مهّدت الادارة الاميركية لإطلاق "مشروع الشرق الاوسط الكبير" بخطوات مدروسة كان ابرزها خطاب الرئيس جورج بوش في تشرين الثاني نوفمبر العام 2003 عندما قال في خطاب ناري: "لقد فشلت الستون سنة الماضية في التسامح تجاه غياب الحرية في الشرق الاوسط في درء المخاطر عنا، لأنه ليس من الممكن، على المدى الطويل، ارساء الاستقرار على حساب الحرية". لكن في مقابل هجمة المشروع الاميركي تستبعد العواصم الاوروبية ذات الخبرات المتراكمة في العلاقات الدولية، امكان فرض الديموقراطية بالقوة، وتخشى ان يكون من بين اهداف واشنطن المبيتة استعمال "الأدوات" الأوروبية لفرض نظرتها الجيوسياسية على المنطقة والمضي بها قدماً، طالبة من اوروبا تمويل هذا المشروع الضخم، بينما تكتفي برسم الخطة أو المشاركة رمزياً في تمويلها. وفي أواخر الشهر الماضي، أعلن خافيير سولانا، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي ووزير خارجية اسبانيا المقبل انه "يجب ان تأتي المبادرة من المنطقة. وفي هذه الحال ينبغي على الاتحاد الأوروبي تحديد مقاربة واضحة تكون متممة للمبادرة الأميركية، والعمل من خلال مؤسساته وأدواته الخاصة". نظرتان مختلفتان وأهداف مختلفة لمشروع واحد، وآراء مغايرة لدول منطقة الشرق الأوسط، المعنية أولاً وأخيراً بهذا المشروع الضخم الغامض الذي تريد الولاياتالمتحدة ان تلبسها إياه، أو هي توحي بذلك لغاية غامضة. ان المشروع الذي أصبح على كل شفة ولسان في مختلف الادارات الغربية، أدرج على جدول أعمال اللقاءات الكبرى القريبة، ومن أهمها القمة الأوروبية في حزيران يونيو المقبل، لوضع خطة موحدة له. كذلك ستعرض الولاياتالمتحدة، في العاشر من الشهر نفسه في فلوريدا، خلال قمة "جي - 8" للدول الصناعية الكبرى، اقتراحات حول الجوانب المدنية والسياسية للمبادرة، بينما تترك المواضيع الأمنية لمناقشتها خلال قمة الأطلسي في 28 و29 حزيران يونيو المقبل. وهي مواضيع تهدف، بحسب الرؤية الأميركية الغامضة، الى انشاء "جنة" ديموقراطية تمتد من المغرب الى أفغانستان. لكن المحللين الأوروبيين لهم تفسيرهم لهذه المبادرة اذ يعتبرونها نتيجة الصعوبات التي تعترض الادارة الأميركية في العراق، ولكن أيضاً في العلاقات الأميركية المتأزمة مع بقية دول العالم، وكذلك في العلاقات الأميركية الداخلية لأهداف انتخابية. وأنها ناتجة أصلاً من اقتراحات الرئيس بوش السابقة حول رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، مع التفاتة خاصة، للمرة الاولى، الى قضايا التخلف والفقر والنمو للقضاء على جذور الارهاب وعدم الاستقرار، وهي قضايا لم ينفك الأوروبيون يطرحونها ويدافعون عنها منذ سنوات. لكن ما يلفت في الوثيقة الأميركية وما يشدد عليه الأوروبيون في شكل خاص، هو انها تنهل، واحياناً في أدنى تفاصيلها، من المشاريع التي وضعتها أوروبا مع جيرانها المتوسطيين، خصوصاً خلال القمة اليورو - متوسطية الأخيرة المخصصة لوسائل ردم الشرخ المعيشي الهائل بينها وبين جنوب المتوسط. وهي مشاريع لم تنفك أوروبا تطالب بها منذ مدة طويلة، من دون أي رد فعل ايجابي من جانب الولاياتالمتحدة. فلماذا هذا الاندفاع في هذا الوقت بالذات من جانب الأميركيين؟ ولماذا التشديد على النواحي الأمنية الى حد اشراك الحلف الأطلسي فيها وإثارة الحذر الأوروبي ومن دون أدنى شك، إثارة الرفض التلقائي من جانب دول المنطقة، أو قسم كبير منها؟ لقد أجرى مساعد وزير الدفاع الاميركي بول ولفوفيتز مقارنة بين مشروع "الشرق الأوسط الكبير" واتفاق هلسنكي، مثيراً قلق ومخاوف الدول العربية التي رأت فيها تهديداً لها. فاتفاق هلسنكي عام 1989 و1990 ادى الى تغييرات كبيرة في أنظمة دول أوروبا الوسطى والشرقية، حيث سقطت الأنظمة الشيوعية الواحد تلو الآخر. ومن هذا المنظار يتحفظ الأوروبيون أيضاً عن مقارنة ولفوفيتز، لعدم اخافة الحكومات العربية التي يعوّلون عليها للسير قدماً في عمليات الاصلاح والتحديث. من الضروري هنا التذكير بأن اتفاق هلسنكي الموقع عام 1975 بين الولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد السوفياتي والدول الأوروبية كان يهدف الى تشجيع التعاون بين المعسكرين الكبيرين في ذلك الوقت، وكان بين معارضيه بعض رجالات الإدارة الأميركية الحالية الذين يروجون بقوة اليوم لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" وقد أخذوا حينها على الأوروبيين تكريس الوضع الأوروبي القائم وقبولهم بالتوسع الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية. وكان بين النقاط الأساسية في الاتفاق، بند يشدد على احترام حقوق الانسان، استعمله المنشقون السوفيات لاحقاً للمطالبة بحرية التعبير، وقاموا بإنشاء لجان مراقبة لاتفاق هلسنكي ساهمت بشكل كبير في اسقاط المعسكر الشيوعي. من هؤلاء المنشقين، ناثان تشارنسكي، عالم الرياضيات السوفياتي اليهودي الذي امضى بضع سنوات في السجون السوفياتية قبل ان يتم اطلاق سراحه في عملية تبادل ويهاجر الى اسرائيل، وهو اليوم نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي. وقد تبين ان هذا المنشق اليهودي مقتنع تماماً بأن ما نجح في البلدان الشيوعية سينجح اذا طبّق على العالم العربي. وهذا ما يردده باستمرار امام اصدقائه من المحافظين الجدد الاميركيين. وكان تشارنسكي امضى يومين كاملين مع نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني وبحضور وولفوفيتز، وكان ذلك قبل 24 حزيران يونيو 2002، يوم ألقى الرئيس بوش خطابه حول تنحية الرئيس ياسر عرفات وإقامة سلطة فلسطينية ديموقراطية كشرط لإجراء أي مفاوضات، ثم عاد وذكّر بذلك مجدداً في تشرين الثاني نوفمبر 2003. وليس المقصود القول هنا إن المنشق السوفياتي السابق ونائب رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي هو الذي يقف وراء مشروع الشرق الاوسط الكبير، ذلك ان المحافظين الجدد الأميركيين كانوا السبّاقين الى التخطيط لهذا المشروع ورسم أهدافهم بالنسبة الى المنطقة، مدعومين بقوة بلادهم العسكرية ومقتنعين بصوابية "قيمهم" وضرورة نشرها في العالم. أما في البلدان المعنية مباشرة بالمشروع، فإن ردود الفعل الأولية جاءت سلبية. فالعواصم العربية تعتقد ضمناً ان الولاياتالمتحدة تهدف من وراء ذلك الى صرف الأنظار عن الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، خصوصاً ان المسؤولين العرب أعلموا بالمشروع بواسطة ديبلوماسيين أوروبيين، ما كوّن لديهم قناعة تامة حول عدم جدية الولاياتالمتحدة في جعلهم "شركاء" حقيقيين في مشروع يخصهم بالدرجة الأولى، وهو رأي يشاركهم فيه عدد من القادة الأوروبيين الذين يعتقدون بأن أي محاولة لإرساء الاستقرار والمساعدة على اجراء الاصلاحات في منطقة الشرق الأوسط تمر، قبل كل شيء، عبر معالجة في العمق للصراع في فلسطين. أما في ما يخص الناحيتين الاقتصادية والسياسية، فيذكر هؤلاء ان أوروبا كانت السباقة في ذلك، عبر اتفاقات برشلونة عام 1995، بين الاتحاد الأوروبي وبلدان جنوب وشرق المتوسط، بهدف اقامة علاقات وثيقة معها تساعد على الاستقرار، من خلال المساعدة على زيادة النمو الاقتصادي وتحديث المجتمع المدني. وقامت أوروبا بالفعل منذ ذلك الوقت بصرف بلايين اليوروات في هذا المجال. بينما لم تلحظ الولاياتالمتحدة لمواكبة مشروعها سوى 150 مليون دولار، في وقت تخصص فيه حوالي ثلاثة آلاف بليون دولار للتسلح! لكن الإدارة الأميركية ادركت متأخرة صعوبة تنفيذ مشروعها لذلك عمدت الى بذل جهد واسع في المدة الأخيرة لتصحيح الشعور السائد بأنها قد تريد فرض ديموقراطية جاهزة على البلدان العربية والاسلامية. ولذلك، وبهدف التخفيف من وطأة الشق الأمني في المشروع، تقول اوساط في الحلف الاطلسي ان هناك دولاً كثيرة في المنطقة يهمها ان تقيم علاقات أوسع مع الحلف، كالتدريبات العسكرية مثلاً، أو تدريب الضباط، أو المساعدة في محاربة الارهاب. لكن الأوروبيين يؤكدون ان هذه المشاريع هي نفسها التي تطبق، بشكل أو بآخر في اطار "الحوار المتوسطي" مع سبعة بلدان في المنطقة. وهي مشاريع يستحيل تطبيقها بالاستراتيجية نفسها "من المغرب وحتى أفغانستان"، كما يسوّق له الأميركيون. من هذا المنظار يعتقد القادة الأوروبيون بأن المشكلة الشرق أوسطية هي قضية مركزية. وهم مقتنعون كلياً، وعلى رأسهم فرنسا، بأنه لن يكتب النجاح لأي مبادرة مشتركة مع الولاياتالمتحدة حيال شرق أوسط موسع، لا تأخذ في الاعتبار قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، والعمل جدياً على حله بدءاً ببعث "خريطة الطريق" مجدداً. لكن لا أحد يتوقع ان تنهمك الادارة الأميركية في حل القضية الفلسطينية في شكل جدي في هذا الوقت بالذات، وهي تقف على أبواب انتخابات رئيسية لا أحد يضمن حتى الآن فوز الرئيس بوش فيها، ما يقلل كثيراً من امكان البدء بمشروع شامل قبل ذلك الوقت. اضافة الى ذلك عدم الالتزام الأميركي بقضية التمويل المكلفة جداً، ما يدعو الى الاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة قد لا تقصد من وراء ذلك سوى التمويه لإظهار القضية العراقية في شكل جديد أمام الناخب الأميركي، وهي محاولة بدأت تواجه صعوبات بشكل واضح مع التطورات الاخيرة في بلاد الرافدين. من هذا المنظار، يتخوف الأوروبيون من ان يكون اشراك قوات الحلف الأطلسي في المشروع محاولة تمويهية لسحب القوات الأميركية من العراق لأهداف انتخابية. ويطالبون، بفصل الشق الأمني عن القضايا الأخرى في شكل واضح لاعتبارهم انه الهم الأوحد للإدارة الأميركية حتى لو حاولت اخفاءه ضمن سلة من المشاريع الانمائية والاقتصادية والديموقراطية، التي يعمل عليها الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، ضمن شراكة كاملة مع الدول المعنية. وجل ما يمكن ان يقدمه الاوروبيون للأميركيين هو "اعلان عام مشترك يفند مبادئ شراكة حقيقية للسلام والتقدم". ذلك ان غالبية الدول الاوروبية متخوفة من ان تكون للمشروع الأميركي خلفيات قد تجعل منه مشروع صدام بين معسكرين، الأوروبي والاسلامي، كما حصل سابقاً مع الاتحاد السوفياتي ولكن اثناء الحرب الباردة وفي ظروف مختلفة تماماً، وإلا، فما هو سبب اشراك المغرب وأفغانستان وباكستان فيه؟ من هذا المنظار، تتكون قناعة بأن المنطقة ستبقى، لسنوات، هدفاً لتغيرات مختلفة، ومن وجهات نظر مختلفة، ليس أقلها الاختلاف بين المقاربة الأميركية والحلول والاقتراحات الأوروبية المرتكزة، الى شراكة حقيقية بدأت منذ سنوات، وستحاول اوروبا الحفاظ عليها في وجه المشاريع الأميركية الغامضة. ان اختلاف وجهات النظر الاستراتيجية لا يبرر للعالم العربي الاختباء خلف ترهات، كتلك القائلة إن الاصلاحات التي بدأت بخفر في عدد من دول المنطقة هي خدمة للخارج، فالرد الوحيد على ما يخطط للمنطقة هو المضي في الاصلاحات التنموية والنهضوية والديموقراطية التي يبدو العالم العربي في أمسّ الحاجة اليها اليوم قبل الغد