هناك كتابات عدة تعرضت للتأصيل التاريخي والفكري لصعود اليمين الديني المسيحي في الولاياتالمتحدة، مثل السلسلة المهمة حول هذا الموضوع التي كتبها منذ ثمانينيات القرن الماضي الكاتب والمفكر الدكتور يوسف الحسن. وقد يتولد الانطباع لدي البعض بأن تصاعد دور الكنائس في المجتمع والسياسة الأميركيين متجه في مجمله حالياً - ونحن على أعتاب انتخابات رئاسية ونيابية أميركية جديدة فى نوفمبر 2008 - نحو اليمين، وربما ينبع ذلك من بروز دور اليمين الديني المسيحي خلال العقد الأخير. كما أن من الشواهد التي يشير إليها البعض للاستدلال علي ارتفاع أسهم اليمين المسيحي هو تصاعد قوة ما جرى علي تسميته ب"الصهيونية المسيحية"، وهي تصب في نفس مسار اليمين المسيحي وتعزز عري العلاقة بينه وبين اليمين اليهودي داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. وأخيراً، يتعين أن نذكر عاملاً آخر ساهم في ابراز قوة اليمين المسيحي أكثر، ألا وهو تحالفه مع تيار صاعد فى الفكر والسياسة الأميركيتين، أيضاً خلال الفترة الأخيرة، وهو تيار"المحافظين الجدد". وعلى الصعيد الداخلي، فإن مخاطر اليمين المسيحي على تماسك النسيج الاجتماعي الأميركي ازدادت وضوحاً عقب اعتداءات 11 أيلول سبتمبر 2001 في مدينتي نيويورك وواشنطن الأميركيتين. وظهر بقوة خطاب استقطابي من جانب العديد من رموز اليمين المسيحي يشير بشكل غير مباشر إلي التشكيك في ولاء الأميركيين العرب والمسلمين للولايات المتحدة، وتنوعت الأصوات التي تعكسه ما بين رجال دين ودعاة من عينة بات روبرتسون وجيرى فالويل، إلي شخصيات عسكرية قيادية من عينة الجنرال بويكين، إلى سياسيين من اليمين الأميركي بأطيافه المختلفة، إلي إعلاميين وأكاديميين وباحثين بجامعات ومراكز أبحاث منتمين إلي اليمين الديني، أو في إطار كنائس ومنظمات دينية يمينية التوجه والهوى. وبالرغم من حرص الرئيس الأميركي الجمهوري جورج بوش الابن وبعض معاونيه أحياناً علي التقليل من قيمة بعض التصريحات التحريضية القادمة من رموز اليمين المسيحي بحق المواطنين الأميركيين العرب والمسلمين أو التأكيد علي أنها لا تمثل الموقف الرسمي للإدارة الاميركية أو الحزب الجمهوري الحاكم، فإن هذه الموجة المتواصلة أثرت ولاشك بالسلب علي العلاقات بين الأميركيين العرب والمسلمين من جهة ومواطنيهم الآخرين من جهة أخري، وأوجدت جداراً من الشك في العديد من المناطق الأميركية بين مواطنين أميركيين من غير العرب والمسلمين وبين المجموعتين الأخيرتين، بحيث بدا الأمر أحياناً وكأن فئة من الأميركيين باتت متهمة وعليهم اثبات براءتهم، بدلاً من أن يكون الطبيعي أن يكونوا مواطنين عاديين حتي يثبت اتهامهم طبقاً للمبدأ القانوني المعروف"البينة على من ادعي". واذا كان اليمين المسيحي ابتغي من وراء مسعاه هذا صبغ هوية دينية ثقافية متناغمة قائمة علي الانتماء للإرث اليهودي/المسيحي المشترك كنوع من تعزيز الهوية الوطنية الأميركية أو تضييق إطارها، فان النتيجة النهائية حتى الآن تبدو عكسية، حيث انقسم غير العرب وغير المسلمين من الأميركيين ما بين مؤيد ومعارض لهذه التوجهات لليمين المسيحي الأميركي، بل إننا نزعم أنه برغم الغيوم التي خلفها خطاب اليمين المسيحي تجاه العرب والمسلمين وعلاقاتهم ببقية الأميركيين، فإنه خطاب دفع الكثير من الأميركيين غير المعنيين من قبل بالسعي للقراءة عن العروبة والاسلام، كما أنه دفع بقطاعات من الأميركيين لتبني والدفع باتجاه خطاب ليبرالي متسامح مقابل، بدا وكأنه بدأ يؤتي أكله جزئياً فى انتخابات 2006 التشريعية التي شهدت عودة الحزب الديموقراطي إلي غالبية الكونغرس بمجلسيه ثم في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية لانتخابات تشرين الثاني نوفمبر 2008. أما علي صعيد السياسة الخارجية، فإن الكنائس اليمينية دعمت الرئيس بوش في إعلان الحرب علي العراق باعتبار ان الرئيس يتحرك لتخليص العالم من"شرور"الرئيس العراقي السابق صدام حسين ولايجاد الحرية في العراق ولشعبها، في لغة شابهت تلك التي استخدمت في الخطاب الموجه للاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة. ويجب أن نتذكر هنا أن سقوط الاتحاد السوفياتي فى ظل ادارات جمهورية محافظة وتقليدية متعاقبة فترتي ولاية الرئيس ريغان وفترة ولاية الرئيس بوش الأب استقبله اليمين المسيحي باعتباره انتصاراً له، وبخلاف أولئك الذين استقبلوا نفس الحدث باعتباره انتصاراً لليبرالية والرأسمالية، بل هناك من أسموه بنهاية التاريخ مثل فرانسيس فوكوياما وإن تراجع لاحقاً عن مقولته تلك، فقد رأي اليمين الديني فيه انتصاراً"للخير على الشر"و"للإيمان على الكفر". وقد عزز هذا الحدث من ثقة اليمين المسيحي في نفسه ومن توسع اهتمامه بالقضايا الخارجية في ظل حس رسالي ومهمة تبدو"إلهية"متمثلة في فرض الخير في العالم، بالطبع طبقاً لتعريف اليمين المسيحي له. بل إن هناك من اليمين المسيحي من كان يبشر بأن الرئيس الأميركي يتلقي الهامه من الله بشأن ما يتخذه من قرارات، خاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو الأمر الذي عززته اشارات مبهمة فسرت في هذا الاتجاه وردت في عدة مناسبات علي لسان الرئيس الأميركي أو على لسان أو في كتابات عدد من مساعديه، سواء فيما يتعلق بالحرب علي العراق أو غير ذلك. وعلى مستوى آخر، هناك بالطبع قضية فلسطين، وهنا نقول بإيجاز إن الصهيونية المسيحية لها جذورها من الناحيتين الدينية واللاهوتية فى تطور عدد من تنويعات وتفريعات للفكر البروتستانتي، ثم اختراقها لفكر وعقائد كنائس متعددة، ولاحقاً والأهم هو الاختراق الذي نجحت الصهيونية المسيحية في أن تقوم به لقطاعات هامة من الانجيليين بما يمثلونه من ثقل بارز ومتزايد عبر العقود القليلة الماضية في المجتمع الأميركي. ونشير هنا إلى التأثير الذي مارسته وتمارسه الصهيونية المسيحية، بما صارت تتمتع به من نفوذ اعلامي وتأثير ديني وثروات مالية، ليس فقط في دوائر الادارة الأميركية ولكن أيضاً على صعيد أعضاء الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، ودفعهم في اتجاه دعم مطلق وغير مشروط لاسرائيل. ويذهب بعض المحللين إلي القول بأن بزوغ مفهوم"اسرائيل كدولة يهودية خالصة"الذي تقدم إلى الواجهة خلال السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك علي لسان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن وعدد من كبار مسؤولي إدارته، إنما جاء نتيجة التأثير المتزايد للصهيونية المسيحية علي الادارة الجمهورية للرئيس بوش الابن، سواء بشكل مباشر أو بصورة غير مباشرة عبر علاقات التحالف الوثيق بين الصهيونية المسيحية من جهة والمحافظين الجدد من جهة أخري. كما أن اليمين المسيحي في الولاياتالمتحدة الأميركية يلعب دوره في قضايا خارجية أخري، نذكر منها مثلاً موقفه من كوبا ودعمه للفئات اليمينية في صفوف المنفيين الكوبيين في الولاياتالمتحدة في رفض أي شكل من الحوار المباشر أو الشامل بين الولاياتالمتحدةوكوبا ويتبنون توجهاً إقصائياً يدعم خطط السعي للتخلص من نظام كاسترو، سواء في حياته أو بعد غيابه، في ضوء الاتهام ب"شيوعية"هذا النظام والحاديته و"شروره"التي تعادي ما تأمر به تعاليم"الرب"مثل مصادرة الممتلكات الخاصة وتقييد الملكية الخاصة والجور علي الحريات الشخصية وفي مقدمتها دائماً بحسب ادعاء هذا التيار- حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية. * كاتب مصري.