نحن الآن في تشرين الاول اكتوبر 1998. وزراء دفاع حلف شمال الاطلسي يعقدون اجتماعاً سرّياً في عاصمة أوروبية لبحث مسألة كوسوفو واحتمالات شن الحرب على صربيا. وزير الدفاع الاميركي وليام كوهن يعرض خطة الرئيس بيل كلينتون لشن هجمات جوية، ويتحدى زملاءه الاطلسيين إيجاد دور جديد للحلف بعد نهاية الحرب الباردة: "إذا لم يستطع الحلف أن يحشد قواته لتهديد السيد ميلوسوفيتش، فما تراه يكون الهدف من وجوده أصلاً". في تلك الفترة عينها، كان الكاتب الاميركي وليام بفاف يحذرّ قائلاً: "لم يعد النقاش حول التدخل في كوسوفو جدلاً حول الوسيلة الفضلى التي تؤدي الى الغاية المرجوة، بل بات نقاشاً حول إمكان التخلي عن حلف الأطلسي وأيضاً عن تحّمل اميركا مسؤوليتها في قيادة العالم. إذا لم يحرز حلف الاطلسي نصراً على صربيا، لن يبقى هناك حلف أطلسي". وبالطبع الباقي تاريخ معروف: الحلفاء الأوروبيون نحوا جانباً كل اعتراضاتهم على فكرة استخدام القوة في البلقان، ونفذوا تماماً ما أرادته أميركا. واليوم لا تزال قوات الحلف مرابطة في البلقان، بعدما تحّولت البوسنة وكوسوفو الى ما يشبه المحميات الدولية او الملحقات الاستعمارية لحلف الاطلسي. تشرين الثاني نوفمبر 2002. زعماء دول حلف الأطلسي يستعدون لعقد قمة في براغ 21 تشرين الثاني تتضمن جدول أعمال حافلاً يشمل ضم 7 دول جديدة بلغاريا، استونيا، لاتفيا، ليثوانيا، رومانيا، سلوفاكيا وسلوفينيا ليصبح عدد دول الحلف 26. لكن البند الأهم على جدول الاعمال هذا سيكون العراق ومعه مجدداً ! مصير الحلف. والمفارقة هنا أن وليام بفاف الذي حذّر العام 1998 من انفراط عقد الحلف إذا لم تنضم دوله الى الحرب الاميركية الوشيكة على صربيا، كان هو نفسه يحذّر في العام 2002 من سقوط مبررات وجود الحلف، ما لم ينضم الحلفاء الى الحرب الاميركية الوشيكة على العراق. كتب في "لوس أنجليس تايمز" أوائل هذ الشهر: "المسؤولون في واشنطن ولندن يحذرون من أنه سيكون على قمة حلف الأطلسي في براغ أن تقرر ما اذا كان الحلف ما زال مهماً. ما لم يقبل الحلفاء الاوروبيون تحديد إدارة بوش للحرب ضد الارهاب على أنها تتطلب تدخلات عسكرية ضد الدول المارقة، فلن تبقى للحلف قائمة". تهديد واضح؟ بالتأكيد. وكما ان التهديدات عشية حرب كوسوفو حققت لواشنطن كل ما تريد، فالأرجح أن تؤدي التهديدات الراهنة عشية حرب العراق النتائج نفسها. فالأوروبيون ما زالوا غير قادرين على الحياة ولا حتى على الحفاظ على لحمة اتحادهم من دون الحلف. والاميركيون لا يتوانون عن تذكيرهم صبيحة كل يوم بهذه الحقيقة المّرة، مضافاً إليها حقيقة أخرى أخطر وأكثر مرارة: الاتحاد الاوروبي نفسه ولد على يد قابلة قانونية اسمها حلف الاطلسي الذي أنشأه الرئيس الاميركي هاري ترومان العام 1949. وهذا الحلف هو الذي سّهل المصالحة التاريخية بين ألمانيا وفرنسا، التي سهلّت بدورها قيام الاتحاد الاوروبي. وأبعاد هذه التهديد معروفة: تضعضع الحلف أو زواله، قد يجر معه مخاطر تضعضع الاتحاد الاوروبي أو حتى تزيله، خصوصاً في ضوء إستئناف التنافس الفرنسي - الالماني الحاد على زعامة أوروبا. بوش سيحمل معه سيف ديموقليطس هذا الى براغ. لكنه سيكون حريصاً أيضاً على أن يغطي جانباً من عصا السيف ببعض من ثمار الجزر. فهو كما يقول المسؤولون الأميركيون سيؤقلم خطاب "الخير والشر" الذي يعجب الاميركيين كثيراً، مع خطاب المصالح والعقلانية الذي لا يفهم الاوروبيون غيره. كما انه سيرّكز على الشراكة والتعددية والتعاون بين الحلفاء، تماماً كما كان الأمر خلال الحرب الباردة. لكنه، في الوقت ذاته سيهز العصا مطالباً الحلفاء الاطلسيين بتحمّل مسؤوليات أكبر في الحرب ضد الأرهاب، وفي الحفاظ على أمن النظام العالمي. وتحملّ المسؤوليات وفق المنظور الاميركي يجب أن يتضمن الآتي: موافقة الاوروبيين على مد "ساحة عمل" الحلف الى خارج حدوده الاوروبية. وهذا يعني في الظروف الراهنة العراق. تشكيل نواة قوات تدخل سريع أطلسية، تقوم بعمليات في أي بقعة في العالم خلال أسبوع واحد من صدور الأوامر إليها. ويقال هنا أن وزراء خارجية الاطلسي وافقوا من دون ضجيج إعلامي على تشكيل هذه القوة خلال اجتماعهم في ريكافيك الربيع الماضي. لكن من غير المعروف بعد أن كانوا وافقوا أيضاً على الطلب الاميركي بأن تكون قوات التدخل منفصلة عن الهيكلية القيادية للحلف، حيث أوامر القتال بحاجة الى إجماع كل الدول ال19، وأن تكون بقيادة أميركية ومعتمدة على العتاد العسكري الاميركي المتطور. مشاركة القوات الاطلسية الاوروبية في حرب العراق على المستويات الآتية: - حشد قوات حول كل الحدود العراقية لمنع الرئيس صدام حسين من الهرب. - منع القيادة العراقية من تهريب أسلحة الدمار الشامل الى خارج العراق. - وضع كل القواعد العسكرية الاوروبية، خصوصاً الالمانية، في تصّرف القوات الاميركية المهاجمة، تماماً كما حدث في حرب الخليج الثانية العام 1991. بدء تجهيز قوات تضم نحو مئة ألف جندي أطلسي للمساعدة على تهدئة العراق والشرق الأوسط بعد إسقاط نظام صدام حسين. هذه المطالب قد تبدو خطيرة بما فيه الكفاية. وهي ستعني، في النهاية، وضع حلف الاطلسي بعدته وعديده ومؤسساته في خدمة الخطة الاميركية لاخضاع الشرق الاوسط. لكن هذا، مع ذلك، ليس كل شيء. ثمة ما هو أخطر بكثير. فقد نشر نائب وزير الخارجية الاميركي السابق ستروب تالبوت أخيراً دراسة مثيرة في "فورن أفيرز" تحت عنوان أكثر إثارة: "من براغ الى بغداد: حلف الأطلسي في خطر". المحاور الرئيسة في الدراسة هي الآتية: 1- حلف الاطلسي يجب أن يتحّول الى ما يشبه النظام الشمسي. فهو والاتحاد الاوروبي يجب أن يكونا شمسين توأمين في النظام يمارسان قوة جذب على البوسنة في أقصى اليمين، وعلى طاجكستان في أقصى اليسار. طاجكستان الفقيرة والمعدمة والتي يحكمها مهربو المخدرات ستكون أشبه بكوكب بلوتو، لكنها مع ذلك ستواصل الدوران في فلك النظام. 2- حول هذا الفلك نفسه ستدور 15 منظمة أوروبية ودولية، هدفها توفير الاستقرار في منطقة تمتد من بحر البلطيق إلى بحر الصين. يجب على الحلف ابتداع الوسائل لضم الصين الى محوره كما فعل في نظام شراكة السلام مع روسيا. 3- الاختبار الاساسي لقدرة الحلف على إثبات ضرورات وجوده، ستكمن في مواجهته للمخاطر في الشرق الأوسط. فهذه المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا الى باكستان، منطقة "فارغة تنظيمياً". وهي بالتالي تشكل خطراً داهماً على نفسها وعلى المناطق المحيطة بها، بما في ذلك أوروبا. 4- بيد أن مهمة الحلف في الشرق الأوسط لن تكون مماثلة لمهمته في وسط أوروبا. ففي هذه المنطقة الاخيرة كانت القوة "اللينّة" الاقتصادية والسياسية والثقافية فعّالة، لأن دول المنطقة تريد أن تكون جزءاً من الغرب. وهذا ليس حال المنطقة العربية. والواقع أنه لو كانت الجامعة العربية غير ضعيفة عسكرياً وسياسياً، لكانت المخاطر على إسرائيل ازدادت بشكل كبير، ولتعقدت فرص مواجهة صدام. 5- وتبعاً لذلك، وعلى رغم ان "القوة اللينّة" ضرورية لحفظ السلام، إلا أنها غير كافية. من الضروري استخدام "القوة الصلدة" العسكرية. يتعيّن على الحلف أن يكون مستعداً لشن الحروب وهدم الأنظمة التي تهدد قيم التحالف ومصالحه. والبداية تكمن في تحضير جيش المئة ألف جندي أطلسي. 6- كل هذا لا يعني أن الحلف يجب أن يصبح في النهاية "حلفاً عالمياً"، يضم الدول ال200 في العالم، لأن ذلك سيجعله أمم متحدة أخرى. لكن في المقابل من المحتم أن يوّسع الحلف عملياته وصلاحياته، خصوصاً في الشرق الأوسط. هل اتضحت الصورة الآن؟ ما تريده الولاياتالمتحدة ليس شيئا آخر سوى تحويل الحلف عملياً إلى شرطي الشرق الأوسط بالوكالة عنها، بالقدر ذاته الذي يكون فيه شرطي اوروبا. وعلى رغم أن مثل هذا التطور قد يحتاج إلى سنوات عدة لتحقيقه، أساساً بسبب الحاجة الى الاتفاق على استراتيجية أوروبية - أميركية مشتركة حيال الشرق الاوسط، الا ان إحتمال وجود 100 ألف جندي أطلسي في العراق بعد انتهاء الحرب المحتملة، قد يقلب كل المعطيات والمفاهيم الراهنة رأساً على عقب، وقد يجد الحلف نفسه عاجلاً أم آجلاً أشبه بفرقة شرطة جوالة في كل منطقة الشرق الأوسط الكبير. والخطر هنا ان يتقاطع هذا الاحتمال مع تطور آخر ينبع من داخل الشرق الاوسط هذه المرة، ويتمّثل في قيام حلف أمني عراقي ما بعد صدام - تركي - إسرائيلي، يكون نواة لنظام اقليمي جديد، يحل مكان النظام الاقليمي العربي الراهن الجامعة العربية. وعلى رغم أن هذه الفكرة ليست جديدة، إلا أنها اكتسبت أهمية خاصة قبل أيام، حين أشار ستانلي فيز، رئيس "منظمة مديري الأعمال الاميركيين للأمن القومي"، الى أن المشروع ربما بات يحظى الآن بموافقة الادارة الاميركية. فقد قال: "إن هذا النوع من الرؤى هو تحديداً ما يفكر به الآن البيت الابيض، في خضم دراسته الخطوة المقبلة في الشرق الاوسط. فالرئيس جورج بوش يتحدث عن مستقبل مغاير تماماً للمنطقة، وعن أنظمة ديموقراطية في أفغانستان وفلسطين والعراق، على ان تلي ذلك إقامة تحالف بين عراق ديموقرطي وتركيا وإسرائيل، ينضم إليه لاحقاً الاردن ولا تكون الهند المتحالفة مع إسرائيل ضد التطرف الاسلامي بعيدة عنه". وهذا يعني إقامة منظومة أمنية جديدة في الشرق الاوسط، تنطلق من قلب منطقة الصراع العربي - الاسرائيلي لتخترق وسط آسيا وصولاً إلى تخوم الهند، وتكون بحراسة دولية من القوات الاطلسية والاميركية. وشبّه بعضهم هذه المنظومة بهرم تكون أميركا رأسه والحلف الاطلسي أضلاعه، فيما تتمثل قاعدته بالحلف الثلاثي العراقي - التركي - الاسرائيلي، مضافاً إليه "ما تيسّر" من دول عربية. هل مثل هذا المشروع الطموح قابل للحياة؟ على المدى القصير نعم. فالولاياتالمتحدة قادرة بمفردها، وحتى من دون أي دعم على الارض من حلف الاطلسي، على إعادة رسم خرائط ومصائر الشرق الاوسط كما تشاء، عبر استخدام "القوة الصلدة". وهي قدرة تزداد أضعافاً مضاعفة حين نضيف إليها إمكانات حلف الاطلسي وتركيا وإسرائيل العسكرية واللوجستية. لكن على المدى الطويل سيكون الأمر موضع تساؤلات كبرى. إذ ربما لاحظنا حتى الان ان كل هذه الصروح الجديدة للشرق الاوسط الجديد، تسقط من حسابها رغبات شعوب المنطقة وإرادتها. صحيح أن الولاياتالمتحدة تتحدث بكثافة هذه الايام عن حق الشعوب في تقرير مصيرها الديموقراطي، وصحيح ان وزير الخارجية كولن بول يحّضر الآن "مانيفستو تاريخياً" سيشرح فيه ما تنوي "القوة اللينّة" الاميركية القيام به من دمقرطة وتنمية، إلا ان الصحيح أيضاً أن الهاجس الحقيقي والأول لواشنطن هو الاخضاع الأمني للمنطقة وفرض السيطرة العسكرية المباشرة عليها. وسيكون مثيراً معرفة رأي أطراف رئيسة سيتم تهميشها في الشرق الأوسط الجديد من هذه التوجهات. كما سيكون مثيراً أكثر محاولة استقراء مواقف الشعوب العربية وهي ترى تطلعاتها الى الاستقلال والتوّحد تتشظى على أيدي قوى تغزوها من الخارج أميركا والأطلسي أو تفرض عليها نفسها من الداخل إسرائيل، تركيا. لقد نجحت الولاياتالمتحدة في ضرب القومية الصربية الفاشية واخضاعها، لأن بديلها كان قومية صربية أخرى ديموقرطية تقوم على أرض صربية موّحدة وان حذف منها إقليم كوسوفو. لكن ما تنوي اميركا فعله في الشرق الاوسط، لا يقل عن ضرب الهوية القومية العربية واستبدالها بكيانات عشائرية - قبلية ضيقة وخاضعة لمشيئة الترويكا الاميركية - الاطلسية - الاسرائيلية. وسيكون مستغرباً للغاية ألا تحدث ردود فعل عنيفة من جانب الشعوب العربية على مثل هذا التطور. لا بل سيكون مستغرباً ألا يتحّول الشرق العربي - الاسلامي الى معقل رئيس ل"البرابرة" من رافضي امبراطورية العولمة الجديدة الذين سيحاصرون ويهاجمون روما الجديدة بكل أنواع الاسلحة. على أي حال، لعبة الخرائط والأحلاف والمنظومات الأمنية في الشرق الأوسط لا تزال في بداياتها الاولى. و لا تزال أيضاً محاطة بالكثير من الغموض والألعاب الكواليسية والمفاجآت. لكن شعوب المنطقة ستكون لديها فرصة لمعرفة بعض ما يرسم لها في قمة براغ الأطلسية، حيث سيضع الاميركيون والاوروبيون العديد من أوراقهم المستورة على طاولة مكشوفة