هل يؤدي سقوط المشروع الديموقراطي الاميركي في العراق، إلى صعود المشاريع الاسرائيلية القديمة بتفجير الحروب والانقسامات الاهلية في الشرق الاوسط الكبير؟ سنأتي الى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة مع طبيعة البيئة التاريخية التي تجري فيها الاحداث الجسام الراهنة في المنطقة. وهي وقفة تضعنا وجهاً لوجه أمام العديد من الحقائق كما الكوابيس. أولى الحقائق، وأهمها، ان الولاياتالمتحدة انتقلت بعد انهيار التحدي الشيوعي لها، ثم بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر، من كونها قوة أمر واقع في الشرق الاوسط الى كونها قوة "مراجعة revisionist"، أي قوة ثورية رافضة لهذا الامر وعاملة على تغييره بشتى الوسائل. وهذا عنى إعادة رسم طوبوغرافيا السياسة، وربما أيضا الخرائط، في المنطقة، وفق ما تتطلبه مصالح ومطامح دولة عظمى في عالم "وحيد القرن". يقول مايكل ماكفل، الباحث الأميركي في "بوليسي ريفيو": "لم يعد في وسع الولاياتالمتحدة الاكتفاء بالحفاظ على الوضع الراهن في النظام الدولي وفي الشرق الاوسط. عليها الان ان تكون قوة مراجعة، أي دولة تسعى الى التغيير في النظام لتحسين أمنها القومي الخاص. وهذه المهمة يجب أن تكون عدوانية بطبيعتها، لان أميركا لم تعد قادرة على مجرد الانتظار ثم القيام برد فعل على الهجوم الآتي". أي تغيير؟ ماكفل يراه عبر التدمير أولا، ثم البناء. وهو رسم اللوحة الآتية لرؤيته حول كيفية اعادة تنظيم الشرق الاوسط: يتعّين على الادارة الاميركية الالتزام ب"مبدأ الحرية" كدليل للسياسة الخارجية الاميركية، تماما كما التزمت مبدأ الاحتواء خلال الحرب الباردة.. وهذا يعني توسيع الحريات الفردية في الشؤون السياسية والاقتصادية، واحتواء ثم ازالة القوى المعارضة للحرية، سواء أكانوا أفراداً أم منظمات أم أنظمة. المبدأ يجب أن يتضمن مرحلتين: التدمير ثم البناء. والعدو الذي يجب تدميره هنا أيديولوجي في الدرجة الاولى. ولذا يجب التوضيح بأن الولاياتالمتحدة في حالة حرب مع التوتاليتارية الشمولية الاسلامية وليس مع الاسلام نفسه. التجارب دلّت على ان المصلحة القومية الاميركية العليا، تكمن في نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط. وهذا يجب ان ينفذ، على رغم انه في بعض الدول يجب التركيز أولاً على الحريات الفردية ثم تطبيق الديموقراطية لاحقا. تغيير الأنظمة في الشرق الاوسط يجب أن يأتي قبل التفكير بضم أي دولة الى المؤسسات الدولية. فتغيير الانظمة في الدول الاوتوقراطية يجب أن يكون سبب قيام النظام العالمي التعددي التعاوني وليس نتيجة له. بالطبع يتعين على الولاياتالمتحدة تجنّب تصدير الثورة من فوهة البندقية، لكن عليها، في المقابل، تطوير السياسات والمبادئ العسكرية التي تمكنها من استخدام قوتها لتحقيق تغيير الانظمة. بالطبع، "رؤى" ماكفل لم تكن السلعة الوحيدة في سوق أصحاب القرار الاميركيين. الى جانبها كان ثمة رؤى اخرى تستند أساسا الى نظرية موازين القوى المادية وليس الى مبدأ الحرية الايديولوجي. أقطاب هذه الدعوة هم بعض المحافظين الجدد الاميركيين خصوصاً ريتشارد بيرل وفيث ولفوويتز، مع حلفائهم الاسرائيليين خاصة شارون وموفاز، الذين دعوا الى تفكيك وإعادة تركيب الشرق الاوسط على أسس عشائرية وقبلية وطائفية، على أن تتكفل "اليد السحرية الخفية" لموازين القوى بإقامة التوازن بين الكيانات والوحدات السياسية الجديدة في المنطقة. وكسى هؤلاء مشروعهم التقسيمي الكبير بغلالة ايديولوجية. وهكذا، اقترح الكاتب الاميركي المقرّب منهم روبرت ليفاين "تعميم التجربة الديموقراطية السويسرية على الدول العربية". وكما هو معروف، أقام السويسريون ديموقراطيتهم ودولتهم استنادا الى فكرة الكانتونات اللغوية والدينية والاجتماعية الصغيرة. لكن، اذا ما طبقتّ هذه التجربة في المشرق العربي، فإنها ستعني اقامة فيديراليات أو كونفيديراليات قبلية وعشائرية وطائفية متناحرة لا متصالحة، بسبب غياب الاسس الصناعية - الانتاجية والليبرالية - الديموقراطية التي تضمن التعايش السلمي بين هذه الفئات. وهذا بالتحديد هو المشروع الاسرائيلي القديم للمنطقة. بيد ان التباين في واشنطن حول أنجع السبل لإعادة تشكيل الشرق الاوسط، لا يغيّر شيئاً من الحقيقة بأن ثمة قراراً أميركيا "نهائيا" بنسف الامر الواقع الراهن، حرباً أو سلماً. والحال ان مثل هذا القرار لم يتخذ بعد 11 أيلول بل قبله. ففي أول حزيران يونيو 2001، قال الرئيس بوش: "القرن العشرون انتهى ببقاء نموذج وحيد للتقدم البشري، يستند الى المطالب غير القابلة للتفاوض للكرامة الانسانية، وحكم القانون، ووضع قيود على سلطة الدولة، واحترام المرأة، والملكية الخاصة، وحرية التعبير، والتسامح الديني. الامهات والاباء والاطفال في طول العالم الاسلامي وعرضه، وفي كل العالم، يتشاطرون التطلعات والمخاوف المشتركة". ثم في 3 شباط فبراير 2003، عشية الحرب العراقية، شدّد بوش في خطاب أمام "أميركان انتربرايز" على ضرورة وأهمية دمقرطة العالم العربي "لان الامم المستقرة والحرة لا ترعى ايديولوجيات القتل"، ملمحا بذلك الى أن واشنطن اسقطت من اعتبارها ما كان يوصف ب"الاستثنائية العربية" التي جعلت الشرق الاوسط وفق مؤسسة "فيدام هاوس" "المنطقة الأقل حرية في العالم والاكثر مقاومة للموجة الثالثة من الديموقراطية التي اجتاحت آسيا واميركا اللاتينية واوروبا الشرقية خلال الثمانينات والتسعينات. ويتفق المحللون الاميركيون على القول إن العنصر المعادي للارهاب في النظرية الديموقراطية الاميركية حيال الشرق الاوسط، لم يكن في الواقع الدافع الوحيد لهذه السياسة. فالحاجة الى تعزيز الاصلاح العربي، تجد جذورها أيضا في حتمية تغيير أساسيات السياسات العربية والعلاقات العربية - الاميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ويضيفون أنه في حين أن المصالح الاميركية في الشرق الاوسط كانت تفرض في السابق دعم أنظمة الأمر الواقع التي يمكنها ضمان الامن الاقليمي، إلا ان هذه الانظمة تستند الى أسس ضعيفة. فثمة الان اعداد ضخمة من الشباب تدخل سوق العمل، فيما الاقتصادات التي تقودها الدولة راكدة، والبيروقراطيات متكلسة، والفساد مستشر. وكل هذا يوحي بعدم استقرار واسع مع تزايد الفجوة بالنسبة الى المواطنين العرب بين التوقعات والحقائق. ومع انحدار القومية العربية وصعود الاسلام المتشدد كوسيلة لإضفاء الشرعية على الحكومات وحمايتها من مطالب مواطنيها، ومع ازدياد مصادر المعلومات المستقلة، فإن الرفض للأوتوقراطيين العرب سيتفاقم. وتلخّص الباحثة الاميركية تامارا كوفمان ويتس هذا النمط من التحليل بقولها: "باختصار، الامر الواقع السياسي الراهن في الشرق الاوسط لا يمكن أن يستمر. وتحقيق نوع جديد من التوازن في السياسات العربية وتأسيس نوع جديد من البيئة في العلاقات العربية - الاميركية، سيتطلب اضطرابات وتغييرات قصيرة المدى". التعثر الداخلي "اضطرابات وتغييرات قصيرة المدى"؟ هل هذا يعني أيضا الحروب الاهلية؟ الامر وارد، لأسباب داخلية أيضا وليس فقط خارجية. وهذا ناجم أساسا عن تعثر مشروع "الدولة - الأمة" في الدول العربية التي برزت الى الوجود في أوائل القرن العشرين ومنتصفه. فهذه الدول - الأمم، ومعها نظامها الاقليمي المتجّسد بالجامعة العربية، عاجزان عن مواجهة التحديات الجديدة. فلا هما قادران على بناء "الأمة" القطرية المتطابقة مع الدولة القطرية، في زمن بدأ أصلا مفهوم الدولة - الأمة نفسه ينهار تحت ضربات ثورة العولمة. ولا في مستطاعهما حماية شعوبهما من مخاطر التهميش الاقتصادي والتبعية والتفكيك السياسي، ناهيك بمنحها حرياتها وحقوق الانسان. وأخيرا، ما عاد بإمكانهما بسبب تبعية نخبهما للخارج بلورة أي عمل عربي مشترك ومستقل، قادر على وضع الرأي العربي على جدول الاعمال العالمي. والى أزمة الدولة القطرية العربية، هناك أزمات المجتمعات القطرية العربية. فهذه الاخيرة وبسبب الضربات العنيفة التي تلقاها العمل القومي العربي منذ 1967، ثم انقلاب الاحزاب القومية في السلطة الى أحزاب قطرية سلطوية - استبدادية في الدول التي حكمت، تحللت الى تجمعات أهلية منقسمة على أساس المذهب او الطائفة او القبيلة، أو كلها معا، وباتت الصراعات الاهلية الباردة والساخنة هي الاطار شبه الوحيد للعمل السياسي وحتى الفكري فيها. هذه الدينامية لم تكن واضحة في أوائل السبعينات. فمن بين كل الانظمة التي كانت قائمة في الشرق الاوسط يوم نشوب حرب 1973، لم يحدث اي تغيير جذري وعنيف إلا في أطراف الشرق الاوسط، كأفغانستان والصومال. في ذلك الوقت، حصل انقلاب عسكري في بلد عربي واحد هو السودان، والحرب الاهلية والتدخل الخارجي كادا ان يمزقا دولة أخرى هي لبنان. اما اليمن الجنوبي فقد محي عن الخريطة من خلال وحدة سلمية مع جاره الشمالي. "التغيير الثوري"، بالمعنى الكامل للكلمة، لم يحدث إلا في ايران الشيعية، وقد تعثر تمدده بسبب الحرب مع العراق. اما في ما يتعلق بباقي الدول العربية، فإن العمر المديد بدا وكأنه القاعدة وليس الاستثناء. الانفجار الديموغرافي ليس من الواضح اذا كانت انظمة الشرق الاوسط التي كانت شديدة الاستيعاب للصدمات، قادرة هذه المرة ايضا على استيعابه، خصوصاً أن المتغيرات الدولية في الخارج تتوافق مع "الانفجار الكبير" للظاهرة الديموغرافية في الداخل. أول من التفت الى هذه الحقيقة كان فؤاد عجمي. قال: "أسس الاستقرار في الدول العربية بدأت تهتز منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، بفعل التوّسع الديموغرافي الكبير الذي اكتسح كل ما تم انجازه في مرحلة ما بعد الاستقلال. وبعد ذلك، تراءت في الافق ظلال التيارات الاصولية المتطرفة، ثم ما لبثت هذه الظلال أن تحولّت الى ريح قاتلة". يقال عن حق أن الثورة تقع على كاهل الفتية والشبان. وهذا ما يدفع الان الى الاهتمام الشديد بالمتغيرات السكانية الكبرى في العالمين العربي والاسلامي، والتي قد تكون لها مضاعفات كبرى على الحرب ضد التطرف. فالزيادة الكبيرة في أعداد الشبان، مؤشر على تحّول ديموغرافي ذي طبيعية ثورية، اذ هو يساعد الى حد كبير على انتشار الأصوليات، خصوصاً في الدول التي تزاوج بين نقص الفرص وبين نقص الشرعية في مؤسساتها الدستورية. وثمة وفرة من الأدلة التاريخية التي تشير الى أن فترات التمرد والحروب الاهلية، تحدث بالتزامن مع فترات تزداد فيها الى حد كبير أعداد الشبان والعاطلين عن العمل وندرة الموارد. وعلى سبيل المثال، كانت الدول في حقبة التسعينات التي يشكّل فيها الشبان 40 في المئة من السكان، أكثر بكثير عرضة من غيرها لخطر الحروب أو الاضطرابات الاهلية. الآن، اذا مزجنا المتغيرات الاستراتيجية الدولية مع الانقلابات الديموغرافية والتخثر السياسي والتأخر الاقتصادي في المنطقة، فعلام سنحصل؟ على حروب أهلية، أو على الاقل على تربة مؤاتية لهذه الحروب. وهذه بعض النماذج: في العراق تشير الدلائل، للأسف، الى أن بلاد العباسيين باتت على قاب قوسين أو أدنى من الحرب الاهلية. فالجهود تبذل الان على قدم وساق لفصل الشيعة عن السنة تحت شعار الفيدرالية الكردية الشيعية- الكردية، كما يطالب فوكوياما وغيره، وربما أيضا لفصل الشيعة عن الاكراد. وقد شهدت الأيام الأخيرة عينات من مثل هذه الجهود، مع اغتيال رجلي دين سنة في مدينة الصدر الشيعية، وجز رؤوس ثلاثة اكراد. لائحة الاطراف المهتمة بهذا المشروع الدموي تبدو طويلة. فالاميركيون يتهمون "القاعدة". وهم نشروا قبل شهرين وثيقة منسوبة الى أبو مصعب الزرقاوي، أحد قادة حركة "أنصار الاسلام" الحليفة لأسامة بن لادن، تقطر دما وتحريضا على شن حرب أهلية ضد كل من "الشيعة الرافضة"، والغالبية السّنية "الدهماء والهمج الرعاع"، وفق لغة الوثيقة. وأورد بعض المحللين العرب في واشنطن الماضي أيضا تقارير أكدّوا فيها أن المحافظين الجدد المسيطرين على الادارة الاميركية "لا يشعرون بالقلق من اندلاع الحرب الاهلية"، لان ذلك قد يخدم مصالحهم. أما الديبلوماسي العربي - الدولي المخضرم الاخضر الابراهيمي، فكان اول من حّذر من هذا الخطر. قال: "أحذّر القادة والشعب في العراق من احتمال وقوع حرب أهلية. انني قلق بسبب وجود مخاطر كبيرة جدا. الحرب الاهلية لا تندلع بقرار من شخص ما، بل هي تقع بسبب وجود أنانيين وجماعات كتلك التي وجدت في لبنان والجزائر تفّكر في نفسها أكثر مما تفكر في بلادها". وعشية تحذير الابراهيمي، كانت "فايننشال تايمز" تنشر تقريرا سرّيا أميركيا يحّذر من ان "بلقنة العراق" باتت وشيكة. من ينبغي أن نصّدق: الولاياتالمتحدة أم خصومها، أم المحايدين بين الاميركيين وخصومهم كالاخضر الابراهيمي؟ كلهم ! فواشنطن - المحافظون الجدد لها مصلحة حقا في اندلاع مثل هذه الحرب. اذ هي قد تحول سهام المقاومة المسلحة في العراق بعيدا عن صدور الجنود الاميركيين، وتجعل الوجود العسكري الاميركي نفسه في بلاد ما بين الرافدين حاجة دولية، ومطلبا شعبيا عراقيا، وتمنّيا رسميا عربيا. و"القاعدة" لها كل المصلحة بالحرب، لأنها سترجئ قيام الدولة العراقية وستحّول العراق الى "جنّة أفغانية" جديدة بالنسبة اليها. وبالطبع هناك الساسة العراقيون الجدد، الذين يحاولون تعزيز مواقعهم عبر رفع الشعارات المذهبية والطائفية، والذين يرون الى الحرب الطائفية بصفتها أسرع الطرق الى السلطة والثروة. بغض النظر عن طبيعة هذه السلطة. وهذا بالطبع تقاطع محلي - دولي خطر بما فيه الكفاية. وهو قد يصبح أكثر خطورة بكثير اذا ما انضمت الى هذا التقاطع دول كبرى واقليمية أخرى. اذ حينها سنعرف متى تبدأ الحرب، لكن سيكون من المستحيل معرفة متى تنتهي. السودان: ليس ثمة ضرورة للتساؤل عن احتمالات الحروب الاهلية في السودان، فهي وقعت بالفعل وانقضى الامر! فبعدما قاد سلام جنوب السودان الى الحرب في درافور غرب السودان، بدأت كل القوى التقسيمية في البلاد، خصوصاً في النوبة ومناطق النيل الابيض وغيرها، تشعر بأن زمن الوحدة ولّى، وأن عصر الأنفصال بدأ. وهو شعور في محله. فأي حدث داخلي في السودان، بات يتحّول بسرعة فائقة الآن الى حدث خارجي. البداية كانت في الجنوب، الذي تم تبرير التدخل الاميركي الكثيف فيه بفشل الحكومة المركزية في وقف الحرب الدموية المتواصلة ضد المسيحيين والوثنيين على أرضه منذ عقود. بيد ان هذا التدخل سرعان ما تمدد أيضا الى الغرب في درافور، على رغم ان الازمة هناك لم تبدأ سوى العام 2003، وعلى رغم ان الخرطوم وافقت على التفاوض مع زعماء التمرد في تنظيمي "حركة العدالة والمساواة "و"حركة تحرير السودان". الا أن هذين الاخيرين رفضا الحل السياسي لسبب غير خفي: الرهان على أن التدخلات العسكرية الخارجية، لا المساومات الداخلية، هي التي ستحسم الموقف في النهاية. كل هذه التطورات المتلاهثة التي يمسك بعضها بخناق بعض، وضعت، وستضع أكثر، وحدة السودان أرضا وشعبا على أكف كل عفاريت التفتيت الخارجي. وهنا نحن لا نتحدث عن احتمال تفكيك السلطة المركزية السودانية، تمهيدا لتحويلها الى سلطة فيديرالية ديموقراطية، فهذا في النهاية خيار يتطابق مع قدر السودان الجغرافي - الديموغرافي، بل عن تفتيت الكيان برمته الى كيانات أو حتى الى دول مستقلة عدة. العديد من المحللين البريطانيين يؤكد وجود مثل هذا التوّجه. والعديد منهم واثق بأن اتفاق السلام في الجنوب سيؤدي في النهاية الى استقلال الجنوب، وان اتفاق درافور العتيد سيقود الى انفصال الاقليم. وكذا الامر بالنسبة الى جبال النوبة ومناطق النيل الابيض... الخ. فلسطين: الانفجار الامني الخطير في غزة أخيراً، كشف بشطحة قلم واحدة، عن كل الجهود التي تبذلها تل أبيب ومعها واشنطن، لإشعال لهيب الحرب الاهلية الفلسطينية: فاسرائيل، عبر الاعلان عن خطة انسحاب ملغومة من غزة، مشفوعة بانحيازها العلني الى بعض القوى الامنية الفلسطينية داخل حركة "فتح" التي تستعد الآن لملء الفراغ في القطاع، وأميركا، بشل حركة السلطة الفلسطينية من خلال وضع فيتو دائم على رأس ياسر عرفات، والامتناع في الوقت ذاته عن دعم خلفائه المحتملين، بدءاً بأبي مازن وانتهاء بأبي العلاء.لحظة الحقيقة ستأتي مع غياب الرئيس عرفات اما بسبب الموت الطبيعي او الاستشهاد او الاغتيال، حيث سيكون على الفلسطينيين إثبات ان هويتهم الوطنية أقوى من مناورات واشنطن ومؤامرات تل أبيب. يحتل عرفات، كما هو معروف، أربعة مناصب سياسية مختلفة. فهو الرئيس المنتخب للسلطة الفلسطينية، ورئيس الحكومة الانتقالية في الضفة الغربية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية وايضا رئيس دولة فلسطين. الحديث عن انتقال السلطة يعني أولاً ان عصر قيام رجل واحد بكل هذه المهام الاساسية في الحركة الوطنية الفلسطينية سينتهي مع وفاة عرفات. عدد من القادة سيملأون هذه المناصب الشاغرة على الارجح. ومسألة ما اذا كان هذا التطور سيكون بمثابة دمقرطة للحركة الوطنية الفلسطينية او تفتتها، تعتمد على السياق الذي يجري فيه انتقال السلطة. ولكن من غير المرجح ان يملأ رجل واحد مجدداً هذه المناصب المتعددة ويتمتع بتمركز السلطة بين يديه كما فعل عرفات منذ سنوات طويلة. سياق انتقال السلطة، اذا، سيلعب الدور الرئيس في بروز هذا القائد او ذاك، الا ان انشطارا سياسيا مهما يقسم خط التنافس. ولا يقع هذا الانشطار بين العلمانيين والدينيين فقط فتح وحماس على رغم انه لا يجب التقليل من اهمية الخلافات بينهما، بل أيضا واساسا بين "نخبة اوسلو" و"نخبة الانتفاضة". وقد اطلق بعضهم على هذين الطرفين اسم "الحرس القديم" و"الحرس الجديد" او "الشاب". ويعتقد غلين روبرتسون، الباحث في مركز دراسة النزاعات المعاصرة، ان التنافس بين مجموعتي النخب هاتين، سيحدد مصير عملية انتقال السلطة الى درجة كبيرة وكذلك مسار السياسات الفلسطينية. وهو في الواقع صراع بين جيلين، لكنه صراع سوسيولوجي أساساً بين نمطين مختلفين من الرؤى ومجموعتين مختلفتين من قوانين اللعبة السياسية. ونظرا الى ان "مشروع السلام" في السنوات الماضية كان مخيبا من حيث نتائجه إذ أدى الى قيام مستوطنات جديدة واستقطاع أراض جديدة من قبل اسرائيل فمن المرجح ان يكون خليفة عرفات من نخبة الانتفاضة المحلية. لكن، هل سيحسم هذا التنافس سلما أم عبر حرب أهلية مصغرة؟ هذا هو السؤال الأخطر الآن في فلسطين. انقلاب السياسة الاميركية الاردن: من بين كل الدول العربية، يبدو الاردن الأكثر تأثراً بتقلبات القضية الفلسطينية، والاكثر حساسية للانقلابات في التوجهات الدولية ازاءها. وهذا ما يجعله يتأرجح بشكل مثير بين الصعود الى نفوذ اقليمي يكاد يكون "امبراطوريا"، تارة، وبين الهبوط الى قوقعة صغيرة تنغلق على كيانها الاصغر خوفاً عليه من الاندثار، تارة أخرى. غداة غزو العراق، كانت الاحاديث تتمحور اما حول عراق هاشمي بقيادة الامير الحسن، أو حول حلف بغداد جديد لقيادة الشرق الاوسط بين تركيا واسرائيل والعراق، يكون فيه الاردن واسطة العقد. لكن، وبعد تعثر المشروع الاميركي في بلاد ما بين النهرين، وانقضاض اسرائيل على الضفة الغربية لنهر الاردن، انحسر الدور الاردني بشكل لافت، وبات فجأة "حاضر الاردن في 2004 شبيها بماضي لبنان في 1975 على الاقل من بعض وجوهه: المتغيرات الدولية، الظروف الاقليمية، الاوضاع الامنية، والمخاطر من ألعاب اعادة رسم الكيانات الجغرافية". وعلى رغم ان المقارنة مع لبنان، الذي شهد اعتباراً من العام 1975 سلسلة حروب أهلية واقليمية دامية دامت اكثر من 14 عاما، تبدو مبالغا فيها بسبب اختلاف التراكيب السكانية والطائفية والتاريخية بين البلدين، الا انه ليس من المبالغة في شيء دق نواقيس الخطر. الاسباب ؟ انها كثيرة، في مقدمها الانقلاب الكبير الذي أدخله الرئيس بوش على التوجهات الاميركية ازاء فلسطين. فهو بتقديمه ضمانات الى اسرائيل بدعم مطالبها بابتلاع نحو نصف الضفة الغربية، وابقاء ستة مجمعات استيطانية كبرى فيها، ورفض عودة اللاجئين الى 1948، نسف عمليا كل فرصة لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. فعدم وجود دولة فلسطينية في الضفة وغزة، يعني عودة الروح الى شعار الدولة الفلسطينية في الاردن الذي لطالما طرحه اليمين الاسرائيلي ومفاده أن فلسطين كلها هي الدولة الاسرائيلية، والاردن كله شرق النهر هو الدولة الفلسطينية. ومعروف أن حوالي نصف المواطنين الاردنيين، أي 1.7 مليون، هم من أصل فلسطيني. وفي حال بدأت اسرائيل بتهجير فلسطينيي الضفة وغزة الى الاردن، فهذا قد يطيح بالتوازن الديموغرافي الهش فيه، ويضع بشكل جدي المشروع الاسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية في الاردن على جدول الاعمال الدولي. وقد عكس مسؤولون أردنيون هذه المخاوف أخيراً، حين قالوا ان "تغيّر السياسة الاميركية إزاء الصراع في المنطقة وتجاه مصالح حلفائها العرب، يثير قلق المملكة من ترتيبات وتفاهمات أميركية - اسرائيلية لحل القضية الفلسطينية على حساب الاردن". وما يعنيه المسؤولون هنا لا يتعلق فقط بمتغيرات فلسطين، بل أيضا بما يجري في العراق. اذ أنهم يخشون أن يؤدي احتمال السيطرة الاميركية - الاسرائيلية المشتركة على بلاد ما بين النهرين وعبرها على الهلال الخصيب العربي، الى نسف ركن أساسي من الاركان الاستراتيجية التاريخية التي قام على أساسها الكيان الاردني، وهو لعب دور الحاجز الجغرافي والامني بين اسرائيل وبين العراق وسورية. وحيت تنتفي الحاجة الى الاردن كحاجز، يصبح كيانه مفتوحا امام شتى المباضع، وعلى رأسها مبضع اليمين الاسرائيلي. بيد ان المخاوف الخارجية الاردنية ليست نهاية المطاف. هناك أيضا المخاوف الداخلية. فبعد الكشف عن ضمانات بوش لأسرائيل، أصدرت "جبهة العمل الاسلامي" الأردنية القوية، وهي الذراع السياسية لحركة "الاخوان المسلمين" التي تعتبر أكبر مجموعة معارضة في البلاد، فتوى تحظر فيها على المسؤولين الاردنيين الاجتماع بزملائهم الاميركيين. ويشمل هذا الحظر زيارة واشنطن. ثم بعد هذه الفتوى الخطيرة التي تجاوزت الخطوط الحمر، كانت السلطات تكشف النقاب عن عملية ارهابية كبرى كان ينوي بموجبها أنصار مصعب الزرقاوي، الحليف الأبرز لأسامة بن لادن، القيام بهجوم كيماوي على مقار رئاسة الوزراء، ودائرة الاستخبارات العامة، والسفارة الاميركية في عمان. ولو لم تعتقل السلطات عشرة من أعضاء الخلية المناط بهم تنفيذ هذه العملية، لسقط أكثر من 80 ألف قتيل و160 ألف جريح، وفق البيان الرسمي الاردني. هل سيكون الأردن قادراً على الصمود في وجه هذه الاعاصير الاقليمية - الدولية العاتية، كما فعل طيلة نصف القرن المنصرم؟ حسنا. الكثير، ان لم يكن كل شيء، يعتمد على القرار الاميركي - الاسرائيلي في هذا الصدد، وعلى اذا ما كانت ثمة حاجة بعد الى الدور الاردني في المنطقة. وهنا يبرز الخوف من حدوث التشابه الذي أشار اليه المحللون الشرق أوسطيون بين أردن 2004 ولبنان 1975. فكلاهما وجد نفسه وسط اطلاق نار اقليمي ودولي من كل ناحية. وكلاهما فقد دوره لبنان الخدماتي، الاردن الامني بسبب متغيرات المنطقة. وأخيرا كلاهما دفع ثمن وجود عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه. الفارق الوحيد بين النموذجين هو ضعف الدولة اللبنانية الكبير، وقوة الدولة الاردنية الكبيرة. اسرائيل: آخر كيان سياسي في الشرق الاوسط كان يعتقد انه سيكون عرضة للصراعات أو الحروب الاهلية، هو اسرائيل. ولا عجب. فالدولة العبرية هي الأقوى في المنطقة، وهي تتمتع بمؤسسات ديموقراطية متينة وسلطة قانونية محترمة. ثم انها أيضا القابلة القانونية لولادة "الوطن اليهودي" نفسه ليس فقط اقتصادا وسياسة وثقافة، بل حتى أيضا مجتمعا مدنيا. ومع ذلك كانت اسرائيل ترقص طيلة الاسبوعين الماضيين على وقع نغمة واحدة تحّذر من نشوب حرب أهلية فيها. لماذا؟ ماذا حدث؟ كثيرون من المحللين الاسرائيليين يعتقدون بأن تحذيرات كل من أرييل شارون والمستوطنين من حرب اهلية بسبب مسألة الانسحاب من غزة، هي مجرد تهويل سياسي وتخويف اعلامي. فاليهود المتطرفون الذين يفترض أن يكونوا الشرارة التي ستشعل لهيب هذه الحرب، أقلية محدودة لن تستطيع سوى خلق اضطرابات أمنية أو زرع الفوضى أو اغتيال شارون نفسه مثلا!. والدينيون والعلمانيون ليسوا معسكرين مكتملي الانفصال ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا، ليكونوا أرضا مؤاتية للصراع الاهلي. فهناك بين الدينيين من يؤيد فصل الدين عن الدولة، وهناك بين العلمانيين من يدعم تزويج الدولة والصهيونية للتوراة والتلمود. ثم أن الدولة نفسها قوية للغاية، وهي تستند ليس فقط الى أقوى مؤسسة عسكرية في الشرق الاوسط، بل أيضا الى قاعدة صناعية وتكنولوجية وادارية وتخطيطية متطورة. كما انها لا تزال منذ 60 عاما تقود بنجاح المجتمع المدني الاسرائيلي في شتى المجالات الاقتصادية - الاجتماعية والثقافية، على رغم كل تنوعه الاثني وتناقضاته الايديولوجية. سلاح التخويف كل هذه المعطيات تجعل من تحذيرات شارون والمستوطنين بالفعل مجرد سلاح تكتيكي هدفه التخويف السيكولوجي والاخضاع السياسي. لكن مهلا. استبعاد الحرب الاهلية الكاملة لا يعني أنه لن تكون هناك صراعات أهلية قد يقود تفاقمها وتراكمها الى حصيلة الحرب نفسها. الامر هنا أشبه بالحرب الباردة السوفياتية - الأميركية التي كانت تخاض سلما بين الطرفين على الصعيد الايديولوجي، وحربا بالواسطة على الصعيد العسكري. وهذا يمكن أن يحدث وفق السيناريو الآتي: نشوب مواجهات حقيقية بين دولة اسرائيل القائمة داخل حدود فلسطين 1948، وبين دولة المستوطنين داخل حدود فلسطين 1967، وهذه ليست توقعات افتراضية: فدولة المستوطنين تبدو مستقلة بالفعل عن المركز في تل أبيب، اقتصادياً وقانونياً وحتى أمنياً، الى درجة أن أحد المسؤولين الاسرائيليين اعترف بأن الحكومة لا تعرف ما يجري في المستوطنات وحولها، ولذا فهي تضطر الى مراقبتها عبر الاقمار الاصطناعية. لا بل خطط المستوطنون في وقت مبكر منذ العام 1989 لاعلان "دولة مستقلة لهم في الضفة وغزة لها جيش خاص واقتصاد خاص". دولة المستوطنين، التي حصدت منذ حرب 1967 أكثر من 80 بليون دولار معفاة من أي ضرائب، أطلقت موجة ايديولوجية عاتية نقلت التزمت الديني والقومي في الاحزاب والمجتمع الاسرائيلي من حيز الثقافة الى رحاب السياسة. كتب أرثر هرتزبيرغ في مؤلفه الجديد "مصير الصهيونية": "الانتصار العسكري في 1967 واستيطان الضفة وغزة، حوّل الحركات الدينية اليهودية الى حركات متطرفة باتت تهدد الوحدة الوطنية الاسرائيلية، وتسعى الى طلي الصهيونية العلمانية بألوان دينية خلاصية". وقال يوئيل ماركوس في "هآرتس": "دولة المستوطنين نجحت بعد 1967 في السيطرة على حزب ليكود وتمددت الى العديد من البنى السياسية والثقافية في اسرائيل. واذا انتصرت دولة المستوطنين على الدولة العبرية، فهذا سيعني نهاية الدولتين معاً". وهذا يعني، بكلمات أوضح، أن الحركات اليهودية المتطرفة التي تعشعش الآن في دولة المستوطنين، قد لا تكون قادرة على إشعال حرب أهلية، لكن في وسعها حتما اطلاق ما هو أسوأ منها بكثير: نسف قدرة الدولة اليهودية في مواصلة توحيد المجتمع المدني اليهودي حولها. وهذا سيؤدي، في حال تكرسه، الى تفجير كل التناقضات الاثنية والدينية والطائفية الاسرائيلية دفعة واحدة او بالتقسيط. لبنان وسورية: 15 سنة مرت حتى الآن على وقف الحرب الاهلية وحروب الآخرين في لبنان. لكن السلام الأهلي لم يتحقق بعد لأسباب داخلية وخارجية في آن. لبنان لا يزال منذ 1989 في منزلة بين المنزلتين بين الحرب والسلام الأهليين، الامر الذي جعله بالفعل في مرحلة انتقال حرجة. انتقال الى ماذا؟ هنا ترتسم في الافق معالم الصيغة اللبنانية المعقدة وطبيعتها. فهي صيغة داخلية ترتكز برمتها على توازنات خارجية اقليمية ودولية. حين يكون التوازن الخارجي قائماً، يتحقق الاستقرار. وحين يختل هذا التوازن، يهتز الاستقرار. الصيغة اللبنانية الآن في حال انتظار، لما سيسفر عنه شد الحبال الخطر بين سورية واميركا الراعيتين الاساسيين لصيغة الطائف التي أوقفت الحرب، وأيضا للسياسات التي سيتّبعها قادته الطائفيون في التعاطي مع الصراع الجديد. فإذا كانوا حكيمين بدرجة معقولة، سيتمكنون من أكل عنب الضغوط الراهنة على سورية من دون قتل ناطور الاستقرار الراهن. واذا كانوا من الغباء بدرجة خطيرة، سيقبلون تحويل أنفسهم ولبنان مجدداً الى وقود حروب بالوكالة تعيده الى أجواء ما قبل 1989. سورية، بدورها، تقف أمام منعطف تاريخي خطر. وقد دلّت أعمال الشغب التي قام بها الكرد وامتدت من القامشلي الى دمشق، أن صيغة التحالفات القديمة التي أقامها النظام وقرنها بحكم شمولي، ربما لم تعد كافية لمنع عودة شعار "الصراع على سورية" الذي اطاح به الرئيس الراحل حافظ الاسد من خلال سياساته الواقعية المستندة الى مبدأ موازين القوى. سورية عليها الآن أن تتغير خارجيا وتغير توجهاتها الداخلية في آن. وهذه معادلة صعبة للغاية أشبه بالرقص على حدي السيف. بيد أن التأقلم حتمي اذا كان ثمة رغبة بالبقاء. فالظروف الاستراتيجية انقلبت رأسا على عقب في المنطقة، وأحداث 11 أيلول دمجت الشرق الاوسط بشكل لا فكاك فيه بالنظام العالمي الاميركي. ومثل هذه التغييرات لن تحدث، حتى ولو واصلت الولاياتالمتحدة التخبط بدمائها في العراق. بكلمات أوضح، احتمال رحيل جورج بوش ومجيء جون كيري، لن يضعف شهية اميركا للتوسع او مواصلة النزال. انه سيعّدل فقط من الاساليب والتكتيكات. وليس أدل على ذلك من تلك الحصيلة التي خرج بها كل من أنطوني كوردسمان، رئيس دائرة الاستراتيجيا في مركز الدراسات الدولية في واشنطن، وأميتي شيلز، المحللة في "فايننشال تايمز". قال كوردسمان: "الولاياتالمتحدة لم تخسر العراق، بل خسرت استراتيجيتها فيه". وبالتالي، فإن تعثّر مشروع الاحتلال، لن يدفع لا الى الانسحاب من العراق ولا الى التخلي عن فكرة السيطرة عليه. كل ما سيحدث، هو مجرد تغيير موقت في الاستراتيجية، ثم مواصلة العمل الدائم لتحقيق الهدف. وقالت أميتي: "قبل ستة أسابيع من الانتخابات الاميركية، بات موضوع الجدل الرئيسي هو مقارنة العراقبفيتنام. لكن هذا بالتأكيد ليس نمط النقاش الفيتنامي القديم. فتدهور السيطرة العسكرية الاميركية على العراق، يثير بالفعل ذكريات فيتنام، لكنه لا يؤدي الى المطالبة بالانسحاب من بغداد كما من سايغون، بل الى مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر". وهذه خلاصات يجب أن تقرأ جيداً في الشرق الاوسط. نعود الان الى سؤالنا الاول: هل يؤدي سقوط المشروع الاميركي ل"بناء الأمة" في العراق، الى صعود الخيار الاسرائيلي القديم بتفجير الحروب الاهلية في المنطقة؟ لنقل، أولاً، ان مجرد اعلان الولاياتالمتحدة بعد 11 أيلول عن رفضها الامر الواقع في الشرق الاوسط، وضع المنطقة فوراً فوق صفيح ساخن بات معه التغيير هو القاعدة والاستقرار هو الاستثناء. ولنقل، ثانيا، ان هذه "النزعة الثورية" الاميركية كشفت الغطاء عن كل مناحي الضعف المعرضة للخطر في "الدول- الامم" الشرق اوسطية بما في ذلك حتى اسرائيل، على الصعد كافة: الايديولوجية كما الاقتصادية، والسياسية كما الثقافية. ولنقل، أخيرا، أن عملية "فك وتركيب" الشرق الاوسط التي تضعها النزعة الثورية الاميركية نصب عينيها، تتضمن اما تغيير الانظمة أو تغيير الخرائط. القرار هنا يعود الى وضع كل دولة، كما الى وضع المصالح الاميركية والاسرائيلية. في العراق، بدأت تميل الكفة الآن من "بناء الامة" الى "بناء الامم" العراقية، عبر حديد ونار الحروب الاهلية. وكذلك الامر في السودان مع بدء تبلور "الامم السودانية". ورقصة شياطين الحروب الاهلية لا تزال في بداياتها. في بداياتها الأولى