كان حلف شمال الاطلسي يملك عقيدة عسكرية لم يضطر، مرة، الى وضعها موضع التطبيق. وها هو، بعد خمسين سنة على تأسيسه، ينفذ عقيدة عسكرية جديدة لم يعلن عنها بعد ولم تعتمد رسمياً. لقد انتصر الحلف من دون ان يطلق رصاصة واحدة. ولعل المفارقة هي انه كان يسجل فوزه في العام 1991 ويقرّ، في الوقت نفسه، نظرية امنية تقوم على اعتبار "حلف وارسو" المحتضر العدو الوحيد. لقد حصلت تطورات عديدة منذ ذلك الوقت. وكان عنوانها الابرز ان العالم دخل في عصر جديد وان التوازنات الناشئة تسمح للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالحصول على موافقة الهيئات الدولية في كل مرة تود التحرك العسكري دفاعاً عن مصالحها. غير ان التحولات في روسيا، وصعود القوة الصينية، وبروز نزعات استقلالية اوروبية، دفعت واشنطن الى مراجعة رهانها على "العمل المشترك" من اجل اعتماد نهج جديد يقوم على تفضيل ما هو مشترك حيث يمكن ذلك، والارتضاء بتحالفات أقل حيث تفرض الضرورة نفسها، والتصرف المنفرد حين لا يكون بد من ذلك. واذا كان الخيار الثالث هو المعتمد حيال العراق ولو انه يحظى بتغطية بريطانية، فان الحل الثاني هو الجاري اعتماده في كوسوفو. وفي الحالين تدفع الهيئات الدولية، ومجلس الامن على رأسها، الثمن. عندما قام حلف الاطلسي في 1949 اعتمد وثائق كثيرة تقول في مقدماتها ان عمله سيتم تحت مظلة الاممالمتحدة. ولكن هذه المقدمات كانت شكلية لان الاطروحات الجوهرية كانت التالية: اولاً - الافتراض بأن هجوماً سوفياتياً برياً سيحصل ذات يوم فوق المسرح الاوروبي. وادى نشوء "حلف وارسو" لاحقاً، الى زيادة المخاوف في هذا الاتجاه خصوصاً ان الكتلة الجديدة تملك قوات تقليدية قادرة على حسم المعركة الارضية في خلال ايام. ثانياً - الانطلاق من المعطى السابق يقود الى التمسك بوجود قوات اميركية في دول غرب اوروبا وليس في المانيا وحدها. قد لا تكون هذه القوات مهمة من حيث العدد والفعالية. الا انها كذلك لناحية رمزيتها. فوجودها حيث هي يعني ان اي هجوم سوفياتي سيطالها ويقحم الولاياتالمتحدة مباشرة في الحرب. والصلة واضحة بين هذا السلوك وبين ما حصل في الحرب العالمية الثانية. لقد دخلت اميركا الحرب جوياً بعد عملية بيرل هاربور اليابانية ضدها. ثالثاً - رفض حلف الاطلسي، باستمرار، التخلي عن الحق في توجيه الضربة النووية الاولى. وسبب ذلك ادراك التفوق الكاسح ل "العدو" في المجال التقليدي، وهو الامر الذي لا يمكن الجواب عليه الا بالتلويج ب "حق الرد" بوسائل غير تقليدية. رابعاً - بما ان مبادئ الحلف تنص على واجب الدفاع الجماعي عن اي دولة تتعرض لاعتداء سوفياتي واسع فان ذلك قاد الى اعتبار الوجود الاميركي، والمظلة النووية الاميركية، بمثابة الحماية الاستراتيجية الرئيسية للدول الاعضاء. وبناء عليه بات في وسع واشنطن ان تمتلك ورقة مهمة في وجه حلفائها وهي الورقة التي جعلتهم يسلّمون بأرجحيتها وقيادتها. أدت هذه التوازنات القائمة على فكرة "الابادة المتبادلة" إلى حفظ الامن في اوروبا لأطول فترة في تاريخها. صحيح ان ازمة برلين قادت الى مواجهة سياسية لكنها بقيت تحت الضبط. ولما قمعت قوات من حلف وارسو تحركات في هنغاريا او تشيكوسلوفاكيا ثارت ضجة كبيرة لم تصل الى حد التحرك العسكري من جانب الاطلسي. فما يحصل داخل "المعسكر الآخر" ليس مهماً في حد ذاته طالما انه لا يعدّل التوازن الاجمالي. لقد أمكن، في هذه المرحلة من الاستقطاب الثنائي، ايجاد اطر لحل المواجهات ومنع أي انزلاق. كانت القمم الاميركية - السوفياتية جزءاً من هذه الآلية، ومفاوضات الحد من الاسلحة الاستراتيجية و"الخط الاحمر" بين البيت الابيض والكرملين… ثم جاءت اتفاقية هلسنكي في 1975 لتشكّل تتويجاً لهذه المؤسسات. كان من الطبيعي، في ظل التوافق على تجنب المواجهة الشاملة في اوروبا، ان ينتقل الصراع الى العالم الثالث مقدماً بعداً دولياً لعدد من الازمات ذات الطابع الاقليمي الشرق الاوسط، كوبا، الخ… تقدم حلفاء السوفيات في السبعينات. واختتمت موسكو العقد بالدخول الى افغانستان. وكانت ازمة الرهائن في ايران زعزعت مواقع الرئيس الاميركي جيمي كارتر. مع وصول رونالد ريغان الى الرئاسة جرى تدشين مرحلة جديدة من الحرب الباردة، كانت ازمة الصواريخ في اوروبا من ابرز معالمها. وقد انتصر الاطلسي في هذه المواجهة واختتم السوفيات تراجعهم المنتظم ثم الفوضوي مع وصول ميخائيل غورباتشوف الى السلطة. ومع حلول التسعينات كان المعسكر الاشتراكي يتفكك والاتحاد السوفياتي نفسه يتحلل وحلف وارسو يختفي من الوجود. ويومها قال غورباتشوف كلمة دخلت التاريخ. فلقد تكلم مخاطباً الاطلسييين: "سنلحق بكم ضرراً عظيماً. سنحرمكم من خصم واضح". ولقد تصرف هؤلاء وكأنه محق بدليل انهم، في 1991، تصرفوا وكأن المعسكر الاشتراكي ما زال عدوهم الاستراتيجي واعتمدوا في اجتماعات الاطلسي، عقيدة دفاعية مؤسسة على هذا… الوهم. ما كان ممكناً في مطلع التسعينات لم يعد وارداً منذ 1994. فلقد بات واضحاً ان المعطيات تغيّرت كلها ولا بد من ادخال ذلك في التخطيط والتنظيم والتدريب وتوزع الجيوش وانتاج الاسلحة. لقد بادرت الولاياتالمتحدة الى ذلك. شرعت في انقاص موازنتها العسكرية واقدمت على اعادة بناء جيشها. لم يعد معدّاً لمنازلة حاسمة مع "السوفيات" وانما لخوض حربين اقليميتين كبيرتين في وقت واحد العراق وكوريا. وبات التركيز على قدرة نقل القوات بسرعة وفعالية وعلى انواع التسليح التي تضمن اقل الخسائر البشرية الممكنة. وبدا، لفترة، ان غياب الخطر السوفياتي سيدفع اوروبا، السائرة نحو الاتحاد، الى تخفيف علاقاتها الاطلسية مع الولاياتالمتحدة. ولكن العكس هو الذي حصل حتى ان بلداً مثل فرنسا كان اتخذ مسافته عن الحلف وجد نفسه مدفوعاً نحو البحث في افضل الصيغ الممكنة للعودة الى القيادة المدمجة. المرحلة الاولى من تطور الاطلسي في صيغته الجديدة شملت ثلاث قضايا: التوسيع، الشراكة، روسيا. دار نقاش في صفوف الحلف حول الدول المدعوة الى الانضمام اليه. وجرى استبعاد دول البلطيق من المرحلة الاولى لعدم استفزاز روسيا. كذلك جرى استبعاد اوكرانيا. وقرّ الرأي في النهاية على اعتماد ثلاثة اسماء: بولندا، هنغاريا، تشيكيا، وقيل في تبرير ذلك انها توخي معايير محددة على صعيد التقدم الاقتصادي النسبي وخضوع الجيش للسلطة السياسية، والتداول السلمي، والقدرة على المشاركة في تحمّل اعباء التحولات المطلوب ادخالها الى القوات المسلحة. الى ذلك عقد الحلف مجموعة من اتفاقيات "الشراكة من اجل السلام" مع عدد من العواصم في اوروبا الشرقية والوسطى ودول الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقديم هذه الاتفاقات بصفتها "غرفة انتظار" تمهد في مرحلة لاحقة، الى اكتساب العضوية. كانت روسيا تحتج في كل مرة من دون جدوى، فهي اعتبرت ان استبعادها يعني بناء "ستار حديدي" جديد حولها وانشاء انقسام في قلب القارة يعزلها ويهددها، ووصل بها الامر الى حد المطالبة بالانضمام الى الحلف غير ان واشنطن رفضت. وكان الحل هو توقيع "عقد" خاص معها ينشئ آلية تعاون، ويضمن الشفافية، لكنه لا يعطيها حق النظر في القرارات ولا وضع اي "فيتو" عليها. لقد كانت هذه التطورات تحصل في غمرة نقاش استراتيجي صاخب: هل يبقى الاطلسي ام يزول؟ ما مبررات بقائه وتدعيمه؟ من هو عدوه الجديد؟ ما هو مسرح عملياته؟ اين مكامن التحدي والتهديد؟ ولقد تعزز هذا النقاش في "افتتاح" الازمات اليوغوسلافية في البوسنة تحديداً، ومن الدور المشكل الذي وجد الحلف نفسه موعداً الى لعبه هناك بصفته "الذراع الضاربة" لمجلس الامن. وتدريجياً شرعت تتبلور في الاوساط المعنية بالتطورات الاستراتيجية مجموعة من الافكار والاطروحات. رداً على السؤال الخاص بالمخاطر الجديدة ميز الاميركيون بين تحديات تمثلها روسيا او الصين وبين تهديدات من نوع: الارهاب، اسلحة الدمار الشامل، الدول المارقة، الجريمة المنظمة… وفي مرحلة لاحقة اشتد التركيز على احتمال وجود علاقات بين هذه التهديدات من نوع ان تحصل مجموعات ارهابية على اسلحة كيماوية او بيولوجية ومن نوع ان تتمكن دول مارقة العراق، كوريا، ايران، الخ… من امتلاك منظومات صواريخ تطول الاراضي الوطنية لدول الحلف بما في ذلك الولاياتالمتحدة. جرى، بناء على ذلك، تحديد مهمات جديدة للحلف لا علاقة لها باستيعاب تقدم "سوفياتي" واسع في اوروبا. باتت الكتابات والتحليلات تميل الى اعتبار ان المهمات الاوروبية هي اقرب الى حفظ السلام، او عمليات الاغاثة، او تطويق منازعات اثنية او قومية يمكن لها ان تنشأ الخ… هذا في ما يخص اوروبا اما في ما يتعلق بمصادر التهديد فان واشنطن تريد لسلوكها حيال العراق ان يشكل نموذجاً يقتدى وكذلك لسلوكها حيال السودان او افغانستان بذريعة العلاقة مع اسامة بن لادن. بناء على ما تقدم فان مسرح العمليات الفعلي تحول الى الجنوب بعض الشيء، سواء في البلقان او القوقاز او حتى في الشرق الاوسط فالتوسع مشرقاً يوازنه الادراك بأن الجنوب هو "مصدر توتر" ويجب ابقاؤه تحت الضغط. واذا كان الجنوب يشمل الشرق الاوسط ايضاً فان الحلف اكتفى، حتى اللحظة بادارة حوار مع عدد من الدول وذلك عبر ما أُطلق عليه اسم "المبادرة المتوسطية للاطلسي". وهذه الدول هي اسرائيل، وتركيا العضو في الحلف، والاردن، ومصر، والمغرب، وتونس، وموريتانيا. ولقد عقدت سلسلة من الاجتماعات بين خبراء من هذه الدول من اجل البحث عن مجالات تعاون مشترك. ولعل المناورات الاميركية - التركية - الاسرائيلية في المتوسط هي احد ميادين تطبيق هذا التعاون. وذلك في انتظار صياغة العقيدة الجديدة. بعد تعريف التهديد والوظائف ومسرح العمليات ناقش الحلف طريقة اتخاذ القرارات. وكان الموقف الاميركي واضحاً في ان الاستعانة بمجلس الامن محببة عندما تكون النتيجة مضمونة والا فان الاطلسي يمكنه التصرف منفرداً اذ اعتبر ان مصالحه مهددة. يفترض بالقمة الاطلسية التي ستعقد بعد اسابيع في واشنطن للاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الحلف ان تقر هذه التوجهات الجديدة. ولكن في غضون ذلك يجدر تقديم ملاحظتين: الاولى، لقد باشر الاطلسي ممارسة دوره الجديد، وتشكل ازمة كوسوفو، بهذا المعنى، "معمودية نار" نموذجية: تتم خارج مسرح العمليات السابق، وتجمع بين فرص السلام والاغاثة وتطويق آثار التمزق الاثني، لا تواجه الروس مباشرة، ولا تطلب اي اذن من مجلس الامن. الثانية، ان العقيدة المشار اليها لم تقر رسمياً بعد، وثمة دول تملك ملاحظات عليها. ففرنسا، مثلاً، معترضة، فباريس تصر على تحديد جغرافي ضيق لمسرح العمليات، وعلى ضرورة الحصول على موافقة مجلس الامن عند كل تدخل، وعلى عدم احلال الاطلسي محل الهيئات الدولية الاخرى المعنية بالرقابة على اسلحة الدمار الشامل، وعلى تعزيز "المكوّن الاوروبي" في منظومة الدفاع الغربية. ولقد كانت هذه الاعتراضات في صلب التقرير الذي رفعه رئيس لجنة الدفاع في الجمعية الوطنية ووزير الدفاع السابق بول كيياس الى البرلمان. وشاءت الصدف ان يتم الكشف عن هذا التقرير النقدي جداً حيال التوجهات الاميركية في لحظات اعلان السلطات الفرنسية ان قواتها تشارك حلف شمال الاطلسي في عملياته ضد يوغوسلافيا. والواضح ان هذه "الصدف" تكاد تفرغ التقرير من مضمونه وتؤكد ان واشنطن سجلت نقطة لمصلحته في مواجهة المعترضين. ولم يعد باقياً على الرئيس بيل كلينتون سوى تشديد الضغط للحصول على نتيجة، ولو متواضعة، عشية القمة التي يستضيف من أجل ان تكون الاحتفالات على مستوى الحدث: اذ كان "الاطلسي" في صيغته القديمة انتصر من دون قتال فكيف اذا ولدت "الصيغة الجديدة" في مهيب المعارك والمواجهات؟