صدر عن دار الساقي في لندن نص لابراهيم يارد بالانكليزية عنوانه "من هنا أرى النهاية"، جاء يتسلل ببهاء صدقه وقسوة عريه الى عناوين سبقته: "في خضم المجهول" و"ضالة الانتماء" و"المراقبة عن بعد" و"قفص بلا قضبان". لم يكتب ابراهيم يارد إلا بالانكليزية لتزيد بها غربته غربة، وعزلته عزلة. بعد خمسين عاماً من الهندسة الكهربائية، حمل يارد معه كل الأضواء الساطعة لتضج بها أوراق "أدبه المكشوف" في عري الروح منه، وفي نزّ الجروح، حرّاً لا يساوم الحياة، متعالياً لا يهادن القدر، بل يتحدى بصمت عميق أشبه بصمت الحجارة، وبعين جريئة أشبه بزرقاء اليمامة كاهنة وعرّافة! هذا البصير الذي أهدى لعتمات الأيام "عيناً" واستبد بأخرى لئلا يكفّ عن بصر به يتملى مسارح العبث في سريالية دموية تشبه كذب الأساطير، وبدائية البدء، ما يزال وهو في الثمانين يعاقر الكتب، وينتشي بعين له واحدة، تبدد العزلة منه، في خلوات الكتب، وفي فضاءات السفر، وهي له دنانٌ يغرف منها ولا يرأف بها. فهو من الطفولة وحتى الشيخوخة كان يُمَتّع نفسه بفيض حياتين تسير الواحدة منهما بخط متواز لأختها. فمن الحياة الأصيلة نجح مهندساً وزوجاً وأباً وجداً وصديقاً، ومن حياته الموازية جعل لنفسه دهليزاً لا مدخل له ولا مخرج منه. ففي دهليزه اللانهائي لم يكن له دليل ولا روزنامة لكتابة تنتهي قبل الغياب. فهو إذ تقاعد، بنى لنفسه طابقاً علوياً حشد فيه صفحات العمر وناسِهِ، وهو في دهليزه السفلي كان يعود الى أبيه الغائب، المنشغل بتأويل العهد القديم ليسأله: "أحقاً أبي، انك هنا؟ كيف لي أن أخاطبك؟ أرجو أن تتذكرني أينما حللت". وكانت خشية الصبي ان يذبل في ذكريات أبيه، كما راحت ذكريات الطابق العلوي تذبل أثناء الحرب العالمية الثانية، لأن الحرب ما ان شلعت أبوابه العليا، حتى ظن ان سارقاً دخل بهدوء ليلملم أحلامه ويجمعها في كيس نحّاه جانباً! وفي شتات الذهن من آبي راوي النصوص الحزينة، تحتشد بيوت طفولته بجدرانها التي شاخت فوقها صورة أبيه، وعميه اللذين رحلا قبل ان يولد. هناك على جدران الطفولة وذكرياتها صورٌ لمشرّعين من الحرب العالمية الأولى لم يحفل بأسباب تدلية صورهم، وقد صار من الصعب عليه أن يقلب صفحات طفولته البعيدة، التي عرفها بغير ان يتماهى بها. فالماضي من آبي تجمد في الصقيع، والتوجس من نسيانه صار يؤرقه! غير ان لوحتين بقيتا معلقتين في ذاكرة آبي حتى صارتا هما الذاكرة لأربعين سنة تؤرخان لرحلة آبي الأولى الى أوروبا بحثاً عن "عين صناعية" تحل في محجر العين التي انتزعت لإصابتها بالسرطان. ففي باريس، ومن على ضفاف السين، اشترى آبي لوحتيه بثمن زهيد، وجعل منهما التمرينات الأولى لعينه "الواحدة" التي ستعيد قراءة العالم بدقته وكل تفاصيله من دون ان تمل أو تتعب. فآبي كثير الفضول، وكثير القراءات، وكثير الأسفار، وقليل الرحمة مع "عين واحدة" شاء ان تأتيه بكثافة العالم وزحمة الوجوه وزحمة الأيام. كانت اللوحة الأولى لعامل فرنسي يرتاح بعد شقاء، وقد التصق بالأرض عارية، وأمسك بزجاجة نبيذ، والى جانبه سجائره وفُتات خبزه الحافي، ومثله فتات حذاء من دون جوارب. أما اللوحة الثانية فكانت لدون كيشوت وحصانه، وتابعه سانشو بانزا وحماره. ولما أيقن آبي استحالة البحث عن العامل الفرنسي، انشغل بالبحث عن دون كيشوت بالذهاب الى اسبانيا موطنه الأصلي. هناك أخبر الإسبان آبي عن غريب جاء يسأل عن "كارمن" فقالوا له: "كارمن" ماتت منذ زمن بعيد، أما الحيّ الباقي الذي لا يموت فهو "دون كيشوت". هاتان اللوحتان احتشد فيهما عالم آبي ابتداء من أوروبا التي منحته عيناً صناعية انتهاء بغرفة العمليات التي انتزعت منه عيناً عليلة. فآبي في غرفة العمليات كان يلح على طبيبه ان يتعهد عدم انتزاع "العين البصيرة"، حتى جعل لها الطبيب علامة تفرقها عن أختها. وإذ عاد آبي من عالم الغياب الى وعيه، لم يكف في غرفة الانعاش عن تلمس عينيه المعصوبتين بالضمادات. وإذ أزيلت الضمادات عن عينيه الشريرة التي عوقبت لإخفائها الورم الخبيث، عرف آبي أن عليه ان يبدأ قراءة العالم من جديد بعد ان بدأ السمع يخونه حتى صار الوجود منه قفصاً بغير قضبان. وإذ شاء آبي ان يعود الى دهليزه حيث لا حاجة به الى عين أو أذن، حاول ان يتسلق جدران دهليزه ويهرب، ضبطته الذكريات بجرمه وأحكمت عليه أسوار الدهليز. ولمّا لم يعد لآبي من ذكرياته مفرٌ، حملها عبئاً ثقيلاً الى قمة عالية فراحت السنوات منه تتدحرج وتنضم الى خرائب الأعمدة، يمر بها الغرباء، وتنتشي بكثير غربتهم، وبكثير أعينهم التي تحدق ولا ترى، وبكثير آذان تصغي ولا تسمع. وإذ نظر آبي الى خرائب الأعمدة معتبراً، رأى ان البعض منها كان يغفو في أحضان العشب الذي يكبر بالمطر، وهو عشب تلوّنه الفراشات إذ تزوره، من دون ان تلقي بالاً الى الخرائب الغافية بين أحضانه ما جعل آبي يسأل: من هو الأكثر تنبهاً للفراشات: الخرائب أم الغرباء؟ ثم أيقن ان الخرائب والغرباء لا يجيدان النظر او الإصغاء الى كثرة صامتة لا تحدث ضجيجاً، مهما عظمت أعدادها. ففي كل هجرة الى ماضي الخرائب التي كان يعشق آبي ان يحمل صورها، يعود السؤال اليه: من عَمَّر المعابد والهياكل قبل ان تتهاوى، وأنّى لأصواتهم ان تعود حيّة بلغاتها التي تجعلني أتغرّب بلغتي؟ وإذ يغرق آبي في متاهات لغاته الانسانية يجتاحه موج الذكريات، إذ يعانق الماضي الحاضر بذكريات تزحمه وتحتشد بغير ان يستدعيها أو يشير اليها بالمجيء. فالخرائب إذ تعود بزمنها تغيّر مفهوم الزمن، الذي تهيب منه شوبنهاور جنوناً وشوقاً وحنيناً يرمي بصاحبه في عبث ما كان، وعبث ما هو كائن، وعبث ما سيكون. فالعودة الى الخرائب هي لآبي عودة لاستكشاف الزمن المنقضي، وليست عودة الى الأماكن الغافية. فالمكان لا يرحل، لذا هو غير مأسوي، أما الصيرورة المشتعلة بالانقضاء، ففيها وحدها مأساة الاستحضار الذي لا يحضر. وهكذا فإن مأساة آبي هي مأساة زمنه المنقضي الذي كان له فيه عينان، فبقيت منه عين واحدة، وكان له فيه ملء السمع، فبقيت منه الأذنان، وغاب عنهما سمعه. لقد صار زمن آبي حاداً كشفرة الخنجر يحصد بها ذكريات ماضيه فتسقط منها الدماء، ويشحب لون صاحبها الذي ترك لذكرياته ان تسرق منه دماء لم يعد يحتاجها. وإذ عادت الى آبي حكمة سليمان، اتخذ لنفسه مكاناً خلياً، ليرصد فيه حركة الحمائم الجائعة في مقاربتها الهادئة لحبات قمح تركها العابرون، فأيقنت الحمائم، أن أحداً لن ينازعها على حبات هي لها دون سواها. فالحمائم التي لا رأي لها في السرقة إثماً، وفي الجوع كفراً، وفي الاستعطاء مذلة، لها من حياتها نعمة العيش الذي لا تبرّم فيه، ولا ملل، ولا ذكريات، وانما حاضر لا يعجّ بالأجداد ولا بخرائبهم! وإذ بقي آبي رهين مقعده، هجر حمائمه التي أعياه طيرانها، وعاد الى أشباهه من النمل اللصيق بالتراب، يمشي بتؤدة، ويسعى الى الحياة بأعداد غير متناهية تتوزع جهات العالم الأربع. وما ان هبط آبي من طيران الحمائم الى زحف النمل حتى راح يسأل: مِمَ يختبئ النمل؟ ومن يهدده؟ وما المشاريع التي يحلم بتحقيقها في ساعات قادمة؟ وإذ أخطأ آبي بعصر حبلٍ من النمل تحت قدميه، كان الحبل الآخر منشغلاً بسعيه الى جهات الحياة الأربع، تاركاً حبل الموت وراء ظهره. فالحبل الميت من النمل جعل آبي يسمع "نغمات العدم، ونايات الفراغ" تعزفها أوراق الخريف تنهمر عليه وتكفنه بجفاف لها، أدركته الرياح، فانتزعتها عن أمهاتها لئلا تثقل الأوراق الميتة جذور الأم الحية. ولما غادر آبي قمته العالية وقرر ان يهبط بغير حمائم ولا نمل، الى تفقد أصحابه الذين التقاهم في الحياة، صُعق بهم، وقد مروا به عابرين من دون ان يلقوا تحية عليه تؤخر مسعاهم. إذ ذاك قال آبي في سرّه: أنّى للحياة ان تكتب سريعاً بغير مسودة، وأنّى لي ان أصحح أصلاً لا مسودة له! فآبي إذ أغوته كتابات لا مسودات لها، استحال عليه ترتيب أوراقه التي فيها طفولته، وطفولة أبنائه، وطفولة أحفاده، وطفولة أترابه الذين رحل بعضهم، واعتزله البعض الآخر منهم. وإذ ارتفعت أسوار العزلة والصمت والتأمل، عاد آبي الى صديق ألماني غادره في العام 1989 عائداً الى بلاده، فقال: يصعب جداً علي ان أكتب رسائل وداع، ولكن إذ ألحّ الأصدقاء عليّ، حاولت ان أستعيد صورة ذلك الغريب الأوروبي. وإذ حاول آبي ان ينهض بذكرياته عادت اليه صور الراعي الألماني وقطيعه الصغير يتحلق حوله في مناقشات أدبية. آبي كان غريباً وطارئاً على الألماني وقطيعه، لذا بقيت كلماته في الهوامش، تاركة لذاكرته ان تسعد بلقاء ذلك الألماني، الذي شعر آبي انه يعرفه منذ عهد بعيد. فالألماني كان يجمعه بالقطيع جذور مشتركة وثقافة مثلها لذا كان آبي يسأل: أنّى لهذا الألماني ان يفهم انساناً يختلف عنه جذوراً وثقافة؟ وكيف له ان يلوذ بكثير صمته أمام شرقي لا يقلّ عنه معرفة؟ كان آبي يتشوق لمناقشة ألماني لا يشاطره الرأي ولا يشبهه؟ فالألماني في النقاش ولو صفوياً في معتقده أو متشدداً في سلوكه الفردي، يبقى له من رحابة العقل، واتساع العلم ما يؤنسن فرحه بلقاء الآخر المختلف! هذا الآخر الذي يشاطره سطوع الشمس ودفئها، وبرودة الثلج وصقيعه، وخشية الغياب الذي يثقلهما بذكريات جامعة، تركت بصماتها في ثلاث سنين من عمريهما! ولما كان آبي يكره الوداع، والألماني يقف على أعتاب السفر قال آبي مودعاً صديقه: ستعود الينا في ليلة العبور من الألفية الثانية الى الألفية الثالثة، لئلا نعاني غيابك، أو تعاني أنت وحدتك. سنكون معك ضيف شرف في منزلنا، ونسعد بالاحتفال معاً. وإذ تذكر آبي غدر الأقدار، عاد يذكر صديقه الألماني قائلاً: إنك إذ جاءك خبرُ غيابنا صدفة، أدعوك في رأس السنة ان ترفع كأسك عالياً وتشرب نخب أصدقائك في لبنان. وقبل نهاية الألفية بعام، رفع بعض اللبنانيين كأسهم وشربوا نخب صديقهم الألماني الذي لن يعود! وإذ قرر آبي ان يغوص في زمنه القريب، قام ينتظر الاحتفال بمولد بوذا في أميركا، فانضم الى مهاجري الصين وتايلاندا وكمبوديا وفيتنام، لأنهم مثله خلعوا لغاتهم، ليتوحدوا بالانكليزية يحيون بها تقاليد أمكنة لم يروها، ولم يعرفوها، بل ظلت تتضوع في صلواتهم، وترتفع في منافيهم. وفي منفاه البعيد اصطحب آبي أحفاده الى حديقة الحيوانات، ليرى المساجين منهم والأحرار، ويصغي الى الدليل الأفريقي يتحدث عن حمار الوحش ويقول: إن الأفارقة يعتبرون حمار الوحش مختلفاً عن الحمير بخطوطه البيضاء، وهو ما ينكره الأوروبيون والأميركان على حمار الوحش إذ يعتبرونه مختلفاً عن الحمير بخطوطه السوداء! وأخيراً دخل آبي الى عيادة الطبيب الذي أسعفه بسماعة تُعيد اليه شيئاً من نبض العالم وضجيجه، وهناك لحظ رجالاً أنيقين أبوا الأخذ بسماعات الطبيب لئلا يُعيروا بشيخوختهم التي يمكن ان يخفيها الأصم منهم بكثرة الكلام ومحاذرة الصمت! وفي العيادة تعلّم آبي حقيقة عمر جاهر به، وزحمته تفاصيل كثيرة سمعها ورآها!