لا بد من انني عشت ألف رجب، فقد رأيت ألف عجب خلال الحرب على العراق، وقبلها وبعدها حتى اليوم. وفي حين يبقى الاصرار على وجود اسلحة دمار شامل هي ببساطة غير موجودة عجباً كافياً، فإنني أتحدث عن الاعلام الغربي الذي شكونا جميعاً من انحيازه، وخضوعه لمنطق الادارة الاميركية في الحرب، وقبوله الرقابة، وفرضه رقابة ذاتية على نفسه، ثم عشنا لنرى ان ادارة بوش تعتبر الاعلام الذي أيدها منحازاً ضدها، والى درجة ان تتخذ خطوات للرد، ولإيصال وجهة نظرها الى حيث تريد. قبيل منتصف هذا الشهر أعطى الرئيس جورج بوش مقابلات صحافية لخمس شبكات تلفزيونية أميركية محلية لا تغطي عادة البيت الأبيض. وقالت مصادر الادارة ان الرئيس يريد الوصول الى الاميركيين العاديين لأنه يشعر بأن وسائل الاعلام الكبرى لا تنقل صورة موضوعية أو متوازنة عن الحرب وذيولها، وهو يريد ان يوصل موقفه الى حوالى عشرة ملايين أميركي من المتفرجين على الشبكات المحلية. كيف هذا؟ كنت أعددت دراسة لقراءتها في ندوة شاركت فيها ضمن مؤتمر نادي دبي للصحافة، الا انني لم أقرأ منها شيئاً، وإنما فضلت ان أروي للمشاركين قصصاً صحافية ذات علاقة بالموضوع ثم أعطيت الدراسة لنادي دبي، لتوزيعها على من يرغب. وفي حين ان الدراسة الاصلية في 40 صفحة بالانكليزية، فإنني أعد القارئ بأن اختصر كثيراً، وأنا أعرض عليه في حلقات محدودة تغطية الاعلام الغربي للحرب. قلت في مؤتمر دبي وأكرر اليوم انني لم أتوقع ان أقف يوماً وأقول ان تغطية الاعلام العربي موضوعاً مهماً من حجم حرب العراق كانت أفضل من التغطية الاعلامية الغربية. الا ان هذا ما حدث، وبما انني احاول ان أتكلم بموضوعية كاملة وتجرد، فإنني أمهد لعرض مجمل الاعلام الغربي بالقول اننا لن نصل يوماً الى مستوى "نيويورك تايمز" أو "واشنطن بوست" أو "الغارديان" أو"الاندبندنت" أو"الاوبزرفر" الأسبوعية في لندن، واننا سنظل مقصرين عن هيئة الاذاعة البريطانية، راديو وتلفزيوناً، وان "سي ان ان" تعاملت مع الحرب بالقدرة المتوقعة منها، وان كانت هناك محطات "سي ان ان" في الولاياتالمتحدة هي غير ما نرى في منطقتنا. ما سبق صحيح، ولا جدوى من الانكار، فبعض وسائل الاعلام الغربية من مستوى مهني راق مع قدرة ونفوذ لا نملك ازاءه سوى ان نأمل بالوصول اليه يوماً. غير ان دراستي عن المجموع، وليس عن اي وسيلة اعلام بعينها. كانت شبكات "الدش" و"الكيبل" الأميركية الكبرى، خصوصاً فوكس نيوز التي يملكها روبرت مردوخ، الى جانب الحرب بوضوح. وقد تزامنت الحرب مع خطة لهيئة الاتصالات الفيدرالية، التي يترأسها مايكل باول، إبن وزير الخارجية كولن باول، لتخفيف القيود الحكومية على ملكية الميديا، وهو ما سعت اليه الشبكات الكبرى دائماً، ولا يصعب الربط بين تأييد فوكس نيوز الحرب ومحاولة روبرت مردوخ شراء شركة "هيوز الكترونكس" التي تملك "دايركت تي في"، وهي أكبر شركة للتلفزيون "الساتلايت" في الولاياتالمتحدة. الصفقة هذه بمبلغ 6.6 بليون دولار وقد أبرمتها الشركات المعنية في نيسان ابريل الماضي بعد جهد استمر ثلاث سنوات، وأصبحت بانتظار موافقة هيئة الاتصالات الفيدرالية. غير ان مجلس الشيوخ الذي خاف ان تنتهي وسائل الاعلام الأميركية كلها في أيدي خمس شركات كبرى، صوت بعد ذلك الى جانب قرار يمنع تخفيف القيود على ملكية الميديا. وبدا انحياز الشبكات الكبرى الى جانب الحرب واضحاً قبل نشوبها، ففي شباط فبراير اوقفت محطة "إم إس إن بي سي" التي تشارك في ملكيتها مايكروسوفت برنامجاً للمذيع التلفزيوني الليبرالي فيل دوناهيو بعد ستة أشهر من بدئه بحجة عدم اقبال المتفرجين عليه. غير ان مذكرة داخلية للمحطة سربت الى الخارج وصفت دوناهيو بأنه "ليبرالي يساري متعب لا يعرف حقيقة السوق". هل هذا صحيح؟ "نيويورك تايمز" اكدت ان استطلاعات الرأي العام أظهرت شعبية برنامج دوناهيو، وهو انتقد قرار وقف البرنامج وقال انه كان يأمل ان يخترق ضجيج طبول الحرب، ليقدم صورة متوازنة من الجانبين. بعد طرد دوناهيو استعانت "ام إس إن بي سي" بالمعلق المحافظ مايك سامدج والسياسي المتقاعد ديك ارمي ومثله جو سكاربورو، ما يدل على ان هذه المحطة حاولت المزايدة على فوكس نيوز. ولجأ انصار الحرب الى الهجوم، ونشط مركز مراقبة الميديا الحسن التمويل جداً، والذي يقول ان هدفه "توثيق تحيز الميديا الليبرالية وفضحها وتحييدها" والذي يدير وحدة هدفها مراقبة "نيويورك تايمز" وحدها. وقد هاجم هذا المركز بعض اعلام التلفزيون الأميركي مثل دان راذر وبيتر جننغز، غير ان مؤسسة الانصاف والدقة في الاخبار وقفت موقفاً مناقضاً، ونشرت تقريراً بعنوان "الاساءة الى الديموقراطية في تغطية الحرب". ولعل أفضل ما كتب عن الموضوع هو مقال بعنوان "العراق: كيف فشل التلفزيون" كتبه مايكل ماسنغ ونشرته "نيويورك ريفيو أوف بوكس". فالكاتب اعلامي وأكاديمي معروف ذهب الى العراق في مهمة للجنة حماية الصحافيين. والمقال انتقد بشدة القيادة المركزية الأميركية واتهم الجنرال فنسنت بروكس باعطاء معلومات مضللة عمداً في بعض الاحيان. وهو قال ان الصحافيين الأوروبيين والعرب سألوا أسئلة أكثر مواجهة من الأميركيين، وأثاروا مواضيع مهمة مثل مدى دقة الصواريخ الأميركية، والضحايا من العراقيين وتأثير اليورانيوم المنضب. وهو أضاف انه كان يضيق جداً بما يرى من تغطية التلفزيون الأميركي للحرب، خصوصاً عندما يقارن ذلك بالتغطية الأوروبية والعربية. مع ذلك يبدو البيت الأبيض وكأن التحيز الواضح لا يكفيه، لذلك فهو يبحث عن شبكات اضافية. غير ان هذا قد لا يفيد أيضاً، ومحطة "و بي آ إل" في بالتيمور كانت تقطع المقابلة معه لتتحدث عن العنف في العراق بعد الحرب، وعن عدم وجود اسلحة دمار شامل، ثم لتتهم الرئيس بمحاولة رسم صورة جميلة للحرب على رغم الضحايا من الجنود الاميركيين كل يوم. وأختتم اليوم بالقول ان عندي مادة اضافية وتفاصيل استطيع توفيرها للقارئ الراغب، خصوصاً عن هيئة الاتصالات الفيدرالية وتصويت الكونغرس. وأكمل غداً.