إلى من لا يعرف جون لو كارّيه، قد يكفي فقط ذكر اسم "الجاسوس الآتي من الصقيع" كي تنتعش الذاكرة، وتعود بضعة عقود الى الوراء، عندما تحولت هذه الرواية الرائعة فيلماً سينمائياً شهيراً بمشاركة أحد عمالقة السينما العالمية، ريتشارد بيرتون. كانت رواية "الجاسوس الآتي من الصقيع" الثالثة للروائي الانكليزي، والتي برز فيها كأحد كبار روائيي التجسس المجددين، بعيداً عن الكليشيهات التقليدية في هذا النوع الروائي الذي ساهم لو كارّيه في جعله أدبياً. لكنه ثبّت نفسه نهائياً كأحد الأدباء الذين لا يمكن تجاهلهم مطلقاً مع ثلاثيته "الخِلْد"، "ببساطة التلميذ" و"جماعة سمايلي"، حيث أدخل الى هذا النوع الأدبي عمقاً انسانياً جديداً ندر نظيره من قبل، فأبعده عن ترهات روايات التجسس الكلاسيكية الجيمس بوندية. ذلك ان لو كارّيه، الجامعي المعروف، والأستاذ السابق في جامعة ايتون البريطانية، عمل أيضاً لمصلحة وزارة الخارجية البريطانية، وكذلك لمصلحة جهاز استخبارات جلالة الملكة. فهو إذاً يعرف هذا الوسط جيداً، وعمل خلال انصرافه الى الكتابة على رفع هالة "البطل" عن عملاء الاستخبارات، ليجعل منهم، كما يؤكد، أناساً عاديين يعملون في اختصاص معين. أما لماذا هذه الرواية اليوم؟ فقط لأنها تسلّط الضوء على الحدث، أي على حرب العراق التي غرقت أميركا في رمالها. هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية الأدبية، فلأن الكتاب يضاهي، في حبكته وعمقه ولغته، على رغم تخصصه، أعمالاً أدبية أخرى ذات شهرة عالمية. ان "صداقة خالصة" Absolute Friends هو، أكثر من كونه كتاباً "سياسياً" كما يرى مؤلفه، وقبل ان يكشف للعلن تعثر النظام العالمي الجديد، رواية مشوقة مضبوطة الايقاع، يسكنها بطلان بعيدان عن الأسطورة، متلبسان دورهما المرسوم لهما بدقة، في حبكة هي في الوقت نفسه بسيطة ومعقدة، يديرها لو كارّيه الذي يعرف وحده اللعب على أوتارها، فلا القارئ يضيع ولا الشخصيات، في متاهاتها المرتبطة بواقع أكيد. من بين هذه الشخصيات تيد موندي، الغريب الأطوار، ابن الضابط البريطاني في الهند أيام الاستعمار، والكاتب الفاشل الذي انتهى به المطاف دليلاً سياحياً في بافاريا الألمانية، الذي يجد نفسه فجأة أمام ماضٍ ينتصب أمامه في شخص ساشا، الألماني الشرقي الآتي من خلف حائط برلين، والذي التقاه في العاصمة الألمانية في نهاية الستينات، يوم كانت برلين عرضة لنشاطات ثورية، ثم جمعتهما مجدداً الأقدار في مرآة جواسيس الحرب الباردة الوسخة لرسم وتطبيق عملية تجسس مزدوجة وطويلة النفس. لكن الأيام تغيرت لتصطدم صداقتهما التي أعيد عقدها مجدداً باسم مثالية مرّ عليها الزمن، بصلف الولاياتالمتحدة التي يصورها اليوم أكثر امبريالية من أي وقت مضى. فيعلن المؤلف، من خلال هذا العمل الملتزم، وفاة عالَم الجاسوسية القديم والقيم التي تخطاها الزمن، ذلك ان العالم أصبح، منذ 11 أيلول سبتمبر 2001، يتجاهل عقود الشرف، كما لم تعد للقضايا الحقة أي قيمة، عندما تفرض الولاياتالمتحدة على العالم نظرتها الشوفينية المحتفلة بتمجيدها لنفسها كما على العالم الذي تعتبره تابعاً لها، خصوصاً بعد انهيار المعسكر الشيوعي. يسلّط المؤلف الضوء على تصرفات الولاياتالمتحدة المكيافيلية ويفضح خمول العالم الأعمى السائر وراءها الى حتفه. يبدأ المؤلف كتابه عبر غوص عميق في ماضي أوروبا النازي، ثم الشيوعي، ثم المضطرب عبر النشاطات الثورية المعارضة في السبعينات مع مجموعة بادِرْ - ماينهوف والألوية الحمر وغيرها، ليستحضر مواضيع رئيسة كعالم التجسس والاستخبارات في ما يشبه لعبة المرايا المتداخلة، كما يرسم أخرى مرتبطة بالحدث الآني. فلا عجب والحال هذه ان تنهال عليه انتقادات الصحافة البريطانية، التي صدمتها مواقف تيد موندي المعادية للغرب وربما أيضاً ولعه بالمرأة التركية "زارة" المتدينة. زد على ذلك ان شخصية موندي تشبه الى حد ما شخصية المؤلف الذي يقاسمه طفولة فوضوية غامضة طغى عليها والد غريب الأطوار ووالدة لم يعرفها جيداً الا بعد وفاتها، وكذلك الانتماء الى العالم السري نفسه، أي عالم التجسس. إنها المرة الأولى، بحسب تعبيره، يقوم فيها لو كارّيه بالكتابة على نار حامية، في قلب الحدث. فالكاتب يأخذ وقته عادة في جو من الهدوء النسبي. أما بالنسبة إلى كتابه الأخير، فيبدو وكأنه يحاول التعبير عن غضبه. وكأن الغضب هو المحرك الأول للرواية. لكن الغضب وحده لا يكفي، فيعمل الكاتب على اشراك القارئ فيه، من خلال حبكة مقنعة كشخصية تيد موندي. إن الواضح من خلال هذه العملية ان لو كارّيه لم تنطلِ عليه الادعاءات الأميركية والبريطانية الكاذبة عن خطر العراق الأكيد. وهو الذي كان، بين أقرانه، يدق ناقوس الخطر في مواجهة العولمة، ويسأل بشيء من البساطة، عن إمكان القيام بما يشبه انتفاضة عامي 1967 - 1968. لكن الامبريالية الأميركية أصبحت، بعد غياب الاتحاد السوفياتي، الهوس الأوروبي والعالمي الجماعي. لكن كل شيء تبدّل بعد 11 أيلول، وكأن لو كارّيه حاول جهده البحث عن طريقة لإظهار غضبه وصحة نظرته إلى الأمور، خصوصاً أن كثيرين غيره حاولوا ذلك ويئسوا، لكن عندما طفح الكيل وجد نفسه أمام الشر المطلق. فالتاريخ لا يرحم وهو يشير بإصبع الاتهام الى جميع الخاضعين الخائفين أمام التفرد الأميركي بمصير العالم. وكانت طريقة استخدام الولاياتالمتحدة للمجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفياتي، ثم ارتدادها عليهم لاحقاً، سبباً من أسباب هذا الهجوم الشرس على الولاياتالمتحدة. يستشف من تسلسل أحداث الكتاب ان المؤلف أحس في ربيع 2002، ان شيئاً مريعاً قد تغلغل في النظام العالمي، شيء يقوده جنون ايديولوجي بحت، وافق عليه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ربما مضللاً بعض الشيء بمعلومات الاستخبارات الكاذبة، وأن لا شيء قادراً على ايقاف هذا المشروع المجنون. من هنا يمكن ان نفهم من خلال حبكة الرواية ان في إمكان الأكاذيب ان تدمّر، وأن تنطلي حتى على صانعيها قبل الآخرين، فينتصر الجنون حتى لو كان الأشخاص المعنيون في قمة الذكاء. من هذا المنطلق، تظهر في الرواية بصمة المحافظين الجدد الأميركيين الذين كانوا قد حضّروا للحرب على العراق قبل أحداث 11 أيلول بوقت طويل، واستعانوا بأسامة بن لادن ضد صدام حسين. فيبدو جورج بوش، عبر شخصيات عملاء ادارته، مشابهاً لبن لادن، لأن أياً منهما لا يقبل أنصاف الحلول. فتكبر الكذبة شيئاً فشيئاً لتصبح المحور. هناك مجموعة أخرى من المتحكمين بمصير العالم، تنال قسطها من التهشيم في رواية لو كارّيه. فهو يطلق نيرانه على كبريات الشركات العالمية المتجبرة، والأميركية منها خصوصاً، حيث يصبح العميل الأميركي "جاي"، عميلاً لإحداها، يأخذ على عاتقه تنفيذ مهمة بمنتهى القذارة، غير آبه بالضحايا البريئة التي تتساقط في طريقه، متسلحاً بالأكاذيب التي تصبح هنا ملح الرجال. ظن تيدي موندي انه بدأ حياة جديدة مع "زارة" وابنها مصطفى، عندما يتصل به ساشا، الصديق القديم. وكان الاثنان قدّما خدمات ثمينة للغرب، أمام "خطر" الاتحاد السوفياتي، الأول عبر تنقلاته المحفوفة بالأخطار في كل دول أوروبا الشرقية في رحلات "ثقافية" غطاءً لعمله الحقيقي، والثاني من وراء جدار برلين. ويخوض العميلان غمار عملية دبرها المدعو ديمتري، البليونير الغامض، الذي اعترف بأنه جمع ثروته في عمليات مشبوهة، لكنه اليوم يوظفها لإنقاذ العالم. وتقوم الخطة على عملية غسل أدمغة من نوع خاص، في وجه جامعات العالم. عن طريق بناء مراكز "الجامعات المضادة" لإعادة أدمغة طلاب العالم الى "الطريق الصحيح"، وهي التي سيطرت عليها كبريات الشركات العالمية، ووجهتها كي تنتمي اليها في المستقبل. فالشركات هذه هي التي تدير العالم والدول، بل انها هذه الدول بالذات. هكذا يبرع ديمتري ويستطرد في افهام خطته لتيد موندي، الذي يوافق عليها بعد مداولات مع صديقه ساشا، الذي يجند، بأمر من ديمتري، مثقفين فرنسيين لوضع مخططات مضادة للقضاء على احتكار الجامعات المذكورة للأدمغة الشابة. لكن يظهر لاحقاً ان الخطة هي في الأساس مخطط جهنمي، دبرته الاستخبارات الأميركية، بموافقة البريطانيين وبدعم من المجموعات التجارية الصناعية الأميركية، لكسر الحلف الألماني - الفرنسي المعارض لحرب العراق. وذلك ب"اكتشاف" ملفق لعملية ارهابية ضخمة في مدينة هايدلبرغ الألمانية التي هي مهد الفكر الألماني، لكنها في الوقت نفسه أكبر قاعدة عسكرية أميركية في ألمانيا. فيظهر من ذلك ان ساشا وموندي سيقومان بتفجير المنطقة القريبة من القاعدة الأميركية، والقضاء على آلاف الأرواح. ما يضطر الحكومة الألمانية الى الانضمام الى الحلف الأميركي - البريطاني، ومن بعدها فرنسا، لتظهر الولاياتالمتحدة وكأنها وحدها القادرة على وقف "الارهاب". لكن، وفي الوقت المناسب، وبينما كان موندي بدأ بكشف المخطط الجهنمي، تحاصره القوات الأميركية في مكان وجوده، حيث وضعت سابقاً آلاف المتفجرات لتظهرها لاحقاً الى الرأي العام، وتقتله وصديقه ساشا الذي كان قادماً الى ملاقاته، لكن بعد ان أطلقت آلاف القذائف من بنادقها على الأبنية المجاورة لتوهم الجميع بأنها لاقت مقاومة شرسة من "الارهابيين". وهكذا تنتصر أميركا الانسانية على "الشر المطلق". هذه الحقيقة يبينها ارنولد، الرئيس المباشر السابق لموندي، على شبكة الانترنت، وهو من بين رجال الظل الذين رفضوا سياسة بريطانيا وتبعيتها للولايات المتحدة في حرب العراق. فيقدم تحية أخيرة للذين سقطوا ويسقطون كل يوم ضحايا أمام مصالح الأقوى، التي تبرع في تضليل الرأي العام للحصول على مآربها، غير آبهة بأن الخراب الذي تحدثه قد يتسبب يوماً بخرابها، لينقلب السحر على الساحر. هكذا يوصل جون لو كارّيه رسالته الغاضبة الى العالم، عبر وصف دقيق واقعي لعالم الجاسوسية، يعتبر عن حق من أكبر نجاحات المؤلف الذي توصل إلى اظهاره كصورة مجازية للوضع العالمي، حيث كل واحد هو في الحقيقة غير ما يدعي فيوجز، في نهاية روايته، روح الحرب الأميركية على العراق، وتجاوزاتها وأكاذيبها ومآربها الحقيقية لتنتهي روايته على شكل قصيدة مهداة الى كل الطيبين، صفعة في وجه الصلف والعنجهية والتسلط والتضليل