يعيش الأوروبيون منذ 11 أيلول سبتمبر 2000، وبشكل أوضح منذ الحرب الأخيرة على العراق، هاجس عجز الاتحاد الأوروبي على الصعيد العسكري. وهذا ما يذكر به الوافدون الجدد الى "الاتحاد" دول "أوروبا القديمة" كلما سألهم هؤلاء عن سبب ولائهم المطلق للولايات المتحدة. ف"الأوروبيون الجدد"، المنعتقون حديثاً من السيطرة السوفياتية، ما زالوا يرون في الولاياتالمتحدة و"حلفها" الأطلسي السد المنيع في وجه حلف وارسو المنهار، بانتظار اتحاد أوروبي قادر، ديبلوماسياً وعسكرياً، على الفوز بثقتهم نهائياً. ولا أحد يلومهم على ذلك، فالاتحاد الأوروبي يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى قوة هشة، زادتها ضعفاً الإيديولوجيا الأميركية الجديدة والتغير العالمي المفاجئ الذي أحدثته العولمة. من هذا المنظار، وفي إطار هذا الوضع الجديد الذي فرض نفسه الى غير رجعة، مهما حلَّل المحللون، تبدو المهمة الملقاة على عاتق فاليري جيسكار ديستان شبه مستحيلة. فالرئيس الفرنسي السابق، الذي أوكل اليه وضع مشروع دستور للاتحاد الأوروبي الموسّع، على رغم حنكته وعناده وعمله الشاق، يقر بصعوبة مهمته من دون خوف ويحاول تذليل العقبات الكثيرة التي تحول، حالياً، دون وضع دستور نهائي متكامل للاتحاد المذكور، على رغم الخطوات الكبيرة الناجحة التي توصل اليها مع فريق عمله، والتي وافقت على معظمها أكثرية الدول المعنية. وهو يعلم، منذ ان بدأ العمل على الاتفاقية الجديدة في شباط فبراير 2002، ان الاتحاد الأوروبي لن يكون جاهزاً لتحمل مسؤوليات الغد الكثيرة إذا لم تتم إعادة تنظيم في العمق للاتحاد الذي يضم 25 دولة سيرتفع عددها قريباً الى 30، مع انضمام بقية دول أوروبا الوسطى اليه، وما ينتج عن ذلك من خلل واضح في التوازن، نظراً إلى وضع هذه الدول المعروف، يزيده تعقيداً الانقسام الشهير حول الموقف من الحرب على العراق. ومن أهم الانجازات التي قام بها جيسكار ديستان وفريقه، شرعة الحقوق الأساسية التي تؤمن حقوق المواطن وحماية أكبر له وهي الكرامة والمساواة والتضامن والحرية والعدالة، وهي حقوق تجعل من أوروبا الموحدة مساحة محترمة لحقوق الانسان الذي يصبح بذلك من القيم الأساسية على كافة الصعد. لكن هل يمكن ان تكتفي أوروبا، في وجه التفرد الأميركي العسكري، بأن تكون واحة لحقوق الانسان في العالم فقط؟ الجواب على هذا السؤال عبرت عنه مرات عدة وزيرة الدفاع الفرنسية ميشال آليو - ماري، مدعومة بالحلف الجديد مع ألمانيا وبلجيكا. والوزيرة الفرنسية تعلم جيداً ان الولاياتالمتحدة تحاول اللعب على التناقضات الأوروبية بتقسيمها الى "قديمة" وجديدة، وهي لا تشارك وزير الدفاع الأميركي رأيه ان الولاياتالمتحدة هي القوة العسكرية الوحيدة في العالم، بل تؤكد، مستعملة السلاح نفسه، ان القيادات العسكرية الأميركية لها وجهة نظر مخالفة للسياسيين، ذلك انها تعتبر انه من الأفضل توزيع المهام بين الحلفاء، أي الولاياتالمتحدة وأوروبا. كما تؤكد ان بناء دفاع أوروبي قوي بدأ يأخذ طريقه الى التنفيذ، خصوصاً بعد تذليل عقبات بريطانية أساسية خلال قمة تولوز تقرر فيها، بالاتفاق مع البريطانيين، انشاء قوة تدخل سريع ووضع أسس الوكالة الأوروبية لتطوير وامتلاك القدرات العسكرية. وبما ان أوروبا المتمكنة عسكرياً تتقدم بشكل ملحوظ، فهي ترى ان دول أوروبا الشرقية، التي لا تزال تعتبر حلف شمال الأطلسي رمز المقاومة في وجه حلف وارسو، قد تنتسب تدريجياً الى مشروع الدفاع الأوروبي الذي لن يكون، كما تؤكد آليو - ماري، مواجهاً لحلف شمال الأطلسي. فالهدف من ذلك هو انشاء قوة أوروبية قوية ضمن التحالف، يمكنها التدخل بشكل مستقل في حال امتناع الأطلسي او عدم تمكنه من ذلك. ما هو إذاً، في خضم هذه التجاذبات، وضع الأطلسي بحلته الجديدة المفصلة من قبل الولاياتالمتحدة؟ يعتقد كثيرون ان "العقيدة البوشية" الجديدة، التي وضعها له صقور الإدارة الأميركية من المحافظين الجدد، ستستمر طويلاً - وهذا أمر يجب التسليم به ولو على مضض - خصوصاً أن الرئيس الأميركي، الذي قالت عنه "سيدة الصحافة" هيلين توماس - التي منحتها الجامعة الأميركية في بيروت أخيراً دكتوراه فخرية، وهي التي عاصرت وغطت نشاطات تسعة رؤساء أميركيين، انه الأسوأ بينهم جميعاً، يسير بجنون العظمة المصاب به حتى النهاية. وهو، من هذا المنظار، يحاول تأخير موت الحلف الأطلسي الذي أعلنه كثيرون، قبل موعده ربما بكثير. وهو يؤكد ذلك بإطالة وجوده عبر مهام جديدة في أفغانستانوالعراق وللمرة الأولى من خلال الايحاء بإمكان تدخله في الشرق الأوسط كقوة فاصلة بين الفلسطينيين والاسرائيليين في حال التوصل الى سلام بين الطرفين. كما تؤكد واشنطن، بهدف إظهار سيطرة الحلف المستمرة ونظرته الواضحة ان قواتها المتمركزة هناك، لن تنسحب من منطقة البلقان في القريب المنظور. وتُظهر واشنطن أيضاً إرادة بعث حياة جديدة في جسم الأطلسي، بشكل واضح من خلال العمل على انشاء قوة تدخل للحلف، قادرة على التعامل مع التهديدات الجديدة، تتكون بداية من 5 الى 6 آلاف رجل، وتصبح جاهزة في تشرين الأول اكتوبر 2004. وهذا خير مثال على اعادة تنظيم الحلف وقيادته. ذلك ان "الناتو" لم يعد بحاجة الى فرق مجهزة للتصدي لدبابات حلف وارسو، بل الى قوات سريعة مجهزة بتقنيات عالية. وقد تبدو هذه الصورة التي هي من صنع الولاياتالمتحدة، واضحة أكثر إذا نظرنا الى إعادة تنظيم القوات الأميركية في أوروبا، التي يشرف البنتاغون على أدنى تفاصيلها. وهي من نتائج النظرة الاستراتيجية الجديدة السائدة في واشنطن، حيث تختلط إعادة تقويم مصدر التهديدات المستقبلية مع إرادة تدعيم "أوروبا الجديدة" العزيزة على قلب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، لولائها غير المشروط للولايات المتحدة، بحيث تستقبل بولونيا وبلغاريا ورومانيا قواعد أميركية تحل محل القواعد الألمانية، بعدما فقدت ألمانيا الكثير من أهميتها الاستراتيجية مع انتهاء الحرب الباردة. في هذه الأثناء، تؤثر أوروبا الصمت على مضض، للجم تفاعل الخلافات القائمة بعد الحرب على العراق، بانتظار جلاء الوضع أكثر، وربما تكوين القوة الأوروبية المنتظرة والتي لن ترى النور في المستقبل القريب. لكن الولاياتالمتحدة، السائرة قدماً على الخطى التي رسمها لها قياديوها من المحافظين الجدد، لا تكترث كثيراً، ولو في الشكل، لهذا السكوت الأوروبي. فهي، بتحرير الحلف من الحدود التقليدية للمنطقة الأورو - أطلسية، تشدد على ان الحلف سيتدخل في المستقبل حيث يقرر ذلك لمواجهة التهديدات والتحديات من أي مصدر أتت. فالقوات الأطلسية باقية في أفغانستان في المستقبل المنظور على رغم تدخل الأممالمتحدة المحدود، وكذلك الحال في العراق، حيث يقبل الأميركيون بتوسيع دور الحلف شرط الا يتعارض ذلك مع هيمنتهم السياسية والعسكرية، وبقبول أوروبي معلن، أو أقله بصمت أوروبي توافقي. لكن يبدو ان هذا التوافق الأميركي - الأوروبي مهدد في الصميم، بسبب الخلافات الواضحة في وجهات النظر. والولاياتالمتحدة تنظر بعين الريبة إلى التخطيط الأوروبي لبناء دفاعات حديثة. فأوروبا الموحدة عسكرياً وسياسياً تخيف جورج بوش وإدارته. وهو أمر لم يُخفِه الموالون للإدارة الأميركية في أحاديث صحافية متعددة. وظهرت الشرارة الأولى لهذا الخلاف مع ارسال القوة الأوروبية لإحلال الأمن في الكونغو، ما أثار حفيظة الأميركيين وحلفائهم الأطلسيين وعلى رأسهم اللورد جورج روبرتسون، الأمين العام للأطلسي، خصوصاً حيال الموقف الفرنسي "الاستفزازي". ذلك ان فرنسا أعلنت في البداية ان قوة التدخل هذه ستتألف من "تحالف متطوعين"، لكنها سارعت الى رفع العلم الأوروبي فوق هذه العملية. ما يعني برأيهم محاولة لزعزعة الاتفاقات الدائمة بين "الناتو" والاتحاد الأوروبي. وفرنسا ترفض ضمناً، وكذلك الدول الخمس عشرة في الاتحاد الأوروبي، الانصياع للأوامر الأميركية بالتدخل فقط حيث لا توجد قوات الأطلسي، مما حدا بها لتجاهل الانزعاج الأميركي من موقفها في الكونغو. وفي المقابل، صلّبت الولاياتالمتحدة موقفها في البوسنة، بعدما كانت أعلنت انها تريد الانسحاب من البلقان وطلبت من الأوروبيين الاضطلاع أكثر بمسؤولياتهم في هذه المنطقة. فهي تريد اليوم ان تبقى في البوسنة، خصوصاً أنها الحجة الوحيدة لوجودها العسكري في أوروبا، بحيث يمكنها من خلال الحلف استقبال دول أوروبا الشرقية التي تريد وضع مسافة بينها وبين موسكو المتأرجحة، وإقامة علاقات شراكة مع الولاياتالمتحدة، مرتدية الحلة الجديدة المفصلة لها في مكاتب الإدارة الأميركية، والتي تبتعد كل البعد عن مبدأ المشاركة. وهذا ما أكده الوزير كولن باول بقوله ان "تحالفات الدول المتطوعة" التي تختارها واشنطن ستتكاثر في المستقبل. من هنا يبدو ان تبريد الجبهة الأوروبية - الأميركية لا يسير في الواقع حسب الخطط المرسومة له، فدون ذلك عقبات ليس أقلها الرغبة الأوروبية الدفاعية المستقلة. وقد بدا ذلك واضحاً خلال معرض مطار لوبورجيه الفرنسي لصناعة الطيران، حيث سجل غياب ظاهر للمشاركة الأميركية الذي هو أكبر دلالة على استياء واشنطن من المواقف الأوروبية المتكررة، على رغم المحاولات الساعية الى تقريب وجهات النظر بين الفريقين، والالتقاء حول القيم الأصيلة للديموقراطيات التي يشدد الجميع على انها القاسم المشترك الذي يجب الارتكاز إليه لبناء علاقات أفضل. لكن ذلك يتطلب تنازلات. فهل تقبل الولاياتالمتحدة بتقديم تنازلات في سباقها التفردي نحو السيطرة العسكرية؟ وهل تقبل أوروبا ب"الاصلاحات" التي تطلبها واشنطن في مناطق نفوذها الجديدة - القديمة، أي الشرق الأوسط ودول الخليج والبلقان؟ من هذا المنطلق، تبدو إعادة تثبيت التوافق الأميركي - الأوروبي صعبة المنال في المستقبل القريب. ذلك ان على واشنطن الاعتراف بأن نجاحها على المدى الطويل مرتبط ب"غرب" ديموقراطي ومزدهر، يتمحور حول ركيزتين أساسيتين متوازنتين: أميركا من جهة، وأوروبا موحدة من الجهة الثانية. كما انه يصعب على أوروبا التسليم مثلاً بأنه يمكن تحويل العراق الى يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو الى ألمانيا المنزوعة السلاح بعد الحرب نفسها، بحيث تمتد عدوى الديموقراطية الى كافة دول الشرق الأوسط. ويبدو واضحاً ان ادارة الرئيس بوش أصبحت واعية لضخامة الجهد المطلوب منها للاستمرار في النهج نفسه، ان من الناحية المالية أم من الناحية العسكرية. كما انه من الضروري عدم الاستخفاف بالمشاكل السياسية الناتجة عن الاحتلال، فقد تفتح جبهات اخرى الى جانب العراق تتطلب مؤازرة أوروبية لن تحصل عليها الولاياتالمتحدة إذا استمرت في سياسة "تدليل" دول "أوروبا الجديدة" على حساب "القديمة". وهنا يؤكد المتابعون للأوضاع عبر الأطلسي ان العلاقات الأورو - أميركية لن تعود الى ما كانت عليه، لأن الأسباب الموضوعية التي قامت عليها عبر الحربين العالميتين وخلال الحرب الباردة في القرن العشرين، لم تعد، لحسن الحظ، موجودة. لكن يمكن للاعتبارات الاقتصادية وحدها الحفاظ على تواصل صلب عبر الأطلسي، ذلك ان العالم المعاصر يربط ربطاً وثيقاً بين الاقتصاد والأمن، ناهيك عن القيم الانسانية والديموقراطية التي ما زال الطرفان يشددان عليها كأساس مركزي للابقاء على هذا التواصل المنشود