جاء الإعلان الأميركي الأخير عن مبادرة جديدة موضوعها "الشرق الأوسط الكبير" لكى يعيد طرح الأسئلة الأساسية نفسها التي تقدم لها الادارة الأميركية الحالية اجابات مختلفة في كل مرة. اجابات مختلفة لكنها باستمرار تلف وتدور حول جدول الأعمال القديم نفسه الذي طرحه "المحافظون الجدد" مبكراً لفرض أمر واقع جديد على العالم كله شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً. أمر واقع تفرضه الامبراطورية الأميركية في سعيها للتسلط وقطع الطريق على أى منافسين مؤكدين أو محتملين... حالياً أو مستقبلاً. لقد أصبح ثابتاً الآن - ومن مصادر أميركية أساساً - أن غزو العراق واحتلاله خططت له ادارة جورج بوش الحالية منذ يومها الأول في السلطة، وأن هذا الغزو هو جزء من جدول أعمال متسع بامتداد العالم... وجرى المضى فيه بقوة وشراسة على حساب علاقات القوى السائدة سابقاً - خارج أميركا وداخلها. وبعدما تسلمت الادارة الأميركية الحالية السلطة وفي الموزانة الأميركية فائض متزايد غير مسبوق، تبخر هذا الفائض في لمح البصر وتحول الى عجز يتجاوز خمسمئة بليون دولار هذه السنة ويتزايد باستمرار. لقد جرى تصعيد ميزانية التسلح الأميركي بما جعلها تفوق مجموع انفاق الخمس عشر دولة التالية لها. شيء من هذا جرى في سنوات الثمانينات أيام رونالد ريغان. لكن وقتها كانت الحجة هى الحرب الباردة ومواجهة "امبراطورية الشر" للتعبئة ضد الأتحاد السوفياتي ومعسكره. حينما وقعت أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 جرى من اللحظة الأولى تقديم طرح مانع جامع بأن "الإرهاب الإسلامي" هو "العدو ويجب التوجه لضربه حيث هو قبل أن يعود لضربنا". هكذا أصبحت أفغانستان هى المحطة الأولى وبعد غزوها تابعنا المسلسل المعروف في تطوره من مواجهة أسامه بن لادن والقاعدة وطالبان الى مواجهة "محور الشر" الى غزو العراق. في هذا السياق لم يتوقف العالم كثيراً عند التحول المهم الذي جرى بمناسبة غزو أفغانستان وهو استدراج منظمة حلف شمال الأطلسي للمشاركة - ولو رمزياً - خارج منطقتها الجغرافية المحددة بميثاقها، في تطور استراتيجي هو الأول من نوعه منذ قيام التحالف كمنظمة أمنية في سنة 1949. في غزو العراق حاولت الإدارة الأميركية الحالية انتحال غطاء الأممالمتحدة فواجهت الفشل الذريع. حاولت أيضا استدراج منظمة حلف شمال الأطلسي فواجهت انقساماً أدى في نهاية المطاف الى مشاركة بعض الدول الأعضاء بقوات محدودة وان يكن بصفتها الانفرادية من دون غطاء الحلف. لكن هذا الفصل من الرواية - الخاص بغزو واحتلال العراق - لم يمض بالسلاسة التي تخيلها المؤلف. كما أن انفراد "رامبو" الأميركي بالفريسة العراقية لم يحقق أيضا التعبئة المنشودة في الرأي العام الأميركي لمدة طويلة... مجموعات محددة من الشركات الكبرى استفادت وغيرها لاحقاً. انما شرائح متزايدة من الرأي العام الأميركي بدأت تكتشف أنها تعرضت لتضليل مروع... سواء بشأن أسباب غزو العراق... أو بشأن علاقة ذلك بالحرب ضد الارهاب. وأخيراً عادت الإدارة الأميركية لتفتش في أوراقها القديمة فلجأت مرة أخرى الى منظمة حلف شمال الأطلنطي تجس النبض. السكرتير العام الجديد للحلف أخطر الرئيس الأميركي بأن التحالف قد لا يمانع بالمشاركة العسكرية في العراق "اذا طلبت حكومة شرعية في العراق مساعدتنا واذا حصلنا على مساندة الأممالمتحدة". هكذا وجدت الإدارة الأميركية نفسها في المربع الرقم واحد من جديد. وبدلاً من الاعتراف بالفشل اختارت اعادة طرح بضاعة قديمة بتغليف جديد. من هنا تابعنا مبادرة أميركية شاملة بعنوان "الشرق الأوسط الكبير" تطرح فيها الولاياتالمتحدة برنامجاً شاملاً للتغيير في منطقة تمتد من المغرب الى أفغانستان. وبخلاف اسرائيل فإن المنطقة تشمل الدول العربية جميعا زائد باكستانوأفغانستان وايران وتركيا. الإسلام اذن هو الغالب... والشبهة متجددة بأن المحافظين الجدد - بحكم سلطتهم في واشنطن - يمارسون عملياً صدام حضارات ادعوا سابقاً أنه غير وارد. المشروع الأميركي الجديد بدأ تلميحاً في خطاب ديك تشينى نائب الرئيس الأميركي أمام المنتدى الأقتصادى الأخير في سويسرا حينما أعلن: "ان استراتيجيتنا القادمة من أجل الحرية تعنى التزامنا بدعم ومساندة أولئك الذين يعملون من أجل الحرية ويضحون في سبيلها في أنحاء الشرق الأوسط الكبير... نحن ندعو أصدقاءنا وحلفاءنا الديموقراطيين في كل مكان - وبالتحديد في أوروبا - الى الأنضمام الينا في هذا المجهود". بعدها قامت الإدارة الأميركية بإخطار حلفائها الأوربيين، زائد كنداواليابان، بتفاصيل المشروع استعدادا لمناقشته رسمياً في اجتماعين مهمين في شهر حزيران يونيو المقبل. اجتماع قمة للدول الصناعية الثمانية الكبرى يستضيفه الرئيس جورج بوش.. واجتماع لحلف شمال الأطلسي في تركيا. المشروع نشرته جريدة "الحياة" في 10/2/2004 ويدعو الى تغييرات شاملة في "الشرق الأوسط الكبير" سياسيا واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً. انطلق المشروع من تشخيص محدد كان جرى الترويج له مبكراً من خلال تقريرين سابقين عن التنمية الإنسانية العربية 2002/2003 أعدتهما مجموعة من العرب المختارين بتمويل من الأممالمتحدة. هكذا تعاملت المبادرة الأميركية مع هذين التقريرين باعتبارهما شهادة من عرب على حال العرب... بما جعلها تشير اليهما عشر مرات تسجيلاً للنواقص الداهمة التي يعانى منها العالم العربي وتستدعي هذا التدخل الدولي الحاسم بقيادة أميركية. لم يدع أحد في العالم العربي أن الحال على ما يرام أو أنه لا توجد نواقص ومظاهر تخلف تستدعي التحرك بهمة لعلاجها. لكن هذين التقريرين بالذات الذين استشهدت بهما المبادرة الأميركية مطعون منذ البداية في نزاهتهما وموضوعيتهما وصدقيتهما حتى على المستوى الأكاديمي... وهو ما نبهنا اليه مع آخرين منذ صدور التقرير الأول. هناك - ضمن نواقص أخرى - بيانات ملفقة أصلاً وغير صحيحة. وهناك بيانات صحيحة جرى التعامل معها بتعسف غير مفهوم وبتعميم يرفضه الواقع. ومنذ التقرير الأول كانت أعلى الأصوات ترحيباً بذلك التشخيص خارجة من اسرائيل ومن المحافظين الجدد أنفسهم داخل أميركا وخارجها. انطلقت المبادرة الأميركية اذن من ذلك التشخيص لكى تبنى عليه حيثيات مشروعها الجديد عن "الشرق الأوسط الكبير" مغلفة المشروع كله بشعار جذاب هو الديموقراطية يتحمس له الجميع بطبيعة الحال. تماما تسجل المبادرة الأميركية - كجزء من التخلف العربي - أن "حجم التبادل التجارى في الشرق الأوسط متدن جداً، اذ لايشكل سوى ستة في المئة من كل التجارة العربية. ومعظم بلدان الشرق الأوسط الكبير تتعامل تجارياً مع بلدان خارج المنطقة وتوصلت الى اتفاقات تجارية تفضيلية مع أطراف بعيدة جداً بدلاً من جيرانها. ونتيجة لذلك أصبحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية هي الشيء المعتاد فيما لا تزال التجارة عبر الحدود شيئاً نادراً". كلام صحيح وعين الحقيقة. اذن طبيعى أن العلاج الرشيد هو زيادة الدول العربية تبادلها التجارى مع بعضها البعض ورفع الحواجز الجمركية. أبداً. العلاج الصحيح القادم عند هذا المشروع الأميركي الجديد هو تشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير "بالانضمام الى منظمة التجارة العالمية" وتوقيع التزامات اضافية تتعلق "باتفاق مشتريات الحكومة" لمنع اعطاء الأولوية للانتاج المحلي ثم الألتزام أيضاً ب "الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية" وربط المساعدات الخارجية الى تلك الدول "بتنفيذ هذه الألتزامات الخاصة بمنظمة التجارة العالمية" حسب نص المشروع. فلنلاحظ أن هذا كله لاعلاقة له بالديموقراطية وانما له كل علاقة بطلبات الشركات الأميركية ومعها كل الشركات الدولية عابرة القارات على حساب أى تنمية ذاتية حقيقية. أو - فلنأخذ مثلاً ما تدعو اليه المبادرة الأميركية الجديدة من انشاء بنك لتنمية الشرق الأوسط الكبير حيث إنه: "فى امكان مجموعة الدول الصناعية الثمانية ومشاركة مقرضين من منطقة الشرق الأوسط نفسها انشاء مؤسسة اقليمية للتنمية... تستطيع توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم و العناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية" ولهذا البنك المقترح أيضا "اتخاذ قرارات الإقراض أو المنح يجب أن تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة".. تتماشى طبعاً مع التوصيف الأميركي الجديد. تكاد تلك الصياغة تقترب بحذافيرها من مشروع مماثل جرى الترويج له في أعقاب اتفاق أوسلو اياه 1993 بهدف دمج اسرائيل في المنطقة اقتصادياً من خلال بنك يحدد لكل دولة مقدما مجالات التنمية التي تنحصر فيها دون غيرها.. بما يجعل اسرائيل هى القوة الصناعية التكنولوجية المسيطرة اقليمياً، وبأموال تأتي أساساً من ايرادات البترول العربي... وبأذعان سياسي مسبق من الدول العربية لتقسيم العمل الجديد هذا. تلك أمثلة - وغيرها كثير - وردت في المبادرة الأميركية الجديدة قبل أن ندخل في العنوان العريض المغري الذي هو "نشر الديموقراطية". العنوان هو بالطبع لجعل المشروع أكثر جاذبية لأوروبا.. بفكرة أنه يضاهى ما جرى في سنة 1975 بعنوان "اتفاقات هلسنكي" التي شملت 35 دولة من بينها الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتى ثم أوربا الغربية والشرقية وقتها. كان الهدف في حينها هو المقايضة بين الأعتراف النهائى بالحدود السياسية التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية وهو ما يريده الاتحاد السوفياتي وبين الألتزام بمعايير محددة لحماية المعارضة السياسية وحقوق الإنسان وهو ما تريده الولاياتالمتحدة. أصبحت تلك الاتفاقات بعدها الغطاء الذي سمح للولايات المتحدة بحماية المنشقين ضد النظم السياسية في دول أوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي بما أدى تدريجياً - في قاموس المحافظين الجدد حالياً بأثر رجعي - الى اسقاط كل النظم الحاكمة في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي ذاته الى خمس عشرة دولة كلها الآن في حاجة الى أميركا. فى موازاة هذه المبادرة الأميركية الجديدة طرح يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا في السابع من شباط فبراير الجاري مبادرة أخرى دعمتها تالياً فرنسا وبريطانيا لعمل شراكة أوروبية أميركية بهدف تحقيق الأستقرار والديموقراطية وحرية التجارة في الشرق الأوسط. المبادرة الألمانية تستدعي تحليلا خاصا بها وبدوافعها. لكن هنا أيضا مايثير القلق. من بين هذا الكثير مثلا أن ألمانيا التي كانت حتى الآن تعطي أولوية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلى أصبحت تقول بلسان وزير خارجيتها انه: "فى الوقت الذي يجب فيه عدم استبعاد ذلك النزاع الأقليمى الحاسم من خطط العمل فأنه يجب ألا نسمح لهذا النزاع بأن يسد الطريق أمام المبادرة من البداية". هذا جديد ومقلق. انما الذي يظل أكثر اثارة للقلق هو المنطق الحاكم في كل هذا الذي يجري بعيدا عنا وعلى حسابنا. ما يجري ليس أقل من تقرير مصير اقليم كامل يشمل العالم العربي بمجموعه ويمتد الى جنوب آسيا، بعيداً عن أصحاب الشأن أنفسهم وعلى الرغم منهم. فى شهر حزيران يونيو المقبل ستحاول أميركا تبليع وتمرير مشروعها الجديد هذا من الدول الصناعية الكبرى - بما فيها اليابان وروسيا - ثم من شركائها في حلف شمال الأطلسي بما يعني اعادة تقسيم مناطق النفوذ عالمياً، في أكبر تحول من نوعه منذ 85 سنة... وبغير حرب عالمية يكسبها المنتصر بالضربة القاضية. الوصف المناسب هنا ليس فرض "الوصاية". انه في أقل القليل "تقاسم غنائم حرب". * كاتب مصري.