الملكية تتداخل من خلال مصالح اقتصادية مع شركات صناعية كبرى ومع بعض البنوك الدولية. في العام الماضي باتت عشر مؤسسات كبرى تسيطر على عصب المعلومات من تلفزيون وإذاعة وانترنت وراديو وصحف، كما أن ثلاث شركات عملاقة تملك نصف عدد المحطات في الولاياتالمتحدة! وعلى رغم هذا الواقع فإن لجنة الاتصالات الفيديرالية FCC، وهي اللجنة المخولة تحديد ضوابط الإعلام الأميركي وسياسته، رأت أن التكتلات الاقتصادية الضخمة مقيدة قانونياً في شأن حصصها في السوق، لذا تمثل الحل، بحسب هذه اللجنة، بتقليص القيود على هذه الشركات. ومن المعلوم أن رئيس لجنة الاتصالات الفيديرالية هو مايكل باول نجل وزير الخارجية الاميركي كولن باول. وقد عينه الرئيس بوش شخصياً في منصبه الحالي. وباول الإبن له آراؤه ونظرياته في ما يتعلق بالإعلام، فهو لا يبدو منزعجاً من افتقاد التنوع السياسي في الإعلام بل هو صاحب شعار " السوق هو ديني". ولعل هذا يختصر التركيبة العقلية لإدارة نجحت في دمج المال بالمشاعر الدينية. ويجادل باول واللجنة التي يرأسها بان التكنولوجيا الحديثة، مثل الانترنت، قدمت للأميركيين سبيلاً للمزيد من المعرفة والمعلوماتية بشكل أكبر من السابق وبالتالي فإن القلق من الاحتكار لا مبرر له. لكن باول لم يشر إلى حقيقة أظهرتها الدراسات وهي أن معظم ما يرد على شبكة الانترنت من أخبار هو تجميع لما ورد على الشبكات التلفزيونية الكبرى. وبالعودة إلى الملكية فإن كل الشبكات الإعلامية الأميركية مملوكة من شركات كبرى تشكل تكتلات ضخمة. وعلى عكس الفكرة السائدة بأن الصحافة هي خصم الحكومات فإن الحقيقة هي أن التيار العام من الإعلام الأميركي غالباً ما يتبع السياسة الرسمية لواشنطن. هذا الأمر يتجلى إبان فترات الحروب ومن خلال تغطية تطورات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية. بل حتى حين يتعلق الأمر بشؤون داخلية فإن النقاش غالباً ما ينحصر بين وجهتي نظر الديموقراطيين والجمهوريين ويكاد يغيب الرأي الثالث عن الواجهة. وغالباً ما يشاطر مالكو وسائل الإعلام الخلفية والرؤية التي تمتلكها النخب السياسية. ووسائل الإعلام الكبرى لها مساهماتها المادية في موازنات الحزبين الجمهوري والديموقراطي. في المقابل تتلقى هذه الشبكات ملايين الدولارات لقاء بثها إعلانات سياسية للمرشحين من الحزبين خلال الانتخابات. وهذه التكتلات الكبرى التي تحتكر ملكية وسائل الإعلام لديها مصالحها التي قد تلتقي أحياناً وقد تتناقض أحياناً اخرى. شبكة "ان بي سي" تملكها شركة جنرال اليكتريك وهي واحدة من كبريات الشركات العالمية عدا أنها مساهم بارز في الحزب الجمهوري كما لديها اهتمام بصنع الأسلحة. شبكة "سي بي سي" مثلاً تملكها شركة فياكوم Viacom التي هي عبارة عن تكتل إعلامي كبير يضم MTV, Showtime, Nickelomeom, VH1, TNN, CMT, ، اضافة إلى 39 محطة محلية و184 إذاعة وشركة بارامونت. أما شبكة "اي بي سي" فتملكها شركة ديزني التي تنتج أفلاماً سينمائية وألعاباً ولديها مصانع في بلاد فقيرة بسبب تدني الكلفة فيها. هذه الأمثلة تطرح مسألة تركز ملكية الإعلام في تكتلات صغيرة وتسهيل ترويج هذه التكتلات لمنتجاتها. فعلى موقعها على شبكة الانترنت روجت محطة "اي بي سي" لفيلم هوليوود الشهير "بيرل هاربر" الذي انتجته شركة ديزني على أنه فيلم يحمل قيمة تاريخية. أما شبكة "فوكس" فيملكها رجل الاعمال الاسترالي روبرت مردوخ المعروف بتوجهاته اليمينية المحافظة ويملك حصة كبيرة من الإعلام في أميركا وحول العالم. الشبكة تحمل تغطيتها الإخبارية شعار "عادلة ومتوازنة"، وعلى رغم ذلك فإن علاقات "فوكس" بالجمهوريين والمحافظين لم تعد مدار تساؤل، خصوصاً أن عدداً من أبرز صحافيي الشبكة، أمثال نيويت غينغرتش، كانوا من صقور الحزب الجمهوري. ومنذ انطلاقتها عام 1996 أصبحت "فوكس" واجهة قوية للمحافظين ولاحقاً لإدارة الرئيس بوش. ومردوخ ليس خجولاً بذلك، فقبل أسابيع من الحرب على العراق قال: "أعتقد أن بوش يتصرف بطريقة أخلاقية صحيحة وأظنه سيكمل ما بدأه. الحقيقة هي أن كثيرين في العالم لا يمكنهم قبول فكرة أن أميركا هي قوة عظمى في العالم. أعظم ما ينتج عن ذلك لاقتصاد العالم هو أن يصبح سعر برميل النفط عشرين دولاراً. هذا أكبر من أي خفض ضرائبي في أي بلد". وتأتي حيوية "فوكس" من واقع مهم يشهده الإعلام الأميركي هو الاستقطاب السياسي المتزايد. فهذه الشبكة اكتسبت مكانة لدى المحافظين والجمهوريين إذ أن أكثر من نصف مشاهديها "فوكس" يصنفون أنفسهم بأنهم محافظون سياسياً. في المقابل تحظى "سي ان ان" منافسة "فوكس" بجمهور أكثر ميلاً نحو الديموقراطيين. ومنذ العام 2000 زاد عدد الأميركيين الذين يشاهدون "فوكس" من 17 في المئة إلى 25 في المئة فيما بقي جمهور الشبكات الأخرى يحافظ على النسبة نفسها. الدراسات نفسها التي بحثت في ميول الجمهور من محافظين وليبراليين، أظهرت أن الجمهور المحافظ يعتبر أن الشبكات التي تميل لأن تكون ليبرالية هي تلك التي تعرض أخباراً عن المثليين الجنسيين وانتهاكات الحقوق المدنية والتظاهرات المعادية للحرب وحقوق المرأة وقضايا البيئة وكلها قضايا تعتبر ليبرالية. أما الجمهور الليبرالي فيرى أن المحطات المحافظة هي تلك التي تدعم مفاهيم رجال الأعمال ولا تعطي وقتاً كافياً لمن يحمل وجهات نظر مخالفة للتيار العام. ولا يخفي كثيرون من الناشطين والحقوقيين والإعلاميين المستقلين في الولاياتالمتحدة قلقهم من الصورة التي يعكسها الإعلام في النظام الديمقراطي الأميركي. ويتشكل الكثير من الجمعيات والمراكز التي تسعى إلى مواجهة ثنائية احتكار الملكية والاستقطاب السياسي في الإعلام. فهؤلاء قلقون من تصادم حريتين: حرية الفرد في تلقي المعلومة الكاملة والدقيقة، وحرية الشركات في إبرام صفقات تجارية رابحة "فوكس" تردّ: نحن صحافيون أميركيون! الدخول إلى ذلك المبنى الشاهق في الجادة السادسة المزدحمة في مانهاتن في نيويورك ليس بالأمر السهل. إنه المركز الرئيسي لشبكة "فوكس نيوز" التي ترفع شعار تغطية "متوازنة وعادلة" على جدران أروقتها الداخلية. جدران تتكدس عليها صور إعلانية لأشهر صحافيي المحطة ومذيعيها الذين اشتهروا بترويجهم للحسّ "الوطني" الأميركي بأداء مبالغ فيه غالباً. نصف ساعة استغرقتها الإجراءات الأمنية للتحقق من هويات مجموعة من الصحافيين الدوليين للصعود إلى مكاتب الشبكة الإخبارية بناء على موعد مسبق للقاء أحد مسؤوليها. وبابتسامة سريعة اعتذرت المسؤولة عن الشبكة لطول الاجراءات مذكّرة بالمخاوف الأمنية التي تعيشها الولاياتالمتحدة. قادت المسؤولة مجموعة الصحافيين إلى قاعة مغلقة خصصت للقاء والردّ على الأسئلة لكنها طلبت عدم اعلان هويتها. تحدثت السيدة، التي ساهمت في تأسيس الشبكة وتتولى منصباً بارزاً فيها، باختصار عن انطلاقة الشبكة عام 1996 لكنها أسهبت في الحديث عما اعتبرته تحولاً حققته الشبكة في الإعلام الأميركي، بحيث أن الجميع بات يسعى إلى تقليديها حسب رأيها. لم تكترث كثيراً مسؤولة "فوكس" للانتقادات التي طرحها الصحافيون في شأن انحياز المحطة إلى الحرب على العراق ودعمها الظاهر لإدارة الرئيس بوش وللجمهوريين والمحافظين. ردت السيدة الشقراء الخمسينية ببساطة على التساؤلات، "نحن صحافيون أميركيون" ومن هذا المنطلق تتم تغطية الأحداث! تفسير بسيط وواضح لاعتماد صحافيي المحطة لغة إخبارية قائمة على "نحن" كأميركيين و"هم" كأعداء خصوصاً في تغطيتها لحربي افغانستانوالعراق معتبرة أن الدعم لم يكن لإدارة الرئيس بوش بل هو دعم "لقواتنا" و"لأمتنا الأميركية"! حادثة حمل أحد صحافيي الشبكة لمسدس خلال تغطيته حرب أفغانستان وحديثه المباشر على الهواء أنه إذا شاهد أسامة بن لادن فسيقتله لم تعلق عليها كثيراً المسؤولة، لكنها همست بعدما استفزتها الأسئلة أنها لو رأت بن لادن لقتلته بنفسها لكن ليس من الضروري أن نقول ذلك على الهواء. أما لدى سؤالها عن نجم المحطة الأكبر بيل أورايلي الذي يقدم البرنامج الأشهر على المحطة والذي يشتهر بتعليقاته ومواقفه المحافظة فتعتبر أنه يعبر عن آرائه الشخصية وهذه هي صيغة برنامجه حتى حين يقول "العالم يكره أميركا لسببين: الحسد والغيرة"! "نحن صحافيون أميركيون"، كاد يكون الجواب الوحيد على معظم التساؤلات التي طرحت على المسؤولة في "فوكس" وهي اعتبرت أن هوية المحطة الأميركية مقياس ميزّ الشبكة حتى باتت محطات كثيرة تقلدها. أما تحول الشبكة الواسعة الانتشار، والمصنفة أولى بين محطات الكابل في الولاياتالمتحدة، إلى بوق للجمهوريين فترد عليه المسؤولة بأن الإعلام الأميركي في حقبة ما قبل "فوكس" كان إعلاماً ليبرالياً يسارياً نوعاً ما ولم يكن أحد ينتقد حضور الديموقراطيين بشكل أكبر في الإعلام الأميركي الذي كان بالكاد يعبر عن وجهات نظر المحافظين، وأن جل ما فعلته الشبكة هو إفساح المجال أمام الطرفين الجمهوري والديموقراطي للتعبير عن نفسيهما!