قد يكون للولايات المتحدة غداً رئيس جديد، هو الديموقراطي جون كيري، أو قد يستمر الرئيس الجمهوري الحالي جورج بوش رئيساً لأربع سنوات أخرى. لكن أياً يكن الفائز بعرش الامبراطورية الأميركية الجديدة، وعلى عكس ما يعول عليه كثيرون، فلن تتغير الأمور إلا في الشكل. ومهما قيل عن ان كثيرين من العرب والمسلمين يأملون بفوز كيري، لأسباب معروفة، إلا أن فوز بوش، وعلى عكس ما يعتقده كثيرون، قد يكون الأوفق لمن يتطلع الى تحريك عملية السلام مجدداً في الشرق الأوسط، و"هز العصا" لارييل شارون. ليس لأن الرئيس بوش هو داعية سلام عالمي، بل لسبب بسيط اعتادت عليه الولاياتالمتحدة، ذلك ان القانون الأميركي يمنع الرئيس من الترشيح لأكثر من ولاية ثانية، ويجعله أكثر "جرأة" في اتخاذ القرارات، لأنه لن يعمل جهده مجدداً لإرضاء اليهود الأميركيين كما فعل في ولايته الأولى للحصول على أصواتهم. هذا من ناحية الانتخابات، أما من ناحية العلاقات الدولية، فقد تحصل تغيرات ما مع رئيس جديد، لأنه سيتعامل، بالشكل، بطريقة ديبلوماسية مختلفة مع دول العالم، ويبقى المضمون هو هو. وقد تحصل أيضاً تغييرات داخلية طفيفة، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، لكنها لن تحدث "زلزالاً" في المجتمع الأميركي. ذلك انه مهما تغير الرؤساء فالمجتمع الأميركي مبني على ثوابت ترسخت مع الزمن، للدين في الكثير منها تأثير واضح. والأميركيون يتفقون ويجتمعون حول ما يعرف ب"الديانة المدنية"، أي شرعة العيش المشترك مهما اختلفت الآراء، وهي مبنية على بضعة أسس، منها: إرث الآباء المؤسسين، الإيمان والصلاة، التفاؤل المبني على ان الولاياتالمتحدة هي المنتصرة دوماً في كل المجالات لأنها مباركة من الله، تقوية سلطان الأفراد على حساب سلطان الدولة، وأخيراً الولاياتالمتحدة كأرض الميعاد الجديدة. لكن هذا العقد المدني ليس ثابتاً، ذلك ان سيطرة الكنائس البروتستانتية التاريخية منذ الستينات تراجع أمام الانتشار الواسع للبروتستانتية الانجيلية، المبنية على الاهتداء والتوبة والتشدد التوراتي. ويرتكز الانجيليون، الذين يعتبرون ورثة دعاة الفضيلة الانكليز في القرن السابع عشر، على قاعدة شعبية واسعة من حوالي 70 مليون أميركي، يعتقدون بأن الحل الأساس يمر ضرورياً بالتجدد الأخلاقي. من هنا عرفت هذه الفئة من الشعب ب"المولودين من جديد". وهم يختلفون اختلافاً دينياً واضحاً مع اليمين التقليدي، الانعزالي، الفطري، البروتستانتي لكن غير المتدين بالضرورة، إلا أن ذلك لا يمنعهم من التحالف معهم، لضرورات انتخابية، كما حصل لدى انتخاب الرئيس رونالد ريغان، وكذلك مع المحافظين الجدد، كما يحصل اليوم. وتشكل هذه الاتجاهات اليمينية الثلاثة اتحاد قوى اليمين المحافظ الذي جرت العادة على دمجهم، عن خطأ، في بوتقة واحدة، على رغم اختلاف أهدافهم، وتأثيرهم المتباين في القرارات المصيرية. فمن هي هذه الجماعات، التي تقرر وحدها مصير الولاياتالمتحدة، وتتغير وتختلف لكنها تلتقي، ولو لأسباب مغايرة، في دعم مطلق لدولة اسرائيل؟ 1- اليمين التقليدي: وهو الأكثر انتشاراً في الكثير من دول العالم والمعروف بالحذر الشديد من كل ما هو "يساري"، وأجنبي، وقد جرت العادة على تسميته ب"اليمين الانعزالي"، المتقوقع على نفسه، والمهتم بحماية كل ما هو أميركي من أية "عدوى" خارجية، كما يحصل اليوم في بعض الدول الأوروبية. وقد وضعته هذه الاهتمامات في موضع الراضي عن الدعم المطلق للسياسات الاسرائيلية في الشرق الأوسط، بينما هو في العمق، غير مؤيد لها ولسياسة الولاياتالمتحدة في هذا المجال. 2- اليمين الديني المتطرف: الذي جرى التعريف به أعلاه والذي يخلط بينه وبين مجموعة المحافظين الجدد، بينما هو مختلف عنها في شكل واضح، لكن الأضواء لم تسلط عليه كفاية في الاعلام العالمي. يتعلق هؤلاء المسيحيون الأصوليون تعلقاً حرفياً بما جاء في التوراة، وهم يتابعون في شكل جدي سلسلة "الناجون من نهاية العالم"، وهي مجلدات بيع منها حتى اليوم ما يقارب 60 مليون نسخة. ويعتبر وعد إعادة قيام اسرائيل الثابتة الأقوى في حصون الجنوب الأميركي البروتستانتية، والمسماة "الصهيونية المسيحية"، وهي تمثل مجموعة دعم شديدة النفوذ لإسرائيل، ينتمي اليها الرئيس بوش، لمصالح سياسية أكثر منه لقناعات دينية كما يؤكد بعض المحللين ، وهي مجموعة دعم يبلغ عدد أعضائها خمسة أضعاف عدد اليهود الأميركيين. وتستقي هذه الجماعات معتقداتها من النصوص التوراتية ومن روايات تأسيس أميركا. ذلك ان "الصهاينة المسيحيين"، الذين يدعون التحدر من الجماعات البروتستانتية التي هربت من انكلترا خوفاً من بطش عائلة ستيوارت المالكة في القرن السابع عشر، يتشبهون بما حصل للشعب اليهودي مع فرعون مصر. ويعتبرون انهم هاجروا الى أميركا، "أرضهم الجديدة"، ليصبحوا الشعب الجديد المختار. ويشبهون "انتصاراتهم" على القبائل الهندية، صاحبة الأرض، "بانتصارات شعب اسرائيل" على الكنعانيين والفلسطينيين، كما جاء في التوراة. فهم، في النهاية، يجعلون من شعب اسرائيل القديم مثالاً، ويعتقدون بأن الله أوكل اليهم مهمة تجديد العالم أخلاقياً وروحياً. وهناك اليوم تفسير واضح للربط بين رواية تأسيس أميركا والقراءة الألفية للتوراة. ذلك ان علاقات وثيقة قامت منذ 1977، مع وصول "ليكود" مع مناحيم بيغن الى السلطة، بين اليهود المتزمتين والانجيليين الأميركيين. الذين أسسوا عام 1980 "السفارة العالمية المسيحية" في القدس. فدعموا هجرة اليهود الروس الى اسرائيل، وموّلوا بناء مستوطنات جديدة، في الضفة وغزة، وشكّلوا مجموعات دعم في الكونغرس لدعم الدولة اليهودية. كذلك هناك عدد كبير من المؤسسات الانجيلية التي ما تزال تدعم في شكل قوي سياسة شارون، "رجل السلام" كما يسميه الرئيس بوش. وكان هناك ما يقارب 30 مليون أميركي من هذا المذهب عام 2000 يعتقدون بأن هذه السياسة والدعوة الى قيام اسرائيل الكبرى ترتكز على "شرعية مبنية على التوراة". وفي غمار هذا العدد الكبير من المعتقدات والارتدادات، يقحم الرئيس بوش نفسه وينجح في الحصول على دعم هذه الفئة من الأميركيين. وعلى رغم ان هذه المعتقدات هي، خلافاً للظاهر، منفصلة تماماً عن المسيحية، تكمن مهارة الرئيس الأميركي في اخفائها، مستعيناً بالخوف الذي خلّفته هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001، والذي وحّد الكنائس في رد فعل وطني. لكن هذه الوحدة تتوقف هنا، في حرب العراق، يوم وقفت الكنيسة كقوة أساسية في وجه العمل العسكري، خصوصاً أنه مهما تحكم الخيال بالواقع، تبقى هناك حدود طبيعية لا يمكن تخطيها. 3- المحافظون الجدد: هم فئة يمينية تحاول منذ حوالي 30 عاماً فرض سيطرتها الايديولوجية والسياسية على الولاياتالمتحدة. وقد عارضت، كما عارض اليمين المسيحي الأصولي، المتغيرات الثقافية في الستينات. وكان مقدراً لها أن تبقى في الصف الثاني لو لم يصل بوش إلى البيت الأبيض، ثم شاء القدر ان تحصل كارثة 11 أيلول 2001، التي حوّلت رئيساً مغموراً ما زال كثيرون يشككون في نزاهة الانتخابات التي أوصلته الى سدة الرئاسة، الى شبه امبراطور. فأصبح الرئيس الأميركي منذ ذلك الوقت محوراً أساسياً لسياسة ترتكز على التفرد والهيمنة والتعبئة العسكرية المستمرة والحرب الوقائية، التي لم تكن ممكنة من دون تفجيرات نيويورك التي خلخلت التوازنات الداخلية الأميركية لمصلحة اليمين الجديد. ويؤكد الخبراء أنه كان بالإمكان اعتماد ردود فعل أخرى أخف وطأة على النظام العالمي، مثل تقوية فعلية للتعاون الدولي لوقف التهديد الارهابي، مقروناً بسياسة حكيمة لتخفيف الاحتقانات وايجاد حلول للأزمات في المناطق المتفجرة، خصوصاً في الشرق الأوسط، أو القيام بجهد تنموي في هذه المنطقة بوحي من مشروع مارشال الذي وضع لأوروبا غداة الحرب العالمية الثانية، والذي كان من شأنه تدعيم القوى الديموقراطية المحلية، بكلفة أقل من كلفة الحرب وتداعياتها على الاقتصاد الأميركي والعالمي. لكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً. فقد تركت ادارة الرئيس بوش النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي يتفاقم، وأعلنت تعبئة عامة واسعة النطاق مختارة الحرب الوقائية كوسيلة للسيطرة الشاملة. وهو مخطط جرى التسويق له في شكل متواصل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي من قبل مجموعة من المفكرين المقربين من ديك تشيني وريتشارد بيرل، المنتميين الى مجموعة المحافظين، بهدف "السيطرة على العالم عبر تفوق عسكري مطلق"، كما يقول الباحث والمحلل أناتول ليفن. ويعود هذا المشروع الى أواسط السبعينات من القرن الماضي، خلال فترة الانفراج بين الاتحاد السوفياتي والغرب، يوم قام تحالف بين المتطرفين الأميركيين، تماماً كما يحصل اليوم، كان قد وصل الى السلطة، بهدف الوصول الى التفوق الأميركي الاستراتيجي الشامل. وكان هذا التحالف يومها مؤلفاً من مجموعة من المحافظين الجدد، على رأسهم ألبيرت وولستيتر، نسيب بيرل، والرئيس بوش الأب الذي كان قد أصبح المدير الجديد لوكالة "سي. آي. ايه"، ووزير الدفاع في ذلك الوقت دونالد رامسفيلد نفسه، وتشيني، وبول وولفوفيتز الذي كان عضواً في الفريق "بي"، الذي أوكلت اليه مهمة وضع دراسة جديدة عن الخطر السوفياتي، كانت بمجملها ملفقة، لضرب سياسة الانفراج واضعاف وكالات الاستخبارات وحصر المعلومات بفريق البيت الأبيض، كما يحصل اليوم تماماً. كان الهدف من ذلك ابقاء حالة التأهب قائمة لتبرير زيادة القوة العسكرية الأميركية وسيطرتها على العالم، واخضاع الاتحاد السوفياتي لها. وقد توضحت هذه النظرة أكثر في الثمانينات من القرن الماضي حيث قامت المجموعة نفسها بأكبر عملية تعبئة عسكرية لم تعرف الولاياتالمتحدة مثيلاً لها في أيام السلم. فكان ان قضت هذه العمليات على سياسة الانفراج، مدعومة بتحالفات آنية بين قيادات من الحزبين، من بينها الجمهوري رونالد ريغان ومجموعة من المحافظين الجدد الديموقراطيين واليمين الراديكالي وبعض المنتفضين على الهزيمة في فييتنام. وقد أخذ هؤلاء يومها على الرئيس ريتشارد نيكسون وعلى هنري كيسينجر عملهم على قيام سياسة "واقعية"، بعيدة من التأهب العسكري الدائم. بينما المطلوب في نظرهم، وضع استراتيجية هجومية لإخضاع النظام الشيوعي. وقد ساعدهم سقوط الرئيس نيكسون بعد فضيحة ووترغيت، ووصول الرئيس جيرالد فورد الضعيف الى الحكم، لفرض سياستهم في سنوات قليلة. من هنا كان قيام الفريق "بي"، الذي كان هدفه اظهار ضعف معلومات وكالات الاستخبارات ومن خلالها اسقاط سياسة الانفراج، بهدف تلفيق معلومات كاذبة عن أخطار محدقة بالبلاد، خصوصاً أن الاتحاد السوفياتي يمتلك صواريخ نووية عابرة للقارات، وقادرة على ضرب الولاياتالمتحدة، وهو كما كانوا يؤكدون لن يتورع عن استعمالها عندما يحين الوقت. وقد نجح تحالف المحافظين الجدد في اسقاط سياسة الانفراج وابقاء الولاياتالمتحدة في حال تأهب دائم، ثم في ايصال ريغان الى الحكم، وهو صاحب القول الشهير ان الاتحاد السوفياتي هو "امبراطورية الشر"، وهي كلمة استبدلها الرئيس بوش بتعبير "محور الشر"، في وصفه لبعض الدول الأخرى. والجميع يعرف المشروع الضخم الذي بدأه الرئيس ريغان، مدعوماً من قوى اليمين المحافظ المختلفة، وعلى رأسها المحافظين الجدد، والذي سمي "حرب النجوم". لكن مع سقوط الاتحاد السوفياتي، وسيطرة الولاياتالمتحدة العسكرية، لم تسقط حجج المحافظين الجدد للابقاء على حال التأهب الدائمة بهدف الحفاظ على الأمن الوطني، فأخذوا يفتشون عن عدو جديد. فكانت حرب الخليج عام 1991 حجتهم الجديدة لإعادة التعبئة العامة العسكرية التي كانت قد هدأت لوهلة مع انهيار "امبراطورية الشر"، التي حلت محلها "الدول المارقة" كعدو جديد ضروري لإكمال المخطط، وذلك بإشراف تشيني وزير الدفاع في ذلك الوقت. بعد ذلك ببضعة أشهر، وضع وولفوفيتز وبعض معاونيه، وكان مستشاراً لتشيني لشؤون الأمن، وثيقة الدفاع الشهيرة المعروفة باسم "ديفانس بوليس غايدانس" والقاضية بمنع أية دولة من الوصول الى مستوى القوى الكبرى المعروفة، ووضع العراقيل في وجه أية دولة صناعية كبرى قد تحاول زعزعة النظام السياسي والاقتصادي الدولي القائم، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، والحؤول دون أي بروز مستقبلي لأية دولة منافسة ممكنة. لكن هذا القرار يستثني ضمناً دولة اسرائيل، الحليف الاستراتيجي والطبيعي الدائم للمحافظين الجدد، وهو استثناء يدعمه اللوبي اليهودي الأميركي والجماعات المحافظة، ويساندهم كثيرون في الادارة الأميركية الحالية حيث يكثر أصدقاء شارون المعتمد على الفيتو الأميركي المتأهب دائماً في مجلس الأمن. إن المشروع العسكري المتواصل، الذي استبدل ردع الاتحاد السوفياتي بالحرب على الارهاب ودول "محور الشر"، لم يكن ليستمر لولا الدعم المتواصل له من "أصدقاء" اسرائيل في الداخل الأميركي، حتى ولو كان بعضهم أصدقاء مرحليين. ويتواصل هذا المخطط اليوم، بأهداف مختلفة، أهمها الارادة الصارمة لليمين الراديكالي الأميركي والمتطرفين الأصوليين والمحافظين الجدد في محاولة لفرض سلطتهم بواسطة الحرب. وهي قوى تشكل اليوم السند الأساس للرئيس بوش في كل قراراته وفي الانتخابات الرئاسية. لكن هناك بين المحللين من يعتقد ان هذا التحالف بين قوى اليمين المتنوعة، القائم منذ حوالي 30 سنة، أخذ يتفكك اليوم. وكائناً من كان الرئيس الأميركي العتيد، فإن سياسة المحافظين الجدد الخارجية فقدت كل شرعيتها بسبب الحروب الأخيرة، فهم يؤكدون ان أية سياسة عظمة أميركية، على طريقة روزفلت، تحاول فرض أو ترويج الديموقراطية في العالم، هي مشروع ميت، ليس فقط في تسلسل السياسة الأميركية الفعلية للدولة، ولكن أيضاً لدى اليمين الأميركي. ذلك ان عضوي التحالف الآخرين يشككان في صحة هذه السياسة. فاليمين المتدين يبقى أميناً للرئيس وللقوات العسكرية، لكنه لا يعتبر حرب العراق أولوية بالنسبة إليه. أما اليمين التقليدي المحافظ، فهو ضد هذه الحرب. والأولوية بالنسبة اليه هي حماية كل ما هو أميركي من المنافسة والترويج للقيم الأميركية، والوطنية المتطرفة، وهو يمين انعزالي بالمعنى السياسي للكلمة، وبدأ يظهر دعماً أقل لسياسة اسرائيل الحالية. من هنا، ينصح الخبراء الرئيس بوش بالعودة الى السياسة التي كان اعتمدها قبل هجمات نيويورك، عندما كان يخطط لدولة قوية تحسن الدفاع عن نفسها، لكن بعيداً عن أحلام التفرد والسيطرة الشاملة، ويولي الأمور الاجتماعية اهتماماً أكبر خصوصاً من ناحية تخفيف الأعباء عن المواطن، والصحة والاقتصاد والمساواة. فهل يحسن الرئيس بوش، في حال عاد الى البيت الأبيض، الأخذ بهذه النصائح؟