يثير موضوع الادباء الذين كتبوا او يكتبون بغير لغاتهم الوطنية سجالات لا تنتهي. وفي العالم العربي تُطرح هذه المسألة بحدة لأن عدداً من الكتّاب العرب أبدعوا في اللغتين الفرنسية والانكليزية، مع انهم لم يقعوا في جاذبية الاستلاب الثقافي لأن "أدبهم" كان مقاوماً للسيطرة الاستعمارية التي اتخذت شكلاً لغوياً في معظم الاحيان، وذلك واضح لدى أدباء المغرب العربي حيث تأخذ القضية ابعاداً تتجاوز الادب الى السياسة والاديولوجيا. واذا كان بعض الأدباء العرب، ومن موقع ثنائية العطاء، كتبوا بلغتهم الأم العربية، كما كتبوا بلغات اخرى، مثل جبران خليل جبران وامين الريحاني ونجيب عازوري وغيرهم، إلا ان هناك كتّاباً جزائريين ولبنانيين ومن بلدان عربية اخرى لم يكتبوا الا بلغة اجنبية تحتاج الى تعريب للاطلاع عليها. والواقع ان هذه القضية اصبحت دولية فأكثر من مئة كاتب تداعوا للاجتماع اكثر من مرة في فيتنام وفي الجزائر لمناقشة هذه المسألة، وتزايد الاهتمام بها لان عدداً من هؤلاء الادباء عانى من عدم الانصاف لأدبهم سواء في حياتهم او بعد مماتهم، فلم يضعهم مؤرخو الادب في مصاف المبدعين باللغة التي كتبوا فيها، ولم يُنصفهم مؤرخو بلادهم باعتبارهم "خوارج" على لغتهم وأدب بلادهم، فلا هم احتلوا مواقع تتناسب مع إبداعهم في ادب الغير ولا هم أُنصفوا في وطنهم الاصلي، كمعظم مشاهير الادباء في الجزائر. والمشكلة ان ابداع هذه الفئة من الادباء لم يستطع ايجاد مكانة لها، او يحصل على اعتراف كامل بها لا في فرنسا، حيث يظلّ الكاتب الفرانكوفوني كاتباً عربياً او افريقياً اي قومياً يكتب بالفرنسية، ولا في بلاده حيث لا يقرأ هذا الابداع الا قلة ممن يتقنون اللغة والثقافية الفرنسيتين. والسؤال هو: هل يبقى مثل هذا الادب وبهذا المعنى هجيناً؟ ان ادباء الجزائر الذين ابدعوا بالفرنسية يرفضون، في معظمهم، اعتبار ادبهم جزءاً من التراث الاستعماري الفرنسي، ويعتبرونه ادباً عربياً يحمل الروح العربية ويعبّر عن الواقع الجزائري على رغم لغته الفرنسية التي تتراجع. وقد عبّر عن هذه الحقيقة كاتب ياسين بقوله: "كانت هناك حرب بيننا وبين فرنسا، ومن يقاتل لا يسأل نفسه ليعرف ان كانت البندقية التي يستعملها فرنسية او المانية، انها بندقية، وهي سلاحه، ولا تخدم الا معركته". لقد كان على الجزائريين وقد حرمهم الاستعمار من لغتهم الام ان يستخدموا لغته وهي على حد تعبير مالك حداد: "لغة لا شك رائعة ولكنها ليست لغة اجدادنا..." الامر الذي حملهم على ان يبدعوا انسجاماً وتنسيقاً بين عبقريتهم القومية واداة لغوية اجنبية كان لا بد من استخدامها. ويشعر القارئ لدى قراءته تلك المؤلفات، انه يقرأ افكاراً عربية في صورها وفي رؤاها وفي ذهنيتها، مترجمة الى لغة اجنبية، لانه في الواقع كان يستحيل على هؤلاء الكتّاب ان يقطعوا علاقاتهم بعالم الطفولة والشباب والتراث الثقافي الخاص. وعليه فإن هذا الادب على رغم كل شيء، يعتبر ادباً جزائرياً اصيلاً لا يمتّ بصلة الى الادب الفرنسي الا من حيث الأداة التي صيغ بها. ثم ان هذا الادب ظل ملتزماً بقضية التحرر الوطني، وحاملاً الهوية النضالية التي يتسم بها الادب الجزائري المعاصر المكتوب بالعربية الفصحى او العامية... ومن ثم يمكن القول ان هذا الادب يتسم بصفتين اساسيتين: الاولى كونه يعبّر عن ذاته بالفرنسية، والثانية كونه يفضح الاستعمار بلغته ويندّد به، قبيل قيام الثورة وفي اثنائها وبعدها، حتى انتصارها. ولهذا اخذ الادب الجزائري المكتوب بالفرنسية بعداً انسانياً عندما جعل كتّابه في المسألة الوطنية والحرية المضمون الانساني والاجتماعي لأفكارهم. وتأكيداً لهذا البعد الانساني صدرت اعمال هؤلاء الكتّاب عن اعتقاد بأن حرب الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي لم تكن حرباً عادلة وحسب بل هي حرب من اجل المدنية ومن اجل الحضارة ايضاً. لقد تعددت وجهات النظر حول توصيف النتاج الفكري الذي وضعه كتّاب وباحثون وشعراء عرب بلغات اجنبية، فهناك رأي يقول أن اللغة ليست مجرد رموز ولكنها تاريخ فكري للأمة وذاكرة للشعب ولأدبه تصل بين الاجيال المتعاقبة، فمن خلال الفاظها ونتاجها الثقافي يدرك ابناء الامة حقائق الحياة والكون وبها يعبّرون ويبدعون وعليه فان اللغة هي الصورة الناطقة للفكر الذي يخصّ الامة، وحتى الوعي السياسي والقومي عندها لا يأخذ مداه الا بعد ان يقترن بوعي لغوي سليم. وهناك من يقول ان الوعي اللغوي يستند الى اعتبار اللغة وأدبها وسيلة للتواصل التاريخي والفكري وهي ايضاً وسيلة للوحدة السياسية تدفع اليها ثم تحافظ عليها. والظاهرة الجزائرية تبقى ظاهرة مرحلية وعرضية وهي تتراجع عملياً ولو ببطء امام موجة التعريب التي تفرض نفسها، واختيار افراد من شعب للكتابة بلغة اجنبية يحوّلهم الى استثناء يؤكد الحقيقة ولا يلغيها. فمن كتب او يكتب بلغة اجنبية ليس بالضرورة مفتتناً ببلاد هذه اللغة كدولة وتاريخ، وانما هو ربما مفتتن باللغة وباحتمالات اختراقها لذاته واختراق ذاته لها. انها وجهات نظر، لكن المؤكد ان القضايا الادبية لا دور للقاضي ولا للحكم او المنحاز فيها. فلتأريخ الادب والنقد حيثيات اخرى. والمؤكد ان الحقيقة الادبية يقررها الدارسون والباحثون ومؤرخو الادب وليس القضاة. "الوسط" اختارت ثلاثة مثقفين جزائريين مقيمين في فرنسا ويكتبون بلغتها وحادثتهم.