في عالم "كأنه خريف البطريرك" - ينتفي فيه الأمان، وتقوم دوله على جهاز "المتلصصين" - يتفجر القص/ التعويض يصور بطل هذا العالم، بمهابته الأسطورية، وبإزائه يطل الوطن بمآدب اطفاله وتعاقب الحانه الجنائزية ذات التكرار اليومي الممل، يحلو للبطل، البطل الذي يعشق الألحان، ان يتفرغ "للسماع" و"شهوة السماع" على رغم كثرة همومه "الوطنية" واستغرابه أرضاً لم تعد تلد سوى الموتى بعد ان شاخت من اكتظاظها "بالخصب" و"الولادة" ولو ان "النخيل" رحل عنها حاملاً فيئه، وتاركاً الشمس وراءه، لعنة تلهب رحم الأرض وتطهر القبور. انه العراق يضج كسيل عرم في الأعمال القصصية لعبدالاله عبدالقادر - في جزئيها الأول والثاني - الصادرة عن دار المدى للعام 2000. والمكان عند عبدالإله لا هو متخيّل ولا هو دلالة، انه ببساطة وجود" هذا الوجود هو الذي يدفع بعبدالاله للتحديق واعادة التحديق في "أشياء الوطن"، تمسح عنها غبار الايديولوجيات ويقدمها في صلب وجودها العاري. فآلان روب غرييه في كتابه "نحو رواية جديدة" ينظر الى الإنسان بوصفه غريباً، يحيا في عالم لا يأبه له، ولا يبادله النظر، لأن العالم أشياء صلدة لا تحب ولا تكره. هذا العالم المحايد الذي جعله "غرييه" وجوداً صرفاً أشعله عبدالاله شوقاً وحنيناً في قصص تتلاحق، ونفس يطول ويعزر لأن المكان/ الوطن هو البداية والنهاية، ولأن البشر لا يتحددون إلاّ في مكانهم. ولكن ماذا عن وطن يحكمه "الجنرال"؟ وماذا عن مدينة حلَّ بها الطاعون؟ وهذان العنوانان هما مستهل المجلد الأول، ومستهل خوف العجوز ذي اللحية البيضاء الذي قال: "دعونا نرحل اليوم، لقد أزف موعدنا، وحلَّ الشيطان في كل حواري المدينة. لا ارتباط لنا بهذه المدينة لأن قريباً لم يمت لنا في هذه الأرض" وخوفاً من الحياة في المنافي، وخوفاً من انمحاء الذاكرة، وخوفاً من الا يقوم شاهد على قبر ومثوى "مات الرجل العجوز في الصباح وقبر في وسط المدينة. مات بالسكتة القلبية لا بالطاعون". وأرَّخ الرجل العجوز بموته ان الوطن قبر ومثوى، لأن من لا وطن له لا دين له، ولأن الموت والولادة والهوية طقوس قدسية تتجذر في أرض تستقبل أبناءها وتحضن معابدهم وتضم قبورهم وتسمهم بميسمها. فكثرة الغياب تنسينا اسماءنا بعد ان تشوهها، ووجوه الغائبين تظل تؤرقنا، بعد ان يستحيل الوطن الى ممنوع مستحيل بحسب تعبير أرسطو. في الأعمال القصصية لعبدالاله انشطر العراق يضنى: نص الأرض التي تستنزل غضب الرب على معذبيها، ونص المنافي التي تجرجر الانتظار والحزن والموت. فعبر رحلة طالت كرحلة "يوليس" التي استنفدت من عمره عقداً، قصر العمر في قصص عبدالاله، وشاخت التجاعيد، من دون ان يشيخ الحنين. انها قصص هويات لا تعثر على هوياتها إلاّ في المكان، ولا تجد معانيها إلاّ في معيشه، لأن المكان يصبح الأداة التي تناهض الموت، وتتحدى سيل الزمن وتمنعه من كسر الملامح ولأنه بانتهاء المكان يتوارى الكثير من الذكريات ويبهت الكثير الكثير من عبق الناس وأصواتهم ووجوههم. فاضح هو العراق بحضوره الذي يشحب بجواره حضور الشخصيات على كثرتها، فكلما غابت واحدة، حضر الوطن كثيفاً بكثافة تاريخه الذي لا يزال يُقرئ الكون أسرار الخلود والآلهة منذ جلجامش وسفينة نوح وحتى مقبرة كل طفل/ نبي تضمه "أرض السواد" بتعبير عبدالرحمن نيف. و"غريب" عبدالاله يقضي أيامه "من دون ان يدرك عددها" وبمَ التعلل حيث "لا أهلٌ ولا وطن" وكأنه "حرام على بلابله "النخيل" حلال للطير من كل جنس". كان الغريب يتأمل "آلاف الأطفال بحقائب كتبهم المعلقة على أكتافهم فشده جمال المنظر، ولم ينتحر". ولكنه إذ رأى الأطفال تذكر "ان الجنرال عمّر طويلاً، وتجاوز عمره القرن بأعوام عدة، شارك في كل حروب القرن الماضي، في الحرب الأولى ضابطاً، وفي الثانية قائد فيلق، وفي الثالثة والرابعة والخامسة... وفي الحرب الأخيرة كان القائد العام. لم يخلع في حياته بدلته العسكرية ولا نياشين صدره. بقي مستيقظاً كل حياته ولم ينم ولو ان أجهزته الأمنية كان تعمل من دون هوادة، فقد استحال عليها ان تطرد عنه الكوابيس، كوابيس الجنرال والبطل القومي". وفي قصة "انيميا" أو "فقر الدم" تذكر الغريب انه يشبه "غصناً يابساً انقطعت جذوره وصار عرضة للريح" وكان يعرف ان الجذور تنبت في الأرض، و"لا تنبت جذور في السماء" كما يقول يوسف حبشي الأشقر، وانه على رغم عشقه للأطفال والطفولة، كان يتمنى الاّ يُرزق بطفل يكون "زينة الحياة والبيت"، ولما لم يستجب الله لأمنيته، رزقه وحيداً، أرضعته أمه دمها حتى جفّ الدم، ولم يبق سوى دم أبيه الذي لا يدر عن الطفل غائلة الموت، لاصابته بأنيميا حادة. وإذ جعل الغريب من ماضيه سجناً، لم يعد يرى من سجنه الا صورة الشرطي بعد ان احترق الشرطي نفسه ونسي الحابس الحديدي مقفلاً على يدي سجينه الذي "ما ان تكلم حتى قطعوا لسانه واجتثوا رقبته، فحمل الابن الذي كان يؤثر الصمت لسان أبيه، وصار له لسانان، وصار الشرطي يرتجف كلما سمع صوت الأب وصداه، فيعود الى القبر ويتأكد من تفسخ جثة الأب، ويردم القبر على وقع صوت الضحية وصداها". هي "أشياء" الوطن بها قصص عبدالإله وتزحمها، فالموت يزحمه الموت، والولادة يزحمها الموت، والطفوله يزحمها الموت، والشيخوخة يزحمها الموت، والمنافي يزحمها الموت، أما التاريخ فلا يزحمه سوى التاريخ، لأن التاريخ لا يموت، ولأن تاريخ "الجنرال" لن يموت، حتى ولو عَمَّرَ "الجنرال" طويلاً حتى ولو مات "الجنرال". هذا الجنرال الذي يشبه من بعض وجه جنرال ماركيز في "خريف البطريرك" لا شيء يحرك زمنه سوى الغربان، بما في ذلك عربات الطاعون أو عربات الموتى. "فالجنرال أكبر سناً من كل الرجال ومن كل الحيوانات القديمة في الأرض وفي الماء، ومن المستحيل التعرف اليه لأن أحداً لم يسبق له ان رآه قط، على رغم ان صورته الجانبية مرسومة على وجه العملة وقفاها، وعلى طوابع البريد، وشهادات نقاوة الدم، وعلى رغم ان منحوتاته الحجرية المبروزة مع تنين الوطن والعلم الوطني كانت معروضة في كل مكان، غير انها كانت نسخاً منسوخة عن نسخ كان الآباء يعرفون منها النسخ لا الأصول، لأنهم استمعوا لروايات آبائهم كما سمع آباء آبائهم عن آبائهم. أما الجنرال فكان دائماً يطلب تأخير الساعة ويأمرها بألا تعلن في منتصف النهار بل في الساعة الثانية ظهراً حتى تبدو الحياة أطول، وحكم الوطن أجدى، لأن الوطن من أجمل الابتكارات التي يصارع الجنرال في سبيله صراعه الضاري". فلولا الوطن، لما أحب الجنرال الحياة وهو المتأفف أبداً والمعترف لأمه: "لو أنك تعلمين كم يزعجني هذا العالم، لأن مجده مرُّ المذاق - ولأني الرجل الأكثر عزلة في الأرض، ولأنني لن أموت بعد ان قررت ان يموت الآخرون بدلاً مني، ولأن خلود الوطن من خلودي". وهكذا تبدو قصص عبدالاله عبدالقادر القصيرة كقصص الومض الذي يشبه الموت ويملأ الصفحات، وكأن عبدالإله شاء ان يشهد لموت المساجين، ولموت السجّانين، ولموت الأطفال وغرباء المنافي، من دون موت الموت الذي يميت ولا يموت بل يظل يطل بابتسامة الطاغية كل مساء ليرعب بها ليل الناس قبل أن يأخذهم الأرق. هذه هي السنة الثامنة في حرب الفاو التي ستقفل على كثير من الأسئلة والانتظار والمحطات والموت: فلا أحد يدري متى بدأت زينب تجلس على رصيف محطة القطار بعد ان أثكلها فقدُ أولادها السبعة، أما كوثر زوجة سالم فأخبرها الرفاق باستشهاد زوجها غير ان أحداً من المسؤولين لم يبلغها خبر موته وكأنه لم يمت لأنه ليس في عداد الأسرى ولا المفقودين ولا الموتى. ان بعض ومضات الجزء الأول بدأت تطول في الجزء الثاني لأنها لم تعد أحداثاً بل صارت هموماً يئن "علوان الأحدب" من ثقلها، ومن استحالة عودته الى "البيت العتيق"؟ وقد وجد ان كل الأحياء لها بيوت: فللعصفور عشه، وللنملة وكرها، وللنحلة خليتها، فأين "البيت العتيق" ببلاطه الذي لامس جسمه البض وهو يحبو فوقه؟ بعد خسارة "البيت العتيق" راح علوان يسأل نفسه: هل يمكن للإنسان ان يجن؟ وعاد الى أوراقه المبعثرة وكان منها: ورقة ليوم مجهول، وأخرى رمادية وثالثة خرساء قالت له: "ان الصمت مفتاح الجنون"، ثم انتهى الى "ورقة من منفى آخر" حيث الأرصفة تعرض جثثاً تبيع السفلس والايدز والبغاء، فأيقن ان اسواق الرقيق تفوح دائماً برائحة البترول ولو في أقصى الشرق من آسيا. وفي الشرق الأقصى حيث معرض الجثث تذكر علوان حبشة وتذكر الخندق الذي كان يحفره أثناء الحرب حتى إذا غار المعول في باطنه خرج منه بجمجمة انسان وعرف انه قبر قديم، فصرخ به الضابط: مت فيه بدلاً من ان يموت خارجه، ونام علوان مع الهيكل العظمي انيسه وراح يستنطقه ويسأله لماذا لا تموت الغربان في الوطن وتهرب العصافير دائماً؟ وتذكر علوان الأحدب "طلب اللجوء لسنة واحدة" واستعاد الطابور الطويل الذي ينتظر منفاه، وكانت عشرون سنة تقف بينه وبين شباك اللجوء، وكانت الأفراح تعمر بيته وتغمر زوجته وأم أولاده: "أبشري... لم يمت ابننا عباس، انه ما زال سجيناً"، "ابشري... سأنقل طفلنا الى المستشفى" وهناك "اقتحم غرفة الطبيبة ورمى بطفله على المصطبة وبصق بوجه الصورة المعلقة على الجدار وقرأ تصريحاً لكريستوفر بإبقاء العقوبات" التي كلما طالت صارت أكثر ذكاءً". ومن المستشفى الى المستشفى حيث نصحه الطبيب بعدم قراءة الصحف اليومية ومشاهدة نشرات الأخبار لعلّ ضغطه الشديد الارتفاع ينخفض، ولكنه خرج ليعاود ادمانه في قراءة الصحف والتدخين بكثرة والرحيل قبل وصول سيارة الاسعاف. أما الصحف اليومية فاستمرت في نشر اخبارها لقتل مزيد من البشر. وأخيراً قرر علوان الأحدب ان يصمت، فاتهم بجريمة الصمت، واستجوب وعذب ثم طرد من العمل وأصيب بالخبل. جاءه الخبل لأنه هرب من مدينته ومن دفن جثث النساء بأجسادهن المفضوحة التي تزرع الشوارع لقد جُنَّ الأحدب لأنه اسلم القياد للجنرال، ولما قرر ان يسترد عافيته خان العراق بحب جديد. ان قصص عبدالاله عبدالقادر لم تكن قصصاً بل كانت لوحات تكتظ بأجساد المشوهين والقتلة والبغايا والثكالى والأرامل والمنافي، لوحات من نيران أحرقته إذ احرقت ارض النخيل التي غطت عريها بجسر طويل بلغ مليون حفرة زينتها الشواهد التي لم تعرف قبورها ازهار دجلة والفرات والتي تنام في عز القيظ والهجير من دون ان يظللها فيء النخيل وقد احترق. * ناقدة وأكاديمية لبنانية.