لم يجفّ بعد حبر النقاش بين إيران والوكالة الدولية للطاقة النووية، حتى اندلع نقاش جديد حول دور باكستان في تزويد كل من إيران وليبيا وكوريا الشمالية التكنولوجيا النووية، الأمر الذي أعاد الموضوع الى نقطة الصفر، وطرح جملة أسئلة: لماذا تثار هذه المسألة في هذا الظرف بالذات؟ وما هي حقيقة ما جرى في باكستان بين أبي القنبلة النووية الباكستانية عبدالقدير خان الذي يعتبر في نظر الباكستانيين بطلاً قومياً، والمؤسسة العسكرية الباكستانية بمن في ذلك رئيس الوزراء الحالي برويز مشرّف؟ ولماذا عمدت باكستان الى بيع التكنولوجيا النووية؟ وما هو دور ليبيا في كشف هذه الأمور؟ أولاً: في التوقيت هناك من يرى ان إثارة موضوع بيع التكنولوجيا النووية الباكستانية لثلاثة بلدان بعض المصادر يجعلها أربعة مضيفاً اليها اسم ماليزيا تعود الى أربعة أسباب: 1- الاهتمام العالمي والأميركي خصوصاً بموضوع أسلحة الدمار الشامل ومنعها عن الدول والمنظمات التي يمكن ان تشكل خطراً على الغرب وعلى جيرانها، ومن أهمها وأخطرها السلاح النووي. 2- تفجير ليبيا لقنبلتها "الانفتاحية" بحيث كشفت للغرب كل أوراقها ولم تبقِ سراً فيها مما سمح بالتأكد من أن باكستان كانت ضالعة في بيع تكنولوجيا نووية لبرنامج ليبيا النووي، وإن كان ذلك في حدود معينة! فقد "شهد شاهد من أهله". وصار من الصعب بل من المستحيل على باكستان التستّر على هذا الأمر أو نفيه. 3- سعي الولاياتالمتحدة لإحراج، وربما لإقالة رئيس باكستان الجنرال برويز مشرّف، مع ما قدمه من دعم لأميركا ضد الارهاب، وفي حربها في أفغانستان. وهناك من يرى ان الزعيم الباكستاني لم يعد قادراً على الذهاب بعيداً في ما تريده منه أميركا: أي المساعدة في القاء القبض على أسامة بن لادن والملاّ عمر الموجودين في المناطق الجبلية على الحدود بين باكستانوأفغانستان نظراً إلى حساسية الشعب الباكستاني ازاء مثل هذه "المهمة". وربما يكون مشرّف رفض السماح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي الباكستانية للقيام بهذا العمل الذي يعتبر ورقة رابحة وفاصلة، في حال تمت، لتجديد رئاسة الرئيس جورج بوش وكسب معركته الانتخابية. 4- وهناك من يضيف سبباً رابعاً وهو قيام شبه تحالف أميركي - هندي، يرافقه تحالف استراتيجي هندي - اسرائيلي، ما يجعل الهند البلد الأكثر رعاية أميركياً واسرائيلياً. وبالتالي لا بد من إضعاف خصم الهند المباشر باكستان عبر اضعاف برنامجها النووي وبالتالي اضعاف القوى الاسلامية الراديكالية فيها من امكان استخدام الترسانة النووية الباكستانية في حال وصولها الى السلطة في اسلام آباد، فأميركا واسرائيل غير واثقتين من قدرتهما على التحكم الى ما لا نهاية ب"القنبلة الاسلامية". ثانياً: باكستان بين البطل السلطوي والبطل القومي في داخل باكستان يتواجه الآن رجلان، بل تياران: تيار السلطة والجيش وعلى رأسه مشرّف، وتيار علماء الذرة وعلى رأسهم عبدالقدير خان أبو القنبلة النووية الباكستانية وبطل باكستان القومي الموضوع في شبه اقامة جبرية من دون التجرؤ على اعتقاله وسوقه الى المحاكمة. حتى الآن يعترف خان بأن بلاده سرّبت الى إيران وليبيا وكوريا الشمالية تكنولوجيا نووية. وهذا ليس جديداً بل تم منذ أواخر الثمانينات واستمر حتى العام 1999. وحسب قوله فإن هذه التكنولوجيا المسرّبة لم تكن متقدمة، خصوصاً لتخصيب اليورانيوم. وعلى سبيل المثال، ودائماً حسب خان، فإن المعدّات والتكنولوجيا التي بيعت لإيران عام 1991 "كانت تفتقر الى جزء ضروري لتخصيب اليورانيوم بسبب ادعاء خان بأنه سحب جزءاً حساساً وضرورياً من أجهزة تنقية اليورانيوم". ويعترف خان، من جهة ثانية، بأن تسريب التكنولوجيا النووية الى الخارج تم بمعرفة السلطات الباكستانية المدنية والعسكرية وموافقتها: من رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو الى قادة الجيش: الجنرال ميرزا اسلام بيغ 1988 - 1991 والجنرال جيهنجير كرامات 1996 - 1999 والجنرال مشرّف نفسه. ولكن خان دقّق في معرفة القادة بالتسريبات وموافقتهم عليها. "فالجنرال ميرزا، حسب خان، كان على علم بتسريب تكنولوجيا ومعدّات الى إيران، والآخرون كانوا على علم بتسريبها الى كوريا الشمالية". وتحدّى خان القادة العسكريين بمن فيهم مشرّف، والجنرالات السابقين، بالحضور وجهاً لوجه "لأن الاستجواب لن يكون كاملاً من دون حضورهم جميعاً الى هنا ليتم استجوابنا معاً". وجزم خان "بأن مشرّف كان على علم بالتأكيد ببيع تكنولوجيا نووية لكوريا الشمالية كون مشرّف تولّى مسؤولية برنامج الصواريخ الباكستانية عندما أصبح قائداً للجيش في تشرين الأول اكتوبر 1998". في المقابل، نفى الناطق باسم الجيش الباكستاني ان يكون الرئيس مشرّف سمح بمثل هذه التسريبات او انه على علم بها. فهو لا يعرف عنها شيئاً قبل وصوله الى السلطة، وأنه لم تحدث أية تسريبات بعد العام 1999، أي بوصول مشرّف الى السلطة وإبعاد خان من منصبه. كذلك نفت بوتو أي علم لها ببيع بلادها تكنولوجيا نووية خلال سنوات حكمها. ولكنها أكدت ان مثل هذه التسريبات لا يمكن ان تحدث الا بمعرفة قادة الجيش. كما أكد الناطق باسم الجيش الباكستاني الجنرال شوكت سلطان، ان الرئيس مشرّف سيوجه كلمة الى الأمة حول هذه القضية، وأن لا أحد فوق القانون، مشيراً الى احتمال محاكمة خان قبل أن يعفو عنه مشرّف، في حين دعا زعيم الجماعة الاسلامية قاضي حسين أحمد الى تظاهرة وطنية تأييداً لخان وزملائه العلماء الستة المحتجزين متجاهلاً دعوة رئيس الوزراء ظفر الله خان جمالي الى عدم استغلال المسألة لأغراض سياسية. تضاف الى كل ما تقدم معلومات عن ان ابنة خان استطاعت الهروب من باكستان ومعها شريط يتضمن أسماء جميع الشخصيات الرفيعة المتورطة في القضية. وذهبت الصحافة الأميركية "واشنطن بوست"، و"نيويورك تايمز" الى التشكيك في اعلان قيادة باكستان أنها لم تكن على علم مسبق ببيع التكنولوجيا النووية، مما يزيد من الاحراج لمشرّف. ثالثاً: كيسنجر والسلاح النووي يؤكد هنري كيسنجر في مذكراته التي صدرت حديثاً بعنوان "القدرة الأميركية الجديدة" ان الهند فجرت قنبلتها النووية الأولى عام 1974، وأن أميركا عجزت عن منع باكستان عام 1976 من التمسك ببرنامجها النووي. وبالتالي، منذ السبعينات والهندوباكستان يتسابقان على برامجهما النووية. ولكنه يعلن ان أميركا توصلت الى تفاهم مع البلدين على عدم تسريب التكنولوجيا النووية الى جهة ثالثة وكذلك تكنولوجيا الصواريخ. الا انه يحلل الأسباب التي تجعل الدول تسعى للحصول على برامج تسلح نووية وهي ثلاثة: 1- ان تفرض الدولة نفسها قوة دولية على مستوى العالم وضع الهند. 2- لوجود دول مجاورة لها هي على عداء معها، وهي دول أضخم مساحة وعدداً وثروة فيكون السلاح النووي بمثابة قوة ردع للحفاظ على وجودها حال اسرائيل وباكستان. 3- لسعي بعض الدول الى كسر توازن القوى في منطقتها باعتبار ان السلاح النووي هو وسيلة فعّالة لثني جيرانها وردعهم ومنع كل تدخل خارجي في شؤونها وهذه هي حال العراق قبل الحرب وكوريا الشمالية... والدول المارقة. مع الاشارة الى ان السباق المحموم على السلاح النووي لا يتم الا في أماكن التوتر والصراعات: شبه القارة الهندية، وشبه القارة الكورية، والشرق الأوسط، والخليج. رابعاً: لماذا سرّبت باكستان التكنولوجيا النووية؟ يتبين من مجمل النقاشات والمعلومات الدائرة الآن في باكستان، سواء على صعيد علماء الذرة، وعلى رأسهم خان، أم على مستوى المسؤولين السياسيين والعسكريين، ان الدوافع التي حدت بالمراجع الباكستانية العلمية والعسكرية والسياسية انما تعود الى ثلاثة أسباب رئيسة: سبب ديني، أشار اليه صراحة العالم خان في اعترافاته 12 صفحة "بأنه باع إيران وليبيا تكنولوجيا نووية بين عامي 1989 - 1999 لزيادة عدد الدول الاسلامية التي تمتلك قنبلة ذرية. والأهم في الأمر أنه أعطى شخصياً علماء من ليبيا وإيران محاضرات خاصة في التقنيات النووية في بلدين مسلمين هما المغرب وتركيا". أسباب مادية، وهو ما يشدد عليه المسؤولون الباكستانيون وفيه ان العالم خان وزملاءه من العلماء تم اغراؤهم بملايين الدولارات من إيران وليبيا ثمناً لهذه التسريبات. ولهذا يكثر في الاعلام الرسمي الباكستاني هذه الأيام الحديث عن علامات الغنى الفاحش على خان لتحويل التسريب عن طابعه السياسي/ العسكري الى طابعه المادي/ المالي. بمعنى آخر ان خان باع الأسرار النووية فقبض ثمنها ملايين الدولارات! أسباب أمنية، إذ أكدت الوقائع ان باكستان بفضل خان حققت تقدماً مهماً في تطوير سلاحها النووي. ولكن القنبلة الذرية تبقى من دون نتيجة فعلية في مواجهة مع دولة شاسعة كالهند مثلاً ما لم تكن لدى باكستان القدرة على ايصالها الى أهدافها بفضل الصواريخ الحاملة للسلاح النووي وهو ما كانت تفتقر اليه باكستان. في المقابل كانت كوريا الشمالية تملك العكس: أي أنها طوّرت ترسانة صاروخية متوسطة وبعيدة المدى، ولكنها تفتقر الى السلاح النووي. وهكذا سعت الدولتان لتبادل الامكانات: باكستان تقدم لكوريا الشمالية تكنولوجيا نووية وكوريا الشمالية تمنح باكستان قدرات صاروخية وهذا ما حصل بالفعل. فقد قام قادة باكستانيون بزيارات سرية متعددة الى بيونغ يانغ وبعدها بوقت قصير قامت باكستان بأول عملية اطلاق ناجحة لصاروخ بالستي باكستاني متوسط المدى عام 1997 قادر على حمل سلاح نووي. وقد تكون هذه المقايضة هي التي شغلت بال اسرائيل أكثر من ان تعمد باكستان الى الاستعانة بصاروخ إيران "شهاب - 3" وبمدى 1300 كلم وتمنحها في المقابل تكنولوجيا نووية. لذلك ظل العسكريون والرسميون الاسرائيليون مصرّين على ما يسمونه "التهديد الإيراني" على رغم توقيع إيران على بروتوكول الوكالة الدولية للطاقة النووية. خامساً: إشارات نصرالله باتجاه ليبيا في سياق هذا المسار أصبح كلام السيد حسن نصرالله الأمين العام ل"حزب الله" لدى استقباله الأسرى المحررين من السجون الاسرائيلية، والذي وجه فيه تحذيرات واضحة لليبيا، مفهوماً أكثر في أبعاده الاستراتيجية - الاقليمية. في الوهلة الأولى ظن كثيرون ان نصرالله "يصفّي" حسابات محلية مع حركة "أمل" ويسحب من تحتها البساط بتبني موضوع استعادة الإمام المغيّب موسى الصدر. الا ان نظرة أكثر اتساعاً وعمقاً الى الأمر تبرز خمسة أمور: الأول: ان ليبيا بكشفها كل الأسرار الاستراتيجية للعمق العربي والاسلامي كما يرى نصرالله انما أضعفت بل ألغت كل احتمال لحصول دول اسلامية على قدرة نووية رادعة. وحتى القنبلة الذرية الباكستانية تصبح عليها علامة استفهام في المستقبل. الثاني: ان إيران هي المتضرر الأول من الموقف الليبي وبالتالي لا بد من ان تدفع ليبيا ثمن هذا الاضرار بالسعي الإيراني لامتلاك تكنولوجيا نووية. الثالث: ان سورية هي المتضرر الثاني من الانكشاف الليبي، خصوصاً أن العقيد القذافي دعا سورية الى التشبّه بليبيا في التخلي عن قدراتها التسلحية. الرابع: ان اسرائيل هي المستفيد الأكبر من كل هذه "الورشة" النووية بكشف وانكشاف السعي "الاسلامي" الذي تعتبره اسرائيل تهديداً مباشراً لأمنها. الخامس: ان بين شيعة لبنان وليبيا حساباً لم يتم تسديده بعد وهو تغييب الإمام الصدر في ليبيا. وقد سنحت الآن المناسبة، بعد الاستدارة الليبية 180 درجة، بالهجوم على ليبيا ومطالبتها على لسان الأمين العام ل"حزب الله" بإعادة المغيّبين المخطوفين وجلاء أمرهم... وإلا! الخلاصة، ان موضوع التكنولوجيا النووية وثبوت تسريبها الى كل من إيران وليبيا وكوريا الشمالية، أوجد حالة قلق في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. ويصعب القول ان أميركا لم تكن تعلم منذ فترة غير قصيرة بهذه الحقائق، ولكنها آثرت ابرازها في هذا الوقت بالذات لأسباب تتصل بمصالحها ومصالح اسرائيل الاستراتيجية والسياسية الانتخابية. وقد تكون لهذه المعطيات انعكاسات كبيرة وعميقة خصوصاً على أوضاع باكستان بالدرجة الأولى وعلى مصير الرئيس مشرّف بالذات، ومن ثم على أوضاع إيران التي تعيش انقسامات جذرية قبل الانتخابات، مما يسمح للقوى الخارجية بتشجيع قيام حرب أهلية ليست مستبعدة. ومثل هذه المعطيات تقوّي الرغبة لدى القيادة العسكرية الاسرائيلية بضرب كل هدف نووي تعتبره خطراً على وجودها مستخدمة الحرب الوقائية وحتى الحرب الاستباقية كامتداد للمنطق الأميركي في "محاربة الارهاب"