كان هناك أكثر من 1400 مرشحة للدور. وكانت التصفيات قد استقرت على نحو عشر من كبيرات النجوم في هوليوود، من طراز بوليت غودارد وبيتي ديفز وجوان بينيت وكاتارين هيبورن. كل واحدة من هاته النجمات الشهيرات كانت تحلم بأن يتم اختيارها لدور سكارليت أوهارا في الفيلم الذي كان تعاقب على البدء في اخراجه نحو أربعة من كبار المخرجين. لكن المنتج سلزنيك كان متطلباً إذ كان يريد لفيلمه ان يكون أكبر انتاج في تاريخ السينما الأميركية، وأن يحقق نجاحاً أسطورياً. وهكذا، اذ استقر الاخراج على فكتور فليمنغ، ظلت مسألة البطولة النسائية غير محسومة. وحتى بعد بدء تصوير العديد من مشاهد الفيلم ظل ريت بطلر كلارك غايبل من دون حبيبته الجنوبية. وذات يوم، فيما كان سلزينك يشرف على تصوير المشهد الأساس في الفيلم وهو مشهد حريق مدينة أطلانطا ولا شك ان القارئ أدرك هنا اننا في صدد الحديث عن "ذهب مع الريح" حدثت المعجزة، إذ تم أخيراً العثور على سكارليت أوهارا. كيف حدث هذا؟ لندع سلزنيك يرويه، كما كتبه بنفسه في واحد من فصول كتاب ذكرياته "سينما": "... قبل اللحظة التي أصطحب إليّ فيها أخي ماريون، الذي كان في ذلك الحين أحد كبار وكلاء الفنانين في هوليوود، لورانس أوليفييه والآنسة لي الى الاستديو كي يشاهدوا معاً تصوير مشهد الحريق في أطلانطا، لم أكن شاهدت هذه الآنسة مطلقاً. وحين قدمها إليّ ماريون، كان انعكاس الحريق يضيء وجهها بشكل غريب فيما كان ماريون يقول بهدوء: "دعني أعرفك على سكارليت أوهارا". وما إن ألقيت عليها نظرة حتى أدركت أن ماريون على حق. كانت تشبه تماماً الفكرة التي كوّنتها في رأسي عن بطلة "ذهب مع الريح". ولاحقاً أكدت التجارب التي أجريت لفيفيان لي ان في امكانها حقاً ان تمثل الدور وبأروع ما يكون. أما أنا فلم أبرأ أبداً من تأثيرات نظرتي الأولى اليها". سكارليت الى الأبد منذ تلك اللحظة أصبحت فيفيان لي سكارليت أوهارا. وظلت سكارليت أوهارا الى الأبد. بل انها فازت عن الدور بأول أوسكار حصلت عليه في هوليوود، ولسوف تحصل على الثاني عن دورها في "عربة اسمها الرغبة" من اخراج ايليا كازان، الى جانب مارلون براندو، حيث لعبت دور المرأة الجنوبية الهشة بلانش دوبوا. سكارليت أوهارا... بلانش دوبوا... ولكن أيضاً آنا كارنينا، وكليوباترا، وعاشقة جسر واترلو، وامرأة اللورد هاملتون وأوفيليا حبيبة هاملت... كلها أدوار لعبتها فيفيان لي طوال مسارها المهني القصير، وهي أدوار تجمع بينها هشاشة المرأة وفتنتها. والحال ان فيفيان لي كانت هي الأخرى، في حياتها الحقيقية، هشة وفاتنة. فاتنة الى درجة ان مئات الملايين عشقوها مع انها في حياتها، لم تحب حقاً سوى لورانس أوليفييه، وهشة الى درجة انها خلال السنوات الأخيرة من حياتها فقدت قواها العقلية، بسبب ترك لورانس لها، وفقدت صحتها هي التي كانت تعاني السل منذ شبابها الباكر. كل هذا وذاك صنع من فيفيان لي أسطورة هوليوودية حقيقية في الوقت نفسه الذي كانت فيه بريطانيا تعتبرها ثروة قومية الى درجة انها حين رحلت في شهر تموز يوليو 1967، نكّست الأعلام وأطفئت الأنوار في حي المسارح في لندن لمدة ساعة. وحي المسارح هذا كان المكان الذي انطلقت منه فيفيان لي أصلاً لتغزو هوليوود والعالم وأفئدة جماهير السينما... والمسرح. ومع هذا لم تولد فيفيان لا في لندن ولا في هوليوود. من الهند الى الدير ولدت لي في مدينة دارجيلنغ في الهند في العام 1913، لترسل باكراً من قبل والديها الى إنكلترا، حيث ألحقت بدير للراهبات تلقت فيه تعليمها الأول. ولأن أهلها كانوا موسرين، سرعان ما وجدت نفسها ترسل الى بلجيكا وإيطاليا وفرنسا لتتعلم الفرنسية والإيطالية الى جانب لغتها الانكليزية الأم التي كانت تتكلمها بشكل بالغ الأناقة. غير ان تلك الأناقة لن تمنعها لاحقاً، ومرتين على الأقل، مرة في "ذهب مع الريح" وثانية في "عربة اسمها الرغبة"، من التكلم بلهجة الجنوب الأميركي الخاصة جداً. غير ان هذا كان لا يزال بعيداً حين اكتشفت وهي في الثامنة عشرة من عمرها، حباً للمسرح فاق الخيال، فما كان منها الا ان قطعت دراساتها الأوروبية لتلتحق بالأكاديمية الملكية للدراما في لندن. وإذ حاول أهلها معارضتها في ذلك، تزوجت - لتستقل - أول من عرض عليها الزواج، وكان محامياً يدعى هربرت لي هولمان، فاستعارت منه اسمه لتصبح فيفيان لي. بعدما كانت فيفيان ماري هارتلي، وأعطته في المقابل ابنة هي سوزان. وهكذا صار في امكانها ان تنطلق في عالم الفن. في البداية اجتذبها المسرح، ثم كان دور السينما. وهكذا بين مسارح لندن واستديوهاتها السينمائية أمضت فيفيان عقد الثلاثينات الذي التقت في منتصفه لورانس أوليفييه وكان يعيش قمة مجده المسرحي في ذلك الحين. والحال انها منذ التقته لم تتركه أبداً، مع أنهما لم يتزوجا رسمياً الا في العام 1940، وبعد النجاح الكبير الذي حققته في هوليوود. قبل هوليوود، كان عليها ان تعمل كثيراً. وهكذا مثلت في بريطانيا أدواراً عدة، وقامت بجولات مسرحية في أوروبا، أهمها تلك التي دامت سنتين وكانت خلالها تمثل دور أوفيليا في "هاملت" شكسبير. وعند نهاية تلك الجولة، كان لورانس أوليفييه توجه الى هوليوود ليلعب الدور الرئيسي في فيلم مقتبس عن "مرتفعات وذرنغ" لإحدى الأخوات برونتي، فما كان من فيفيان الا ان لحقت به الى عاصمة السينما، من دون ان يكون لها هدف سوى العيش الى جانبه. لكن القدر كان يخبئ لها شيئاً آخر تماماً: كان يخبئ لها سكارليت أوهارا. والحال ان كثراً سيقولون لاحقاً ان حضورها في الفيلم واشعاعها لعبا دوراً كبيراً في نجاحه. صحيح ان وجود فيفيان في الفيلم من الصعب ان يفسر تحوله الى أسطورة، وإلى احد أكثر الأفلام نجاحاً في تاريخ الفن السابع. ولكن أحداً من المشاهدين لن ينسى ولو لعقود مقبلة، كل تلك المشاهد التي تظهر فيها فيفيان / سكارليت قوية فاتنة وحيدة واثقة من نفسها مشعة كما يجدر بأعظم نجمة في تاريخ السينما ان تكون. ادخار الأدوار إذاً، نجح الفيلم ونجحت معه فيفيان، وجاء فوزها بالأوسكار ليزيد سعادتها التي توّجت في العام التالي بزواجها، أخيراً، من لورانس، ليعتبر الزوجان صاحبي احدى أجمل قصص الحب في تاريخ هوليوود. والحقيقة ان ارتباطها بأوليفييه كان من القوة الى درجة انها حتى نهاية حياتها ظلت من دون فضائح أو قصص حب جانبية. "لقد ادخرت الحكايات الصعبة والعاطفية لأدواري السينمائية والمسرحية" كما يحلو لفيفيان أن تقول. ولكن المدهش في الأمر ان نجاح فيفيان الكبير في "ذهب مع الريح" لم يتح لها ان تلعب أدواراً كثيرة لاحقاً، اذ انها خلال السنوات التي تلت "ذهب مع الريح" لم تمثل الا في خمسة أفلام، من بينها "عربة اسمها الرغبة" في العام 1951. وكان ذلك بعدما شاهدها إيليا كازان تلعب دور بلانش دوبوا في مسرحية تنبيسي ويليامز هذه، فتعاقد معها لتلعب الدور سينمائياً. وهي قبل "عربة اسمها الرغبة" كانت تألقت في "جسر واترلو" 1940 ثم في "ليدي هاملتون" 1941 الى جانب لورانس أوليفييه وفي "قيصر وكليوباترا" 1945 ثم في "آنا كارنينا" 1948. والحال ان نجاحها في هذا الفيلم الأخير، ثم نجاحها الساحق في "عربة اسمها الرغبة" لم يزيلا الحزن الشديد الذي استبد بها بفعل الاخفاق التام الذي كان من نصيب "قيصر وكليوباترا"... ذلك ان عدداً كبيراً من كاتبي سيرتها يؤكدون ان نوباتها العصبية ابتدأت فور اخفاق هذا الفيلم الذي يبدو انها كانت تعول عليه كثيراً ليخرجها من أسر شخصية سكارليت أوهارا. والحقيقة ان لا كليوباترا أخرجتها من ذلك الأسر، ولا حتى آنا كارنينا أو بلانش دوبوا، ويروى دائماً أن فيفيان ظلت حتى سنوات وعيها الأخيرة تروي كيف ان الذين يلتقونها من الناس العاديين في الشارع أو في أي مكان آخر كانوا يبادرون بالقاء التحية عليها مسمينها سكارليت. وهي حين كانت تروي هذا، كانت تضيف متسائلة بشيء من الغيظ: "كيف يمكنني ان أقتلها هذه السكارليت التي تحتلني تماماً وتكاد تمحوني؟". فهل علينا ان نقول ان سكارليت هي التي قتلت فيفيان في النهاية؟ ربما يكون في هذا شيء من المغالاة، لكن فيه شيئاً من الحقيقة أيضاً. المهم ان فيفيان لي، بعد فوزها بثاني جائزة أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في "عربة اسمها الرغبة" كانت تأمل في ان يسند اليها مواطنها ألفريد هيتشكوك دور ربيكا في الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه، والمقتبس عن رواية لدافني دي مورييه، لكن الأمر انتهى بهتشكوك الى اختيار جوان فونتان بدلاً منها. ولقد زاد من سوء الأمر ان هتشكوك قال في جلسة خاصة - سرعان ما وصلت تفاصيلها الى سمع فيفيان - انه خشي ان يتعامل الناس مع ربيكا، ان مثلتها فيفيان لي، على انها سكارليت أوهارا أو بلانش دوبوا. وكان في هذا ما يكفي لجعل فيفيان تنهار. فانهارت. لكن انهيارها، في ذلك الحين كان لا يزال في بداياته، لذا لم يمنعها من مواصلة عملها الفني، لا سيما على خشبة المسرح، اذ نجدها طوال بداية عقد الخمسينات تركز على الجولات المسرحية التي أخذتها في طول أوروبا وعرضها، والى العديد من المدن الأميركية لا سيما نيويورك، موصلتها الى أستراليا ونيوزيلندا. وهي خلال ذلك كله استعادت، الى حد ما، علاقتها بلندن لتصبح أحد الأعمدة الرئيسية في مسرح "الأولدفيك" العريق، أحياناً الى جانب لورانس أوليفييه وأحياناً من دونه. وهكذا بدا ان المسرح عاد يستهويها في شكل نهائي. والحقيقة انها خلال الفترة التالية، وحتى رحيلها لم تظهر الا في ثلاثة أفلام أخرى، لن يكون لأي منها أية أهمية فائقة. بل ان المسرح نفسه سيلفظها سريعاً. ذلك انها منذ العام 1953 راحت تنتابها نوبات عصبية تزداد حدتها تدريجياً. سوف يقال لاحقاً ان لورانس أوليفييه الذي كان في ذلك الحين لا يزال يكن لها مشاعر حب حقيقية، حاول مساعدتها كثيراً، لكنها هي بدأت تصعّب الأمور عليها وعليه: اشتدت غيرتها، وراح داء السل يأكلها، وبدأت السينما تبتعد عنها. وفي العام 1954 حين حاول المنتجون التعاقد معها للقيام بدور البطولة في فيلم "مسيرة الفيل" وبدأت تصوير بعض المشاهد فعلاً، لم يكن أمام المنتجين ازاء أزماتها العصبية المتكررة، الا ان يستبدلوها بإليزابيت تايلور. والطريف ان من يشاهد هذا الفيلم اليوم سيلاحظ ان فيفيان لي، وليست تايلور، هي من يمثل في اللقطات البعيدة. لورانس يذهب بعيداً طبعاً، ازاء تردي حال فاتنته، حاول لورانس أوليفييه ان يقنعها، ومعه الأطباء، بالدخول الى مأوى ليصار فيه الى معالجتها، لكنها رفضت مجرد البحث في الفكرة وازدادت شراستها، لذلك لم يعد في وسع الأطباء الا ان ينصحوا بأن تخلد الى الراحة في بيتها، من دون ارهاقها بأي عمل. وهنا، بعد عامين او ثلاثة من الهدوء، بدا واضحاً ان لورانس لم يعد يحتمل هذا الوضع، فطلب الطلاق. ووقع الخبر على فيفيان وقوع الصاعقة. صحيح انها، بعدما تركها لورانس أوليفييه، أقامت علاقة مع الممثل جاك ميريفال، لكنها كانت علاقة صعبة لم تتمكن أبداً من ان تعيد اليها توازنها. في ذلك الحين كانت فيفيان قد أضحت في الخمسين من عمرها، وصار مجدها كله وراءها. والآن لئن حاول بعض المنتجين التعاقد معها للتمثيل في أفلامهم، كان من الواضح بالنسبة إليها - وإليهم - ان الأدوار لن تكون أدوار فاتنة حسناء. وأن أي شيء ستفعله لن يبني لها أي حاضر. ومن هنا راحت ترفض الأدوار تباعاً، لتقف أمام المرآة بوجهها الشاحب ويديها المرتجفتين وتخاطب صورتها وكأنها بلانش دوبوا تخاطب سكارليت أوهارا. وكان ذلك في الوقت الذي راح فيه داء السل، هذه المرة، وليس الانهيار العصبي، يرغمها على تمضية أيام طويلة في المستشفى. في ذلك الحين لم يتردد تنبيسي ويليامز، الذي طالما عبّر عن حبه لها واعجابه بها اذ مثلت دور بلانش في مسرحية "عربة اسمها الرغبة"، في ان يقول آسفاً: "طالما ان فيفيان عرفت الجنون، لم يعد في وسع شيء الآن ان يبعد عنها شبح الموت". وبالفعل ما ان حل شهر تموز من العام 1967 حتى كانت فيفيان لي تلفظ أنفاسها في لندن وحيدة حزينة ضائعة، غير مدركة ان قيامها، في أفلامها الكبرى، بدور المرأة التي لا تتورع عن تدمير ذاتها بذاتها، كان لا بد له في نهاية الأمر من ان يقضي عليها، ويجعل الخيط الفاصل لديها بين الدور والحياة هشاً للغاية، تماماً كما كان هشاً - استطراداً - ذلك الخيط الفاصل لديها بين سكارليت وبلانش وفيفيان