البيان النهائي للميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م بنفقات تقدر ب 1,285 مليار ريال وإيرادات ب 1,184 مليار ريال    العراق يشهد اجتماعًا ثلاثيًا حول أهمية الحفاظ على استقرار وتوازن أسواق البترول العالمية    حكومة نتنياهو تناقش التسوية.. و20 غارة إسرائيلية على بيروت    يايسله يطلب تعاقدات شتوية في الأهلي    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على الغرافة    مجلس الوزراء يقر ميزانية 2025 ب 1.184 تريليون ريال    التعليم تسلط الضوء على تمكين الموهوبين في المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع    تنفيذ 248 زيارة ميدانية على المباني تحت الإنشاء بالظهران    خادم الحرمين يوجه بناءً على ما رفعه ولي العهد: تمديد الدعم الإضافي لمستفيدي «حساب المواطن» حتى نهاية 2025    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    خسارة الهلال وانتعاش الدوري    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ستة كتاب من المغرب العربي يشاركون في ندوة "الوسط" . الأدب المغاربي بين الازدواجية اللغوية والخصوصية الثقافية : انحسار وصاية المشرق وانهيار المشروع الفرنكوفوني
نشر في الحياة يوم 10 - 11 - 1997

"ينظر المشارقة إلينا دوماً نظرة فوقية، وعندما ينشرون لكاتب مغاربي مهما كانت مكانته، يشعرون وكأنهم يتصدّقون عليه!"، هكذا يطرح إدريس الخوري احدى اشكالات الأدب المغاربي الذي يحتلّ اليوم مكانة أساسيّة في المشهد الثقافي العربي. فهذا الأدب الذي ينظر إليه أحياناً كامتداد للحركة الأدبيّة المشرقيّة، وأحياناً أخرى كظلّ للغة المستعمر التي اتخذها بعض المبدعين وسيلة للتعبير بحكم ظروف تاريخيّة، يستند إلى شرعيّة تاريخيّة، وينبع من خصوصيّة ثقافيّة تجعل منه حقيقة ملموسة قائمة بذاتها. وهذا ما تحاول "الوسط" أن تقترب منه من خلال هذه الندوة عن الأدب المغاربي.
بعد أن عاش الأدب المغاربي طويلاً في الظلّ وتعامل معه "المركز" المشرقي أحياناً بشيء من الفوقيّة أو الازدراء، فرض هذا الأدب نفسه، بمختلف روافده وأشكاله، على الساحة العربيّة كحركة ثقافيّة مرجعيّة لها حضورها الخاص، وصيرورتها التاريخيّة، وتجاربها الرائدة التي يقبل عليها القرّاء بشكل متزايد. والكلام على "الأدب المغاربي" يفترض التمييز بين المدارس ولغات الكتابة. كما ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار كلّ الخصوصيّات، وأن نفرّق بين الحساسيّات الفرديّة والأجيال والأقطار. لكنّ هذا الأدب يستند إلى خصائص جامعة، وينبع من الأسئلة نفسها، ويقوم على قواسم مشتركة تحدد ملامحه وتصوغ هويّته.
وانطلاقاً من تلك الأسئلة والمشاغل المشتركة جمعت "الوسط" ستّة كتّاب من الجزائر والمغرب وتونس حول طاولة مستديرة، للخوض في اشكاليّات الأدب المغاربي: كيف تؤثر عليه الازدواجيّة اللغويّة؟ ماذا يجمع هذا الأدب بالنموذج الفرنسي، أو بالأدب العربي في المشرق: أعلاقة تبعيّة، أم امتداد طبيعي وتكامل، أم اختلاف وتنافر؟ كما تطرّق النقاش إلى مسائل أخرى: الابداع في اللغة، اللحمة الثقافيّة المطلوبة، الخيار الفرنكوفوني وخيانة الهويّة، معضلة النشر وأعباء الرقابة، وضعف حركة النشر والتوزيع، واختيار مكان النشر، والسبل المطروحة للوصول إلى القراء... وصولاً إلى الحداثة والسلفيّة ودور الانتلجنسيا المغاربيّة اليوم. شارك في الندوة كلّ من محمد ديب ورشيد بوجدرة ومحمد شكري وعبد اللطيف اللعبي والحبيب السالمي وادريس الخوري، وننشر وقائعها في ما يلي على حلقتين.
كيف ننظر إلى واقع الأدب المغاربي اليوم: بأية لغة يكتب، ولأي جمهور؟ وما هي خصوصية هذا الأدب، مقارنة بالأدب المشرقي المكتوب بالعربية، أو بالأدب العربي المكتوب بلغات أخرى؟ وأخيراً ما علاقات الأدب المغاربي، المتصادمة أو المهادنة، بالمشروع الثقافي الفرنكوفوني؟
- محمد ديب: أعتقد أن مسألة اللغة ليست اختيارية. فالكاتب منّا لم يختر طوعاً لغة ابداعه، بل كتب باللغة الوحيدة التي كانت في متناوله. فخلال الفترة الاستعمارية، لم تكن لدينا امكانية تعلّم اللغة العربية. ولم يكن أمام آبائنا خيار آخر، سوى ارسالنا إلى المدارس الاستعمارية لنتعلّم الفرنسية، أو نبقى أميين. وحتى اللغة الفرنسية لم يكن تعلمها متاحاً، في الحقيقة، سوى لقلة قليلة من أبناء الجزائريين. أواخر الاربعينات نشرت جريدة "ألجيه ريبوبليكان" التي كنت أعمل فيها صحافيّاً، تحقيقاً يكشف أن نسبة الامية في الجزائر تفوق 90$. وبالطبع لم يكن أمام هؤلاء المحظوظين سوى التعبير عن انفسهم بالفرنسية.
رفض الاندماج
هذا بالنسبة إلى أبناء جيلي. أما اليوم، فتغيّرت كل المعطيات. البلاد استقلت، والتعليم أصبح متاحاً بل واجبارياً لكل طفل جزائري. وهكذا، صار تعلّم اللغتين العربية والفرنسية في متناول الجميع. لكن هذا، على عكس ما قد نتصّور، لا يبسّط الأمور بل يزيدها تعقيداً. فعدد الجزائريين الذين تعلّموا الفرنسية بعد الاستقلال يفوق بعشرات الأضعاف عدد الذين أتيحت لهم فرص تعلّم هذه اللغة، خلال الفترة الاستعمارية. بل إن معظم الجزائريين الذين ولدوا بعد الاستقلال يتقنون الفرنسية بدرجة اتقانهم العربية نفسها. فالواقع الجديد قام على ازدواجية اللغة في المدارس الوطنية بعد الاستقلال، لذا نلاحظ وجود أدب باللغة العربية وآخر بالفرنسية، صحافة بالعربية وأخرى بالفرنسية، إلخ.
وهناك ظاهرة مهمّة يجب أن نتأمل فيها، هي أن هذا الأدب المكتوب بعد الاستقلال، سواء كان بالعربية أو بالفرنسية، يتوجه إلى جمهور مشترك يتقن اللغتين ويقرأهما. لذا أرى أن هناك أدباً واحداً، شقّ منه يُكتب بالعربية وشقّ آخر بالفرنسية، لكن خصائصه ومميزاته واحدة. وأهم هذه الخصائص، في اعتقادي، هي الحداثة. وهذه مسألة أخرى ربما عدنا إليها بعد قليل. فالحداثة نقطة لافتة في الأدب المغاربي. اذا نظرنا اليوم إلى كتابات الأدباء المغاربيين باللغة الفرنسية، نجدها تضاهي نتاج الأدباء الفرنسييين حداثة. فهؤلاء لم يصلوا إلى الحداثة عبر السبل نفسها التي سلكها زملاؤهم في فرنسا. إذ ان حداثة الأدب المغاربي تكمن أساساً في خصوصيّته الثقافية. كتّاب المغرب فهموا منذ البداية انهم ليسوا فرنسيين، وهذا ما جعلهم يتميزون بنبرة مغايرة اكتسبوها من تعبيرهم عن المتخيّل الثقافي المغاربي والعربي الذي هو مختلف تماماً عن المتخيّل الفرنسي.
وعلى الرغم من أن معظم الأدباء المغاربيين لم يقرأوا الأدب العالمي الا عبر الترجمات الفرنسية، وأهم قراءاتهم كانت أساساً من الأدب الفرنسي، فاللافت أنهم جميعاً رفضوا الاندماج في المشهد الثقافي للغة المضيفة. وقد لا نعثر على كاتب مغاربي انخرط في تيّار محدّد، أو انتمى إلى مدرسة معيّنة، أو قلّد أديباً فرنسيّاً. واعتقد أن هذا الاختيار هو الذي صنع خصوصية الأدب المغاربي، وهو الذي فتح أمامه أبواب الحداثة. فعندما تمرّدنا على التقاليد الأدبية الفرنسية، بدوافع وطنية وايديولوجية، كسبنا حداثتنا من حيث لا ندري. فتلك التقاليد الثقافية التي أفلتنا منها هي تقاليد عريقة جداً، إلى درجة أنها كثيراً ما تتحوّل إلى عبء يعيق عملية التجديد الأدبي، ويجعل الطريق نحو الحداثة اكثر صعوبة وتعقيداً.
وهذه العلاقة الصداميّة مع النموذج الغربي، والمتأثّرة به في آن، أكسبتنا الكثير من ملامح حداثتنا. فلو أخذنا وضع الرواية في العالم العربي، لوجدنا أننا لا نملك تقاليد روائية. في حين أن الاطلاع على الاعمال الروائية الغربية، فتح أمامنا آفاقاً ابداعيّة جديدة، وظهرت في وقت قياسي تجارب روائية مغربيّة تضاهي في حداثتها ما ينتج في المقلب الآخر من المتوسّط.
هذا عن لغة الكتابة. أما "الفرنكوفونية" فمشروع لا أعرفه، ولا أعترف به. فأهم خصوصيات الأدب المغاربي، كما ذكرت، مستمدة من المتخيّل الثقافي الذي ينتمي إليه ويعبّر عنه. وأنا لا أؤمن بأن كتّاب كندا أو سويسرا أو بلجيكا أو افريقيا السوداء ممن يكتبون بالفرنسية، يمكن تجميعهم في متخيل ثقافي واحد يسمى "فرنكوفوني". لذا ففكرة الفرنكوفونية، من وجهة النظر الثقافية المحض، لا وجود لها من الأساس. ومسألة العلاقة بالمشروع الفرنكوفوني غير مطروحة أصلاً بالنسبة إليّّ كمبدع مغاربي يكتب باللغة الفرنسية منذ أكثر من نصف قرن. وقد يكون لغيري من الزملاء رأي مخالف…
عودة إلى اللغة الأم
- رشيد بوجدرة: أتفق مع محمد ديب حين يقول إن هناك أدباً واحداً في المغرب العربي، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها. لكنني أعتقد أن الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، نشأ بفعل أسباب تاريخية معروفة، لذا فهو محكوم بالزوال مع الزمن. والأدب المغاربي الفرنكوفوني الذي يكتب حاليّاً، ليس الا بقايا ورواسب لما كان يكتب في الأربعينات والخمسينات. واللجوء إلى الفرنسية يعود، في الواقع، لأسباب قاهرة وغير اختيارية. فأنا لا أعرف أديباً مغاربياً واحداً، ممن يكتبون بالفرنسية، يتقن العربية. والاستثناء الوحيد أنا، لذا وجدت أنه من الطبيعي أن أعود إلى الكتابة بلغتي العربية. فالكاتب الذي يتقن اللغتين، ومهما كانت الأسباب التي دفعته إلى الكتابة في بداياته بالفرنسية، لا بد أن يعود حتماً إلى لغته الأم.
الكتابة بالفرنسية بالنسبة إليّ لم تكن أيديولوجية، بل براغماتية بحتة. فاختيار الكتابة بهذه اللغة أملته عليّ ظروف هجرتي إلى فرنسا في الستينات، بعد ان اضطررت إلى مغادرة بلادي لأسباب سياسية قادتني إلى السجن مرتين. وعندما تغيّر هذا الوضع وعدت إلى الجزائر سنة 1978، كان من الطبيعي أن أعود إلى لغة الضاد. وهذا اختيار نابع عن موقف حضاري، ولا يجب ان يُفهم منه انني اتخذ موقفاً سياسياً ضد الفرنسية. فأنا اتفهّم تماماً اضطرار بعض المغاربيين إلى الاستمرار في الكتابة بهذه اللغة لعدم توافر البديل. ولا اعتقد أن اختلاف لغة الكتابة يؤدي إلى فروق جذرية في المضامين أو الانشغالات الادبية، أو حتى في تقنيات وأساليب الكتابة. فالنقاد لم يلاحظوا - مثلا - أي فروق من هذا النوع بين الروايات التي كتبتها بالفرنسية والتي أكتبها حالياً بالعربية.
كل ما هو مكتوب بالعربية في المغرب ليس فيه بالضرورة آثار الأدب المكتوب في المشرق، وكل ما هو مكتوب بالفرنسية ليس فيه آثار الأدب الفرنسي. فالأديب المغاربي لديه أسلوبه الخاص في التعامل مع اللغة واختيار الالفاظ، وبنية الجملة عنده تختلف عن بنية الجملة الفرنسيّة التقليدية. والجميع يذكر طبعاً أن أوّل ما استرعى انتباه النقّاد في الكتابات المغاربية الاولى بالفرنسية، هو "الابداع في اللغة" الذي جعل تلك الكتابات تتميز منذ البداية عن الأدب الفرنسي. ولو بحثنا في الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، لوجدنا اختلافات لغوية مماثلة، مقارنة بالأدب المشرقي. وهذا يرجع إلى الخصوصية الاجتماعية والثقافية المغاربية.
والأدب الذي تحدثت عنه، وهو يمثل غالبية ما يكتب في المغرب العربي بالفرنسية، أدب وطني، لا علاقة له بالمشروع الفرنكوفوني الذي ليس في الحقيقة مشروعاً ثقافياً بل سياسياً وامبريالياً، يستعمل الثقافة لاغراض الهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي لمنطقتنا، وللعالم الثالث ككل. وهناك في المقابل أدب فولكلوري و"سياحي"، لا أدري هل يجب اعتباره مغاربياً لمجرد أن من يكتبونه مغاربيون. هذا الأدب مرتبط "ادارياً" ووظيفياً بمؤسسات الفرنكوفونية. لكنه أدب ضحل، ومنقطع تماماً عن الواقع الثقافي والاجتماعي لبلدان المغرب العربي. لذلك أرى ألا نعيره اهتماماً كبيراً، حين نتحدث عن الأدب المغاربي…
أدب من خارج البلاغة
- محمد شكري: أنا أيضاً لا أرى فروقاً كبيرة أو جذرية، على مستوى الهويّة، بين مختلف تجليّات واتجاهات الأدب المغاربي، أيّاً كانت اللغة التي يُكتب بها. وما دمتُ أكتب باللغة العربية، فسأقصر كلامي على هذا الجانب. وأعتقد أن رشيد بوجدرة أثار فكرة تستحق الاهتمام، حين قال بوجود فروق لغوية بين الأدبين المغاربي والمشرقي. فاذا قارنا بين كتابات محمد زفزاف أو عزالدين التازي أو محمد شكري أو ادريس الخوري من جهة، وكتابات صنع الله ابراهيم او جبرا ابراهيم جبرا او ابراهيم اصلان... لوجدنا أن أسلوب التعامل مع اللغة يختلف، على رغم تشابه الأجواء الروائية لهؤلاء الكتّاب. كلّنا نكتب لغة واحدة طبعاً، لكنها أكثر رصانة ومتانة عند المشارقة، في حين أننا، نحن المغاربيين، نمارس نوعاً من "الصعلكة اللغوية". وفي كتاباتنا كثير من الشراسة والاستفزاز اللغويين، وهذا ربما يرجع إلى نوعية الحياة التي عشناها في طفولتنا ومراهقتنا. وهي حياة لم تكن فيها "بلاغة لغوية"، ومنها اكتسبنا كثيراً من البوهيمية والسوقية في التعبير. وهذا ينعكس حتماً على كتاباتنا، ويجعلها متميّزة عن الكتابات المشرقية.
ولكن، بخلاف العلاقة التصادمية التي تحدّث عنها الزميلان ديب وبوجدرة بخصوص علاقة الأدب المغاربي بالأدب الفرنكوفوني، فاننا لا نجد علاقة تصادم بين الأدب المغاربي والأدب المشرقي. بل إن هذه العلاقة كانت في البداية تأثراً وتقليداً. ففي منطقة المغرب، ورثنا عن الفترة الاستعمارية لغة عربية فقهية وسلفية. ونحن استفدنا كثيراً من تجارب أدباء النهضة في المشرق العربي لتطوير هذه اللغة وتطعيمها، بحيث تتماشى مع مقتضيات الكتابة الأدبية الحديثة.
وحتى منتصف الستينات، كان الأدب المكتوب بالعربية في المغرب مجرد تقليد للأدب المشرقي. ثم بدأت الخصوصية المغاربية تتبلور تدريجاً مع ظهور أدباء مثل: عبدالكريم غلاّب، أحمد عبدالسلام البقّالي ومحمد ثابت... عندنا في المغرب الأقصى. وترسخت هذه الخصوصية بعد ذلك، على أيدي أدباء آخرين، كعزالدين التازي ومحمد زفزاف وادريس الخوري، وغيرهم…
تعددية الممارسة اللغوية
- عبداللطيف اللعبي: الواقع الثقافي المغاربي قائم على التعدد، ولا يمكننا تجاهل الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، كما لا يمكننا تجاهل الأدب المكتوب بالبربرية. وهناك أيضاً كتابات بالعامية، في مجال الشعر خصوصاً. وأي اقصاء لتجربة من التجارب الابداعيّة، لا يمكن برأيي إلا أن يكون جائراً! فكثيراً ما تُثار المسألة اللغوية عندنا في المغرب العربي بشكل اختزالي يؤدي إلى سقوط النقاش الثقافي في الاحكام الجوفاء والمعايير الضيّقة وعمليّات الاقصاء. الادعاء بأن الكتابة بالعربية هي الوحيدة المشروعة، أو أن الكتابة بالفرنسية هي دوماً متفوقة فنياً، او ان الكتابة باللغة البربرية ليست لها اية شرعية أو قيمة... ليس إلا بعضاً من هذه المغالطات والتعميمات القاتلة.
وعلى رغم النقاشات الحامية التي لا تتوقف حول مسألة اللغة، نلاحظ أن تعددية الممارسة اللغوية راسخة في الجسم الثقافي المغاربي. ومن الواضح أن هذا التعدد لم يُنتج ضعفاً أو تدنياً في مستوى الكتابة، بل هو منبع لإثراء التجارب والرؤى الفنية والثقافية واستفادتها من بعضها البعض.
أتفق مع بوجدرة على أن الكتابة باللغة الفرنسية فرضتها أو أنتجتها الظروف التاريخية المتعلقة بالاستعمار. ولا شكّ في أن الحركة الثقافيّة المغاربية تسير في تطوّرها باتجاه غلبة اللغة العربية التي ستحتضن مستقبلاً جل الكتابات الابداعية. لكنّ هذا لن يتحقق باقصاء الممارسات اللغوية الأخرى أو الغائها، بل بالاقتراب منها لافادتها والاستفادة منها. لا بدّ من أن تتكوّن لدينا لحمة ثقافية تجعل الهموم والانشغالات واحدة، بغض النظر عن لغة الكتابة التي لن تعود معضلة كما في السابق، لأن قرّاءنا يتقنون أكثر فأكثر اللغتين العربية والفرنسية.
وهذا التقارب المنشود في الهموم والانشغالات الثقافية بدأ يتحقق بالفعل، بحيث أصبحت للأدب المغاربي خصوصيته المحلية، سواء كان مكتوباً بالعربية أو بالفرنسية. فكما أشار محمد شكري، الأدب المغاربي المكتوب بالعربية، بعد أن كان فرعاً من الأدب المشرقي، صارت له ميزاته الخاصة سواء على مستوى اللغة أو الجماليات. والأمر نفسه ينطبق على الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية. فالكتابات المغاربية الأولى بهذه اللغة كانت ذات مناهج وجماليات قريبة جداً مما كان سائداً في فرنسا، إلى ان جاء كاتب ياسين بروايته "نجمة" التي كانت حدثاً بارزاً في مسار الأدب المغاربي، لأنها أحدثت قطيعة تامة مع الأدب الفرنسي.
اكتسب الأدب المغاربي شيئاً فشيئاً صوته الخاص، ومنهجه، وطريقته المتميزة في التعامل مع اللغة الفرنسية ذاتها. وهذا التميّز ليس شكلياً فقط، فعلى مستوى المضامين أيضاً أرى أن لأدبنا المكتوب بالفرنسية علاقة عضوية بالعمق الثقافي المغاربي وبواقع وتطلعات المجتمعات المغاربية نحو الحرية والكرامة والتطور، وذلك بنفس درجة ارتباط الأدب المغاربي المكتوب بالعربية بهذه المسائل والانشغالات. هناك بالطبع استثناءات في أدبنا المكتوب بالفرنسية. وهذه الاستثناءات هي التي تتبادر إلى الاذهان بالدرجة الاولى حين تُثار مسألة العلاقة بالمشروع الفرنكوفوني، مع انها مجرد استثناءات ولا تمثل قاعدة عامة. وهي، كما أشار بوجدرة، نزعات مغتربة همّها الأساسي اشباع فضول القارئ الغربي، ولا تهمها احتياجات القارئ المغاربي ولا انشغالاته…
مخاطر المقاربة الايديولوجيّّة
- الحبيب السالمي: الأدب المغاربي اليوم بأي لغة؟ اعترف أن السؤال يفاجئ قليلاً في البداية، اذ أن هذا الأدب - وأنا بالمناسبة لا أحب تسمية "مغاربي"! - يمتلك حضوره في لاوعيي الشخصي من خلال لغة واحدة هي العربية. إلا أنني أدرك أن هذا الاحساس الذي يولده فيّ السؤال يفقد شيئاً من تماسكه فيما بعد. نعم، الأدب المغاربي عربيّ اللغة، أو هكذا أراه. ولكن ماذا نفعل بهذه النصوص الجميلة التي كتبها بالفرنسية تونسيون وجزائريون ومغاربة؟ أين نضع أعمال كاتب ياسين الذي تميّز بشتمه الايديولوجي للعربية، ومحمد ديب ورشيد بوجدرة والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي وعبد الوهاب المؤدب وعبد اللطيف اللعبي؟ وهل يحق لنا أن نحرمهم من أن يكونوا كتّاباً عرباً مغاربة، اذا كانوا هم يريدون ذلك؟ هكذا نجد انفسنا ملزمين، من وجهة نظر موضوعيّة، بالاعتراف بهذا الجزء من الأدب المغاربي.
وما أعتبره أساسياً حين تطرح هذه المسألة، هو أن نبتعد قدر الامكان عن المقاربات الايديولوجية، وهي كثيرة، لننطلق من واقع هذا الأدب، ولنحاول أن نستفيد من ازدواجيته اللغوية، ولنكفّ عن تقويم الآخرين. أكيد أن الازدواجية الثقافية موضوع ثري ومهم في حد ذاته، لكن مقاربته تتمّ في أغلب الأحيان من زواية ايديولوجية. ولعل أخطر ما في هذه المقاربة أن بعض الكتّاب الفرنكوفونيين المغاربيين لا يعترفون اطلاقاً بالأدب العربي في اقطار المغرب. وهؤلاء يرددون باستمرار في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوروبية، أنهم لوحدهم الكتّاب المغاربيين...
وترافق ذلك عادة انتقادات للغة العربية، كما لو أن هناك لغة عربية في المطلق، كما لو انه ليس لكل مبدع لغته، كما لو ان الكتابة ليست ابتداع لغة داخل اللغة! ولا أدري سبب هذا التحامل عندنا في المغرب العربي، في حين أن في لبنان مثلاً كتّاب فرنكوفونيون كبار - وهل هناك كاتب او شاعر فرنكوفوني في العالم أهمّ من جورج شحادة؟ لكنّ هؤلاء حسب علمي لا ينتقدون العربية، بل يعشقون هذه اللغة ويحبون الكثير من نصوصها.
ومن ناحية أخرى، يجب أن نكون حذرين حين نتحدث عن خصوصية الأدب المغاربي. فهذه الخصوصية لا توجد فقط مقارنة بالأدب العربي في المشرق، كما أشار المتكلّمون قبلي، بل هناك خصوصيات أدبية لكل قطر. هناك فروق عدّة بين الأدبين التونسي والجزائري مثلاً. وأحياناً نجد خصوصيات محلية داخل أدب القطر الواحد، إذ تختلف مثلاً كتابات البشير خريف، وهو من منطقة الجريد، عن كتابات محمود المسعدي المنحدر من تونس العاصمة.
لكن هذه الخصوصيات تبقى نسبية. وقناعتي أن الأدب المغاربي لا يختلف في جوهره عن آداب المناطق العربية الأخرى. وأعتقد أن تلك الخصوصيات تبرز أساساً من خلال النصوص القصصية والروائية، حيث يمتلك الواقع بكل أبعاده حضوراً قوياً. ويتجلى ذلك في أمكنة مختلفة بألوانها وروائحها، في فضاءات منتظمة بشكل مغاير، في لغة "عاقلة" أكثر مما ينبغي أو "مهزوزة" أكثر مما ينبغي، في ثيمات متكررة، في شيء من الجرأة على رؤية الواقع، إلخ.
- إدريس الخوري: رأيي أن الأدب المغاربي مبدئياً يجب أن يُكتب بالعربية، باعتبار أنها اللغة التي تمثل قاسماً مشتركاً بين بلدان المغرب العربي، وبين هذه البلدان وبقية العالم العربي. وهناك بالطبع لغة أجنبية واحدة هي الفرنسية، لكن ليس لها ثقل كبير في الحضور الثقافي المغاربي. صحيح أن هناك أسماء مغاربية شهيرة تكتب بهذه اللغة، لكنها أقلية. وهذا شيء طبيعي، فالأدب المغاربي، كما قال بوجدرة، سيكون في المستقبل مكتوباً باللغة العربية. وهذا يتحقق بالتدريج، لكن ليس بسد الباب عنوة بوجه اللغات الأخرى. فمن حقّ أي شخص أن يعبّر عن نفسه في اللغة التي يريد، حركة الواقع وحدها تغربل وتصفّي مع مرور الزمن. أما أنا فمن حقّي أن أعتبر أن من يجيد العربية ويتنكر لها ويختار طوعاً الكتابة بلغة أجنبية، يرتكب نوعاً من الخيانة، خيانة الهوية.
الفرنكوفونية مشروعاً سياسياً
وهذه الخلفية هي التي تحدد نوعية الأدب المكتوب بالفرنسية: هل هو أدب مغاربي وطني، أم هو أدب يسير في الاتجاه الثقافي الفرنكوفوني؟ والحقيقة أن القضيّة أكثر تعقيداً من ذلك، وهناك مستويات عدّة داخل الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسيّة. لا مجال للمقارنة مثلاً بين أدب ادريس شرايبي وأدب الطاهر بن جلّون. فالثاني يكتب اليوم ضمن مناخ الثقافة الفرنكوفونية ولقرائها، وهذا بخلاف شرايبي ومحمد خيرالدين وكاتب ياسين ومحمد ديب، وغيرهم ممن كتبوا بالفرنسية لكنهم تميّزوا بنظرة وطنية معادية للهيمنة الفرنسية على منطقة المغرب العربي.
هذه النظرة الوطنية لا نجدها، للأسف، لدى معظم الكتّاب المغاربيين بالفرنسية من الجيل الجديد. فهؤلاء انخرطوا في الفرنكوفونية كمشروع ثقافي وسياسي، وتخلوا عن هويتهم الثقافية الاصلية. وفي المقابل، يُعجبني كثيراً موقف رشيد بوجدرة الذي استطاع أن يحسم الامر، مستعيداً علاقته باللغة العربية.
وأنا أتفق مع الحبيب السالمي في مسألة الخصوصيّات التي تميّز حركة أدبيّة عن أخرى داخل اللغة العربية. فهناك فروق واختلافات على مستوى الأقطار المغاربيّة نفسها. فالأدب الجزائري مثلاً، خصوصاً المكتوب بالفرنسية، نجد فيه انعكاسات الصراع ضدّ الاستعمار الفرنسي. من هنا طغيان هاجس البحث عن الهوية والدفاع عنها. في حين أن هذه الظاهرة غير موجودة في الأدب التونسي أو المغربي. وهناك أيضاً اختلافات، ولو طفيفة، في اللغة والرؤية والاهتمامات الأدبية. مما يجعل آداب بلدان المغرب العربي تلتقي في بعض الميزات وتختلف في بعضها الآخر، وهذا يخلق نوعاً من التكامل بينها…
أين يجب أن يُنشر الأدب المغاربي اليوم؟
- محمد ديب: دور النشر في المغرب العربي قليلة وصغيرة وغير كافية. وهي حديثة النشأة، ولم يكن من المعقول أن ينتظر أبناء جيلي ظهور المؤسسات المطلوبة في أوطانهم. لذلك طُرحت مسألة النشر في فرنسا بالنسبة إلينا نحن كتّاب الفرنسية، وفي المشرق بالنسبة إلى كتّاب العربية. وإضافة إلى تلك السمة المشتركة بين بلدان المغرب لجهة قلّة عدد دور النشر وضعف امكاناتها، هناك عوامل ومصاعب مرتبطة بطبيعة نظام الحكم في كلّ بلد، وبالظروف التي تحدّد سياسة النشر ودعم الكتاب ودور الرقابة، إلخ. وأنا شخصياً لم يمنعني وضعي من السعي إلى نشر كتبي في الجزائر. حاولت خلال الستينات تحقيق ذلك متجاوزاً العراقيل والمصاعب، فتوصلت إلى توقيع عقود مع دار "سناد" التي كانت تحتكر النشر في الجزائر. لكن المؤسسة لم تف بالتزاماتها، ولم تنشر كتاباً واحداً من مؤلفاتي. لذا فالسؤال المطروح هو: أين يمكن نشر الأدب المغاربي لا أين يجب نشره.
وبغض النظر عن تجربتي الشخصية، نلاحظ أن حركة النشر في بلداننا لا تزال إلى اليوم بطيئة جداً. ففي الجزائر مثلاً، ينتظر الأدباء ثلاثة أو أربعة أعوام أحياناً بين تسليم المخطوطة ووصولها إلى المكتبات. وحتى بعد طبع الكتاب، ليست هناك تقاليد نشر بالشكل المتعارف عليه في الغرب لترويج الكتاب وتقريبه وايصاله إلى القارئ.
- رشيد بوجدرة: بالعكس تماماً، أرى أن معظم الانتاج الأدبي المغاربي ينشر حالياً في بلدان المغرب العربي ذاتها. فعدد الكتّاب الجزائريين الذين ينشرون في باريس لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، مقابل أكثر من ستين أديباً بالعربية والفرنسية ينشرون داخل الجزائر. لكن المشكلة ان الذين ينشرون في الداخل يعانون من الاهمال، ونلاحظ أن نقاد ودارسي الأدب المغاربي يتجاهلونهم تماماً، مع أن بينهم من تفوق كتاباته مستوى ما ينشر في الخارج.
أنا الآخر قادتني ظروفي إلى النشر في فرنسا، وهو بلا شكّ "امتياز" يوفّر سهولة الانتشار والشهرة، لكنني أعتقد أن الأدب المغاربي يجب أن يُنشر داخل بلداننا. ولا بدّ من العمل على فكّ العزلة عن الكتّاب الذين ينشرون في الداخل. من يعرف اليوم مثلاً الأديب المغربي محمد زفزاف الذي أعتبره من أبرز كتّاب المغرب العربي؟ فأعماله تنشر فقط في الدار البيضاء ولا تصل الا إلى جمهور ضيّق جداً. وأنا شخصياً حاولت أن أساعد على ترجمة أعماله ونشرها في فرنسا، كما حاولت مع عدد من الأدباء المغاربيين. لكني فشلت في هذا المسعى فشلاً ذريعاً، لأن هناك سياسة في فرنسا ترفض ترجمة الأدب المغاربي المكتوب بالعربية!
طابعون لا ناشرون!
- محمد شكري: أنا من الذين عانوا كثيراً من معضلة النشر. ما كنت أكتبه لم يكن يريده الناشرون العرب، سواء داخل المغرب أو خارجه، لأنهم اعتبروا كتاباتي "فاجرة" تستفز التقاليد السائدة. هكذا راكمت في أدراجي ثمانية كتب، قبل أن أنجح في نشر كتابي الأول "الخبز الحافي" الذي بعتُ منه حوالي 20 ألف نسخة، في أقل من سنة ونصف السنة، ثم مُنع. وكنت طبعته على نفقتي.
وهذا النجاح، جعلني أنشر كلّ كتبي حتى الآن بنفسي وعلى نفقتي الخاصة. فأنا مقتنع بأننا في المغرب ليس لدينا ناشرون حقيقيّون، ليست لدينا دور نشر حقيقيّة، بل مجرّد مطابع. النشر القائم يقتصر على الكتب المدرسية أو القريبة من المناهج الدراسية والجامعية، لأن ربحها مضمون. وهناك نسبة قليلة جداً من الكتب الأدبية التي يقبلها الناشرون، وغالباً ما يشترطون مساهمة مؤلفيها في نفقات الطبع. والدور الموجودة لا تملك لجان قراءة، وأصحابها جهلة بالأدب، فكيف يمكن لهم تقويم الأعمال المقدّمة؟
وهناك محنة أخرى هي التوزيع. فنحن في بلدان المغرب العربي يصلنا معظم ما ينشر في المشرق العربي، لكن كتبنا لا تجد موزعين لها في المشرق. أدبنا لا يصل، إلا في ما ندر، إلى القارئ المشرقي. وحتى داخل بلداننا لا تصل كتبنا إلى جمهورها، بسبب ضعف القدرة الشرائيّة للقارئ العادي. فالناشر لا يطبع من الكتاب الأدبي، في أفضل الحالات، أكثر من ألفي نسخة، ما يرفع تكلفة النسخة الواحدة، ويعيق وصولها إلى جميع القراء.
أما أنا فأرفع عدد النسخ المطبوعة من كتابي بالقدر الكافي ليصبح سعر النسخة الواحدة في متناول الجميع. فكتابي الأخير "زمن الأخطاء" الجزء الثاني من "الخبز الحافي"، بيعت منه أكثر من 10 آلاف نسخة، خلال سنة، لأن سعره 25 درهماً فقط. وهذه الأسعار في متناول قرائي الذين هم اساساً من الفقراء وابناء الاحياء الشعبية و"البراريك". ومبيعات "زمن الاخطاء" حقّقت رقماً قياسياً بالنسبة إلى الأدب المغربي في السنوات الاخيرة، بشهادة رئيس اتحاد كتّاب المغرب السابق محمد الاشعري. وأنا الكاتب المغربي الوحيد الذي يعيش من عائدات كتبه، في حين أن بقية الأدباء إن لم يُطلب منهم الاسهام في نفقات الطبع، فان حقوقهم مهضومة دوماً، إذ يتسلّم واحدهم مائة نسخة من كتابه، ويتقاضى ألفاً أو ألفي درهم في أحسن الحالات! لا اقول هذا من باب التبجّح، لكنه الواقع للأسف…
ولا يمكن أن نتناول معضلة النشر، من دون التطرق إلى الرقابة. بعد "الخبز الحافي" منعت مجموعتي القصصية "الخيمة". ومع ذلك فأنا أعتقد أنني أستطيع اليوم أن أنشر في المغرب ما لا يمكن نشره في بلد عربي آخر. لا أقول هذا تزلّفاً للسلطة، فالرقابة موجودة، لكن هناك جوّ من "التسامح": أنا أستطيع أن أكتب وأطبع ما أشاء، وهم يستطيعون أن يمنعوا ما يشاؤون. أنا أمارس حريتي وأكتب، وهم يمنعون... وأحياناً لا يمنعون!
- عبد االلطيف اللعبي: لا بد من خلق تقاليد للنشر في بلدان المغرب العربي. ورأيي أن هناك دور نشر جادة تؤدي دوراً ايجابياً. لكن هذا لا يكفي، فحركة النشر في بلداننا ما تزال فتية، وتحتاج إلى دعم وتعزيز بمبادرات أخرى، كي يصبح الكتاب المغاربي شكلاً ومضموناً في مستوى الكتاب الذي يُنشر في الغرب وفي المشرق العربي. لكن العمل على دعم النشر محلياً في المغرب العربي، لا يتناقض مع امكان قيام الكُتّاب الذين تتاح لهم الفرصة، بالنشر في الخارج. فالعالم يشهد اليوم مرحلة جديدة أصبحت فيها الثقافة مُطالبة بتجاوز الحدود وعدم التقوقع في طابعها المحلي الضيق…
- الحبيب السّالمي: نشرت كتاباً واحداً في تونس، هو كتابي الأول. وبقية كتبي كلها منشورة خارج بلادي، وتحديداً في بيروت التي لا تزال برأيي عاصمة الكتاب العربي، على رغم سنوات الحرب الطويلة. وحركة النشر عندنا في تونس بطيئة، مما يقلل من إمكانات النشر. ثم ان دور النشر التونسية كانت إلى وقت قريب دوراً رسمية يديرها موظفون لا علاقة لهم بالإبداع. في السنوات الأخيرة تحسّن هذا الوضع قليلاً، وظهرت دور نشر جديدة مستقلة، لكنها لم تستطع، على رغم جهود بعضها، ان تحلّ مشكلة النشر في تونس. أنا شخصياً لا أعاني من هذه المشكلة، لكنني أفكر في الكاتب الشاب الذي يبحث عمّن يحتضن كتاباته في بلاده ولا يجده، مع أن وزارة الثقافة تبذل جهداً في هذا المجال.
- إدريس الخوري: أعتقد أن الكاتب المغاربي يجب أن يعمل على نشر انتاجه في بلده الأصلي. صحيح أن الذين ينشرون في فرنسا، كما قال بوجدرة، يلقون صدى كبيراً. لكنه في رأيي صدى اعلامي عابر. والرهان الحقيقي لأي كاتب مغاربي، حتى لو كتب بالفرنسية، هو في بلاده. اللهّم الا اذا كان يريد الانخراط في لعبة الفرنكوفونية، كما يفعل بعضهم، وتلك مسألة أخرى…
في الفترة الأخيرة ظهر عدد من دور النشر في البلدان المغاربية، وبرز جيل جديد من القراء، وتأسّس الكثير من المعاهد والمؤسسات الثقافية والجامعات، حتّى أصبح للأدباء المغاربيين جمهور واسع، ولم يعودوا بحاجة إلى تزكية من باريس أو من المشرق العربي.
وأنا شخصياً كأديب مغاربي يكتب باللغة العربية، لم أسع مطلقاً إلى النشر في المشرق، لأنني لا أرى جدوى ان أنشر في بيروت أو القاهرة وأصل إلى الجمهور هناك، من دون أن أصل إلى جمهوري في الدار البيضاء. الذي يهمّني بالدرجة الأولى هو الجمهور المغربي، ولذلك فأنا أفضل أن أنشر في بلادي، ويكفيني أن أطبع ثلاثة أو أربعة آلاف نسخة، أوزعها كما أستطيع في بعض المدن المغربية وبعض دور الثقافة والجمعيات. ومع أننا امتداد ثقافي للمشرق العربي، إلا أن المشارقة ينظرون إلينا دوماً نظرة فوقية، وعندما ينشرون لكاتب مغاربي، مهما كانت مكانته الثقافية، يشعرون وكأنهم يتصدّقون عليه! .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.