أدرك الانسان منذ أقدم الأزمان اهمية توافر الماء في مكان اقامته واستقراره، بل كان من أهم الشروط المطلوبة لاستقراره واستيطانه، ومن ثم بنائه للقرى والمدن التي غالباً ما شيدّت قرب مياه الينابيع والانهار وشواطئ البحار. ومع تطور الانسان على مرّ الأيام زاد اهتمامه بالماء، لأنه من العناصر الأساسية للمحافظة على النظافة وتجديد النشاط، وأخذ يفكر بعدم الالتزام فقط بما تقدمه له الطبيعة من ميزات، وبدأ يطوع هذه الميزات لخدمة أغراضه، من هنا ظهرت الحمامات العامة وأخذت تتطور شيئاً فشيئاً حتى غدت من أهم المباني في أي تخطيط هندسي لأي مدينة وعبر العصور التاريخية كافة. وكانت الحمامات الدمشقية من أشهر الحمامات في الشرق، وقد قصدها الناس في الماضي لقضاء الوقت في الاستحمام والاستشفاء احياناً من الأمراض، ولإقامة بعض المناسبات الاجتماعية وفقاً لعادات وتقاليد موروثة. وما زالت بعض الحمامات الأثرية المنتشرة في المناطق السورية خير شاهد على أهميتها في الحياة الاجتماعية والصحية والرياضية، خصوصاً ان تنظيمها وهيكلها يدلان على تجاوزها دور النظافة والاغتسال لتتطور وتكون بمثابة أندية رياضية وملتقيات يقصدها العوام والخواص للاجتماع وتبادل الأحاديث والآراء. كما ان بقايا الأقنية الكثيرة تدل على شدة الحرص والاهتمام بإيصال المياه النظيفة الى الحمامات العامة، ومدى تطور الخبرات التقنية التي تمتع بها أولئك الأجداد حتى قدموا لنا في هذه الحمامات صورة زاهية من أجمل صور وروائع الفن الاسلامي، خصوصاً في طراز عمارتها وزخارفها ونقوشها... وربما بدا التفنن اشد وضوحاً في حمامات المدينة التي رصعت جدرانها بالقاشاني، وفرشت أرضها بالرخام وعقدت على أطراف قبابها وقرنها عقود الجص النافرة. وعن تاريخ هذه الحمامات أشار الباحث السوري منير كيال الى انه "كثرت في العصر الروماني الحمامات العامة التي تعتبر مبانيها في سورية من روائع فن العمارة المحلية، وينسب فضل بناء بعضها الى الأباطرة الذين أرادوا ان يعبروا بها عن مودتهم للمواطنين، وهكذا فقد شيدت حمامات انطاكية الشهيرة في عهد كاليغولا 37 - 41م وهارديان 117 - 138م وانطونان 38 - 161م ويذكر دوني فضل يوليوس قيصر 101 - 44ق.م وأمره ببناء حمام لسكان الاكروبول مزود بقناة، وهذا يدل على أهمية الحمامات في العصر الروماني". وكانت تدمر تزهو بمباني حمامات عرف احدها باسم حمام ديو كليسيان كما كان في بصرى حمامان عامان، يتألف كل منهما من غرف عدة. مما أثار تساؤلاً عما اذا كان هناك حمام عام للسكان وآخر للجنود. وتعتبر حمامات شهبا وتسمى فيليبوليس نسبة الى الامبراطور فيليب العربي الذي حكم روما من 244 الى 249م من اجمل الحمامات القديمة. أما في العهود العربية الاسلامية - طبقاً لمنير كيال - فقد زاد الاهتمام بالنظافة والصحة والاغتسال والطهارة، واعتبرت النظافة من شروط الصحة الأساسية، بل من الايمان، اذ لا يمكن ان يقف أي مسلم للصلاة إلا وهو طاهر من كل أوساخ أو نجاسة. وهذا ما يفسر أهمية الحمامات وانتشار مبانيها بكثيرة، حتى غدت مع أماكن العبادة المساجد من الضرورات الاساسية التي لا غنى للمدينة الاسلامية عنها. وتعتبر بقايا الحمامات التي تعود الى العهود الايوبية والمملوكية والعثمانية من روائع فن العمارة، ويبدو مبنى الحمام كمجمع فنون شد أنظار الرحالة وأثار إعجابهم واحتل مكاناً بارزاً من اهتماماتهم ودراساتهم وذكرياتهم وانطباعاتهم عن الشرق وسحره وأسراره. ودمشق هي احدى أمهات المدن العربية الاسلامية التي عرفت بحماماتها العامة والخاصة في الدور والقصور، وكان أهل دمشق يفخرون بحماماتهم إبان عهد الأمويين. وذكر ان الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك لما بنى مسجد دمشق الكبير الأموي تحدث الى أهل دمشق بقوله: "تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم فأحببت ان يكون مسجدكم الخامسة". وقد أثارت هذه الحمامات الدمشقية اهتمام المؤرخين، وكان أول من بحث فيها الحافظ بن عساكر 571 ه في تاريخه الكبير، وأفرد لها جانباً من بحثه عن التعريف بقني المياه التي في دمشق، فذكر 57 حماماً. وفي القرن الثامن الهجري أتى أبو علي الحسن بن أحمد الشافعي فعدد ما كان في أيامه من الحمامات فبلغت 137 حماماً، منها 74 داخل دمشق. أما يوسف عبدالهادي 909ه فقد قدم كتاباً مهماً في الحمامات عنوانه "آداب الحمام وأحكامه" ويمكن اعتباره صورة صادقة للتراث الشعبي في الحمامات إبان القرن العاشر الهجري، اذ تحدث عن شروط بناء الحمام، ودخول الرجال والنساء اليه ونفعه ومضرته والأوقات التي يدخل اليه فيها، وكذلك حكم مائه وبيعه وشرائه وأرضه وبلاطه، وحكم العورة فيه، ومن مدحه من السلف ومن ذمّه. وفي العصر الحديث كان كتاب المهندسين الفرنسيين ايكوشار ECOCHARD ولوكور LECOEUR 1942 عن الحمامات الدمشقية من أحدث وأشمل الكتب في هذا المجال، اذ بحثا في تطور حمامات دمشق حتى القرن التاسع عشر. وأوجزا الحديث عن مياه دمشق ووصفا الحمام وبحثا في الحياة الاجتماعية فيه. وجاء كتابهما في مجلدين وعنوانه "حمامات دمشق" Les Bains De Damas وعددا فيه حمامات دمشق في تلك الفترة وكانت تبلغ 60 حماماً، وبيّنا الى جانب معظمها أوقات عمل الحمام نهاراً أو ليل - نهار، وفيما اذا كان مخصصاً لاستقبال الرجال فقط أم انه مشترك في فترة مخصصة للرجال وهي: من الفجر حتى الظهيرة، وفترة مخصصة للنساء فقط من الظهيرة حتى غروب الشمس، كما اشار الكتاب الى ان معظم هذه الحمامات وقفها أهل الخير باعتبارها ذات نفع عام، على غرار المدارس والترب والبيمارستانات، لكنها أضحت تؤجر مع الأيام. وذكر ايكوشار وزميله ان 24 حماماً من أصل 60 وقفها أهل الخير، وقد مرت فترة غدا فيها وقف الحمام أمراً معتاداً وسائداً في دمشق حتى ان المستحم بحمام "فتحي" كان يستحم من دون مقابل ويأكل قرصين من "الصفيحة باللحم" مجاناً. كان هذا أيام زمان. أما الآن فقد استغني عن الذهاب للحمامات العامة، ولم يعد ارتيادها من القيمة في شيء كما في الماضي حينما كان يحرص جميع الأشخاص ذوو المكانات المرموقة والمحترمة في المجتمع على التردد عليها، أمثال السلطان سليم العثماني حتى أطلق على الحمام الذي كان يتردد عليه "حمام السلطان". وأدى انتشار الحمامات الحديثة في جميع البيوت الطابقية وتجهيزها بأحدث الوسائل الى تلاشي دور حمام السوق واقتصاره فقط على الطارئين على المدينة والأغراب وقلة من أهالي الاحياء القديمة أو من الميسورين المترفين الراغبين في دخوله مرة كل عام أو عامين ليبهجوا نفوسهم برؤية الجو الشرقي في الحمام. لذا قلت الحمامات العامة في مدينة دمشق وصار عددها لا يتجاوز 20 حماماً حالياً، واضطر اصحابها وملاكها الى تحويلها محالاً تجارية وأماكن للتخزين ومصابغ وحتى دور للسكن. ولم ينس الشعراء والكتاب تناول الحمام وما يجري فيه من حوادث طريفة بين الاحواض الساخنة والابخرة الحارة. في أشعارهم وكتاباتهم. وفي ذلك قال "الرقاشي" مدحاً بالحمام: "الحمام... يذهب القشافة ويعقب النظافة، ويفشي التخمة، ويطيب النغمة". وعن العرق المتصبب من رواد الحمام قال أحد الشعراء: لم أبغ بالحمام طيب تنعم أفنى البكاء دموع عيني أجمعا فبكيت فيه اسى بجسمي كله حتى كأن لكل عرق مدمعا أما الشاعر الدمشقي الظريف محمد بن سكرة، فقد قال بعد ان خرج حافي القدمين من الحمام، بعدما سرق حذاؤه أثناء اغتساله: ولم أفقد به ثوباً ولكن دخلت "محمداً" فخرجت "بشرا". أي دخل محمداً فخرج حافياً مثل متصوف زاهد كان يسير في شوارع دمشق دون ان ينتعل حذاء واسمه بشر الحافي! وهناك عدد من الحكايات الشائقة التي وردت في كتاب "ألف ليلة وليلة" جرت بعض أحداثها في الحمامات التي كان يتردد عليها القادة والملوك والأمراء وعلية القوم والطبقات الشعبية عامة من رجال ونساء وأطفال. أما أشهر الأمثال الشعبية التي يحافظ عليها أهل دمشق بل ويحرصون على ابقائها حتى الآن على الخارج من الحمام أي المستحم كلمة "نعيماً" التي يرد المستحم عليها بقوله: "الله ينعم علينا وعليك ويرحم والدينا ووالديك" وهي آتية غالباً من المثل الدمشقي القديم: نعيم الدنيا الحمام. ومن يتجول في هذه الحمامات سواء الأثرية منها أو القديمة المحدثة لا بد من ان يستوقفه النظام الهندسي البارع الذي انجزه الاجداد وطوره الابناء حتى وصل الى الاحفاد على هذه الدقة، فالمياه كانت تجر لهذه الحمامات بأقنية خاصة وتوزع الى مختلف الاقسام كل حسب درجة الحرارة المطلوبة الباردة والدافئة والحارة. وكان المهندس يهتم بتأمين الدفء والمياه الساخنة لقاعة الحمام وتزويد البحيرات خارجاً بالمياه الباردة التي تتشامخ منها النوافير بأشكال أخاذة، ويتخذ كل ما من شأنه نشر الدفء داخل الجدران وتحت بلاط الحمام. وكانت للتهوية أهمية خاصة فجعلت لذلك في وسط قبة الحمام فتحة مستديرة تغطى بقرص يرفع عند الرغبة في التهوية، أما النوافذ البلورية الزاهية بأجمل الألوان والأشكال فقليلاً ما كانت تفتح، واعتمدت في اتصال اشكالها على أضلاع خشبية معقودة بأسلوب الخيط العربي وهو ما اشتهر بالزجاج المعشق ولعل منظر اشعة الشمس وهي تخترق هذا الزجاج وانعكاسات ألوانه عبر أضواء وظلال متناغمة من أجمل ما يمكن ان تراه وترتاح له العين. العلامة: نشر المناشف وللوصول الى أحد هذه الحمامات الدمشقية العامة لا بد من دخول الحارات القديمة والسير في أزقتها الجميلة، ولكن كانت سعادتنا بعبور سوق البزورية الشهير المختص ببيع الجوز واللوز، السمن والزيت، الحنة، المقشات، الزهورات، ماء الورد، المجففات... للوصول الى حمام نور الدين باعتباره من أنشط الحمامات حالياً وأجملها تصميماً وجلسة، ويلاحظ من مدخل الحمام عدم اعتماد ديكورات خارجية أو هندسات خاصة تدل على ان هذا البناء حمام عام، وانما هو مدخل عادي كمدخل أي بيت دمشقي قديم، وربما عاد ذلك الى اعتمادهم في السابق على البساطة الخارجية كما كان في البيوت الدمشقية القديمة حتى الفخمة منها اذ من يشاهد جمودها وجفافها الخارجي لا يمكن ان يتوقع روعة جمالها الداخلي. لكنهم اعتمدوا للدلالة على وجود حمام نشر بعض المناشف والبشاكير على حبل خارجي أمام الباب وعلى الأغلب يكون في تلك الفترة المخصصة للرجال الراغبين بالاستحمام. وينسب الحمام الواقع الى جوار خان أسعد باشا، الى السلطان نورالدين محمود الشهيد ويعتبر من أقدم الحمامات الموجودة في دمشق حالياً، وقد ذكره ابن عساكر في تاريخه وابن رشد وابن عبدالهادي والاربلي وذكره ايكوشار وزميله كما اعتبرته المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية من جملة الآثار العامة في دمشق. أصاب هذا الحمام اهمال منذ 50 سنة حتى ان بعض أجزائه استعملت مخازن ومحالاً للتجارة والعطارة، لكن مديرية الآثار قامت العام 1975 بإخلاء ذلك المكان وأشرفت على ترميمه واعادته الى ما كان عليه في السابق مع اجراء بعض الاصلاحات التي لا تخرج عن الاصالة والذوق السليم. وتم ذلك بالتعاون مع أصحاب الحمام القدماء الذين حرصوا احياء لذكرى والدهم الذي عمل فيه على اعادته الى سابق عهده في استقبال الراغبين بالاستحمام باسلوب قد يتسم بالحداثة لكنه يسعى الى المحافظة على الاصالة خلافاً لما جرى في حمامات أخرى في دمشق طورت وجددت من الداخل ليصار إلى استغلالها مادياً وتجارياً. وللدخول الى الحمام لا بد من المرور بدهليز ضيق، مرصوفة أرضيته بدروب متعاقبة من الحجر الأسود البازلتي والحجر الوردي المزّاوي نسبة الى منطقة المزة بدمشق. اما الجدران فمكسوة بالكلسية العربية المؤلفة من لبن الكلس وقشر القنب المفروم اللتكت والجص، في حين يرتفع السقف على شكل قبة نصف اسطوانية جبلونة ذات قمريات متعددة، ونلاحظ في منتصف هذا الدهليز جناح لقص الشعر حلاق علمنا بأنه قد انشأ حديثاً لتأمين خدمة الحلاقة والقص للراغبين من زبائن الحمام. وكان هذا الجناح سابقاً خزاناً للمياه يستفاد منه عند الطوارئ، والجناح المقابل له كان ايضاً لخزن الماء، وتحول الآن مقراً لادارة الحمام يجلس فيه صاحب الحمام المعلم الذي يراقب دخول وخروج الزبائن وحسن خدمتهم واستقبالهم من مكانه وهو يدخن نارجيلته مع كأس من الشاي. من هذا الدهليز يفضي الممر الى "البراني" وهنا نشير الى أن جميع الحمامات تشابه في مخططها العام الذي يقسمها الى أربعة اجزاء متتالية: البراني والوسطاني والجواني والقميم. والى جانب المدخل الخارجي وقبل الوصول الى باحة البراني نلاحظ السدّة التخت التي يجلس فيها المحاسب مستقبلاً ومودعاً المستحمين، إذ يتسلم من الزبائن ما قد يودعونه من أمانات نقود، ساعة، خاتم... توضع في صناديق خاصة تصطف متراصة أمامه ريثما ينتهي أصحابها من الاستحمام. والى جواره صندوق آخر لحفظ النقود الغلة. كما يمكن للزبون أن يأخذ من المحاسب نوع الشامبو أو الصابون الحلبي الشهير الذي يريده. ويتم استقبال الزبائن عادة في هذا القسم البراني حيث يخلعون ويرتدون ملابسهم قبل وبعد الاستحمام ويتناولون بعض المرطبات أو شيئاً من القهوة والشاي. واعتادت نساء زمان على احياء أهم مناسباتهن الاجتماعية الخطبة، النفاس، الغمرة، حمام العرس في هذا القسم. وتأخذ باحة براني حمام نورالدين شكلاً رباعياً تحيط بها أربعة أقواس من الحجر البازلتي محصورة بينها مثلثات كروية رسمت عليها تزينات نباتية لأزهار بديعة، وعلى هذه الأقواس تتوضع قبة السقف على شكل قناعات مرتفعة مشكلة بذلك ما يشبه البرج المحاط بالنوافذ. ونستطيع ان نقول ان تلك النوافذ بألوان زجاجها الزاهي من أجمل ما في الحمامات العامة لأنها منفذة جميعها وفق شبكة هندسية بديعة من الخيط العربي على ألواح من الخشب المدكك أو الجص باسلوب الزجاج المعشق مما يسمح لاشعة الشمس بالتسلل الى البراني بأشكال وألوان آخاذة في الجمال، والى جانب هذه القفاعات تتدلى من السقف سلاسل السرج والمشكاوات والوسائل الأخرى التي ينار بها البراني. وتتوسط أرض البراني بحرة عالية الأطراف نسبياً من الحجر الوردي، توضع على أطرافها 4 منحوتات لسباع برية تنبثق من أفواهها المياه الباردة على شكل نوافير متلاقية، وتتوزع على أطرافها اصص لنباتات الزينة. ومن البراني وعبر درج متداري يمكن الصعود للسطح لنشر عدة الحمام. وينقسم البراني الى أواوين عدة يصعد الى كل منها عبر بعض الدرجات، وتنتصب في كل إيوان المساطب المفروشة بالآرائك والمساند ومحشوات القطن أو القش المنجدة بالدامسكو المطرز بأجمل الرسوم، وفوقها تعلق ألبسة الزبائن عبر المشاجب المنتشرة هنا وهناك، وذلك خوفاً من تجعدها، في حين يلف البعض ثيابهم في صُرَرْ بُقَجْ وتحفظ في خزائن خاصة بهم. وفي جدران البراني فتحات برفوف عدة كتبيات تصطف فيها صرر المناشف والفوط والبشاكير التي توزع على المستحمين، وغالباً ما يوجد في براني الحمام مشلح خاص منفرد يسمى "القصر" وهو مخصص للزبائن الميسورين الأكابر يصعد اليه بدرجات مفروشة بالسجاد ويتضمن مساطب اضافية، والعناية برواده خصوصية. أما الجزء الثاني من الحمام الدمشقي فيسمى الوسطاني وهو قسمين: وسطاني أول، ويعتبر ردهة انتقالية بين البراني والوسطاني الحقيقي، ويتألف من دهليز متعرج بقمريات متعددة، ويقبع على طرفي الوسطاني ايوانان في كل منهما مسطبة يستريح عليها الزبائن خلال فترات الاستحمام وبعد الانتهاء تماماً واستعداداً للخروج الى البراني. كما يحتوي كل ايوان على جرنين، لأن مكان الاستحمام ينتقل في فصل الصيف الى الوسطاني بدلاً من الجواني للطافة حرارته، ويتفرع لذلك عن الايوانين مقصورة أو أكثر تستخدم للاستحمام صيفاً. وفي الجدار المقابل لمدخل الوسطاني يوجد مدخل مماثل ببابين متقابلين هو الجواني حيث حلل الماء الحار وممر بيت النار. هنا يجلس الزبائن قليلاً قبل الاستحمام ريثما تتحلل مفرزات أجسامهم، وقد ينتقلون الى مسطبة الحرارة رغبة في الاستشفاء من بعض الأمراض خصوصاً أمراض البرد، ويلحق الجواني مقصورة الصنعة حيث يكيس يفرك ريِّس الحمام من يرغب من الزبائن ثم يليِّفه بالليفة والصابون، وقد قلت اهميتها هذه الأيام بعد عزوف أغلب الناس عن ارتياد الحمام العام. وتتم إنارة جميع أقسام الجواني والمقاصير المتفرعة عنه بواسطة القمريات وهو نظام قديم ما زال معمولاً به، ويعتمد أسلوب الفتحات الزجاجية بالقباب وذلك على شكل قنديل مقلوب بألوان متعددة يؤمن النور والضياء في النهار للاقسام الداخلية من الحمام، ويغني بالتالي المستحم عن تنشقه لرائحة الزيت المحروق بالسرُّج ج: سراج الذي كان يستخدم في الإنارة قبل اكتشاف الكهرباء. واضافة الى الاستمتاع بأشكال الضوء الملون بألوان زجاج القمريات المتخذة أشكالاً جمالية رائعة فإن المستحم تمكنه معرفة الوقت حسب حركة الضوء المار عبر زجاج هذه القمريات وهو أسلوب كثر استخدامه قبل انتشار الساعات. آخر الأقسام يدعى القميم وهو الجناح الخارجي من الحمام، ويدخل اليه من مدخل خاص به خارج الحمام ويشتمل على ثلاثة أقسام الخزانة، الموقد، سكن القيممي. وان قل شأن القميم في أيامنا هذه إلا أنه كان يحتل جانباً أساسياً في عملية سير الحمام يوم كان تسخين الماء يعتمد على القمامة وروث الحيوان والمواد المشتعلة الأخرى كالوقود. من عامل إلى "معلِّم" وأيام العز كان الحمام ينفل بالعمال حسب كبر الحمام أو صغره وموقعه ونوعية رواده ولكل منهم عمل مميز يؤديه وحده ولا يتعداه. وكانوا يتسلسلون سابقاً في هذا العمل على طريقة مشيخة الكارات وهي طريقة اعتمدت في جميع الصنعات أي المهن في دمشق فالعامل في الحمام يبدأ أولاً بالعمل كأجير ثم يصبح تابعاً الى أن يترقى "ريس"، فناطور ثم "معلم". وكثيراً ما توارث الابناء هذه الصنعة عن آبائهم وأجدادهم، إلا أنها أصبحت من النوادر هذه الأيام، اضافة الى قلة عدد العمال في الحمامات، وذلك ليس لعدم توافرهم بل لقلة من يجيد منهم أصول الصنعة وتقاليدها في التعامل مع الزبائن، وقد يكون لتناقص عدد الحمامات وعزوف الناس عن الارتياد لظهور البديل في البيوت المعاصرة دور ايضاً، زد على ذلك ما يتبعه من قلة في المردود المادي الذي يتقاضاه العامل، ويعتمد بشكل أساسي على الاكراميات من رواد الحمام في مقابل ما يقدمونه من خدمات وتأمين لبعض المستلزمات. ونستطيع أن نذكر من العاملين في الحمام في فترة الرجال. المعلم: غالباً يكون صاحب الحمام أو مستأجره أو مموله. ويعمل جميع من في الحمام تحت امرته في علاقة تسودها المحبة والألفة وتقوم على العون المتبادل، ويعتبر المعلم المسؤول عن سلوك جميع العاملين وتصرفاتهم، وإذا ما أخل أحدهم بالآداب العامة والأصول المتبعة فغالباً ما يستغني عنه المعلم مهما جلّ عمله أو عظم لأن السمعة خاصة في الاحياء القديمة من أهم الأمور وأساسية في أي تعامل. الناطور: من ينوب عن المعلم في حال غيابه، والمسؤول عن نظافة ومظهر الحمام، ينشر الفوط والمناشف ويقدم للزبائن خلال وبعد الاستحمام ما يطلبونه من مرطبات ومشروبات، وهو من يستقبلهم ويساعدهم في خلع ملابسهم ثم يلفهم بالفوط والمناشف، يقدم لهم القبقاب ويحفظ لهم أحذيتهم بعيداً، كما يحفظ ملابسهم في بُقَجْ خاصة، ريثما يفرغون من الاستحمام ليبدل لهم المناشف بعد خروجهم من الجواني. الريس: يعمل في مقصورته الخاصة في الجواني، حيث ينحصر عمله في تحميم وتكييس تفريك وتلييف الزبون إذا رغب، وهو يعمل على حسابه، من دون أجر، ويعتمد في دخله على ما يتقاضاه من اكراميات الزبائن الذين يقوم بخدمتهم. التبع: يعمل تحت اشراف المعلم والناطور والريس وهو أشبه بدولاب الحمام، يشطف أقسام الحمام كافة، ينقل الماء، يعدل الحرارة، ينشف جسم الزبون... الخ. وفي فترة استحمام النساء غالباً ما تشغل العاملات نفس الوظائف السابقة ولكن بألقاب مختلفة المعلمة، الناطورة، الأُسطة مكان الريس والبلانة مكان التبع. وكان الذهاب إلى حمام السوق كما كانت تسميه نسوان الشوام في الماضي نوعاً من التقليد الاجتماعي الذي تحرص عليه كل سيدة في دمشق، الميسورات منهن وغير الميسورات، وذلك لارتباطه بأشياء عدة، كالرغبة في قضاء ساعات من السرور والبهجة والتعارف وقص السير وسرد أخبار الأخريات من الجيران والمعارف، خصوصاً انهن قليلات الخروج. والأماكن التي يتوجهن اليها محدودة، فكان المقهى بالنسبة الى الرجال أو المنتدى بالنسبة الى ميسوري الحال، لكنهن لا يذهبن الى الحمام عجالاً ودونما تخطيط كارتياد الرجال له، وانما يجهزن له كل المستلزمات ثياب نظيفة، مناشف، مآزر، طاسة، ترابة حلبية، مشط، حنة، ليفة، كيس، صابون... والمتطلبات بعض الأطعمة للفطور والغداء كل حسب حالتها المادية فالميسورات يأتين بالصفيحة مع اللبن والفواكه، ومن هن دون ذلك تأتين بالمجدرة والكشكة والمخلل أو السندويش وغالباً كانت المرأة تأتي الى حمام السوق بصحبة بناتها وأطفالها وزوجات أبنائها الكناين أو مع قريباتها، جاراتها ومعارفها. هذا في الأحوال العادية. وفي المناسبات زواج، طهور، العودة من الحج، النفاس.... فكثيراً ما يحجز الحمام بالكامل لمدعوي أصحاب المناسبة من الأهل والأقارب، الجيران والمعارف حيث يدقون الطبلة والعود ويرقصون فرحاً وابتهاجاً بخطبة أو عرس... ثم يستحمون ويأكلون الضيافة من مختلف أنواع الأطعمة، الفواكه والمرطبات، كل ذلك على حساب صاحبة الدعوة، ولا نغالي إذا قلنا أن أغلب الزيجات كانت تتم عن طريق حمامات السوق العامة إذ تشرع الأمهات بالبحث عن زوجات لابنهائن من بين صبايا الحمام، فتنتبه لقوامهن وتناسق جسمهن وحركاتهن العفوية ومشيتهن، وتسأل الناطورة عن مستواهن ومكانتهن وبذخهن في الحمام، فإذا اعجبتها احداهن فردت صرتها بجوارها وبدأت بضيافتها من باب اللياقة، وان وجدت تجاوباً تذوقت طعامها وساعدتها في تحميم الأولاد فتتقرب من الفتاة أكثر لتتفحصها فإن راقت لها تفتح معها الموضوع بشكل جدي وتأخذ منها عنوانها. ويتكرر في الحمامات ببعض الأحيان حدوث بعض الانزلاقات باعتبار أرض الحمام مبللة دائماً بالماء والصابون أو حصول مشاجرات سواء بين الرجال أو السيدات وعلى الأخص شجار الضرارير إذا اجتمعن في الحمام، ودور الطاسات والقباقيب معروف في هذه المعارك! أما السرقات فقد كانت جد مألوفة في الحمامات العامة سرقة ثوب، حذاء، قميص، مشط لكن أغربها سرقة الأولاود حديثي الولادة، لكنها ظاهرة واقعية كثيراً ما حصلت في حمامات السوق، إذ تعمد الأم في بعض الأحيان الى ترك رضيعها في البراني مع بعض الأقارب أو أولادها الصغار ريثما تنتهي من الاستحمام في الجواني وهنا تكون الفرصة مهيأة لسرقة الطفل... واضافة الى حمام نورالدين، هناك عدة حمامات عامة في مدينة دمشق ما زالت بحالة جيدة وتستقبل الزبائن يومياً كحمام الظاهري، حمام الشيخ ارسلان، حمام البكري، حمام الدرويشية، حمام المقدم.