إذا كانت حرب العراق قد انتهت على المستوى النظامي بسقوط حكم الرئيس صدام حسين، والاعلان عن مقتل نجليه عديّ وقصيّ، فإن مفاعيل هذه الحرب لا تزال تلقي بظلالها على كامل الوضع العراقي حيث تتزايد الهجمات اليومية على القوات الأميركية وتكبدها خسائر في الأرواح والمعدات. لكن البارز أكثر في مسار هذه الحرب هو موضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية وما تثيره من اشكاليات لدى الادارة الأميركية والحكومة البريطانية على حد سواء، وخلاصتها تصاعد حملة اعلامية داخل الولاياتالمتحدة وبريطانيا تؤكد ان السلطات في البلدين تعمدت التشديد على خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير الحرب على العراق. بمعنى آخر لقد اعتمدت ادارتا بوش وبلير أسلوب الأكاذيب الرسمية أكاذيب الدولة، من مثل سعي العراق "للحصول على الأورانيوم من نيجيريا" و"قدرة صدام حسين على شن هجوم بأسلحة الدمار الشامل خلال 45 دقيقة". وبعد احتلال العراق لم تعثر قوات التحالف حتى الآن على أي من هذه الأسلحة! هذا الواقع طرح في الأوساط الغربية تساؤلات حول مدى صدق واشنطن ولندن في ما أعلنتاه وفعلتاه خلال هذه الحرب. انهما بكل اختصار قامتا بتضليل الرأي العام في بلديهما بتقديم معلومات كاذبة لتبرير الحرب ونشوء صراعات مكشوفة على المستوى الرسمي، كما حدث بين حكومة بلير ومحطة "بي.بي.سي." البريطانية، وكان من نتائجها المأسوية انتحار خبير الأسلحة البيولوجية في وزارة الدفاع ديفيد كيلي. فكيف يمكن النظر الى هذه الاشكالية؟ أولاً: نظرة الى الماضي القريب: يبقى السؤال المحوري في كل ما يقال ويعلن هو: مدى سعي العراق لامتلاك السلاح بشكل عام، وسلاح الدمار الشامل بشكل خاص، وذلك منذ وصول الرئيس صدام الى السلطة. وفي عودة سريعة الى الواقع والوقائع التاريخية يمكن تأكيد الأمور الآتية: 1- ان العراق سعى الى امتلاك قدرات نووية، ونموذجه مفاعل تموز الذي قصفه الاسرائيليون ودمروه عام 1981. كما ان لدى العراق برنامج تسلّح نووي متقدم جداً كما كشفت حرب الكويت 1991. 2- لقد سعى العراق الى امتلاك أسلحة كيماوية وبيولوجية واستعمل بعضها في حربه ضد إيران وضد الأكراد في حلبجه. 3- لقد اجتهد العراق كي يحصل على أسلحة صاروخية من الخارج: الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية. ثم عاد واستغنى عن مبدأ الاستيراد بتطوير الصواريخ عبر مجموعة من العلماء من جنسيات مختلفة أغدق عليهم صدام حسين النعم فطوّروا له صواريخ جديدة كانت العامل الحاسم في ربحه الحرب ضد إيران وفتحت شهيته على المزيد منها فاستعملها في قصف اسرائيل عام 1991. ولكن من دون رؤوس نووية او كيماوية او بيولوجية. 4- وفي حرب الخليج الثانية، حرب تحرير الكويت، كانت أسلحة الدمار الشامل العراقية هدفاً أساسياً للأعمال الحربية فحدث تدمير فعلي لقسم من هذه الأسلحة بفعل الهجمات الصاروخية وغارات الطيران. ولكن توقف قوات عاصفة الصحراء عن الزحف على بغداد وبقاء معظم الأراضي العراقية تحت سلطة صدام حسين ما عدا الشمال الكردي لم يسمحا بتدمير هذه الأسلحة بشكل كامل. 5- حاولت القوى الدولية ان توكل الى مجلس الأمن المهمة التي لم تقم هي بها في الحرب وهي: تكليف مفتشين تابعين لمجلس الأمن البحث عن هذه الأسلحة وتدميرها. وقد قاموا بمهمتهم تلك بصعوبة. وانسحبوا من العراق عام 1998. 6- في خط مواز كانت الضغوط مستمرة على نظام صدام حسين لعدم تمكينه من حيازة أسلحة الدمار الشامل ووضعه تحت مراقبة مستمرة: الأول: بتحديد قدرته المالية وذلك بوضع نظام لتقنين تصدير النفط العراقي ومنه معادلة: النفط مقابل الغذاء وليس لشراء او انتاج الأسلحة! الثاني: وضع معظم الأراضي العراقية في الشمال والجنوب تحت رقابة الطيران الأميركي - البريطاني المستمرة! 7- على ان السر في كل ما جرى ويجري هو: هل استطاعت قوى الحلفاء ومفتشو مجلس الأمن العثور على / وتدمير كل / أسلحة الدمار الشامل العراقية؟ وسؤال ثان: هل توقف نظام الرئيس صدام حسين عن العمل على / والسعي الى / والحصول على أسلحة الدمار الشامل وانتاجها إذا أمكن بمعزل عن رقابة أميركا ومجلس الأمن؟ ثانياً: من بعثة بليكس الى سقوط صدام! لم تكن أميركا جورج بوش، بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، مقتنعة بجدوى تكرار تجربة المفتشين الدوليين في العراق الذي جرى تصنيفه في خانة "محور الشر" او الدول المارقة المساعدة للارهاب الدولي. ووضعت في مقابل ذلك مبدأ "الحرب الوقائية"، ولكنها عادت فقبلت بذلك انما ضمن شروط صعبة وقاسية ومعقدة فرضها مجلس الأمن. على ان بعثة المفتشين الدوليين الجديدة الى العراق بقيادة هانز بليكس بقيت في حدود النتائج الرمادية: فلم تؤكد ولم تنفِ وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق. وشهدت هذه المرحلة مبارزات مشهودة في مجلس الأمن بين وزير الخارجية فرنسي دوفيلبان والوزيرين الأميركي كولن باول والبريطاني جاك سترو. لكن أميركا وبريطانيا قررتا خوض الحرب ضد العراق بالاستناد الى معلوماتهما الخاصة الاستخباراتية وخارج قرار مجلس الأمن، وهو ما خلق تجربة مرّة وصعبة للشرعية الدولية. لكن تعثّر قوات التحالف في التوصل الى وضع يدها على أي نوع من أسلحة الدمار الشامل في العراق بعد احتلاله وانهيار نظام صدام حسين، أعاد طرح الأمور وتسليط الأضواء عليها ضمن أربعة اعتبارات: الأول: ان مجلس الأمن بغالبيته كان على حق في دعوته لاستمرار عمل المفتشين الدوليين في العراق للوصول الى نتائج حاسمة يتحدد في ضوئها مسار الأحداث. الثاني: ان أميركا وبريطانيا قدمتا حججاً باطلة لمجلس الأمن وللرأي العام في بلديهما وفي العالم. فما أكدتاه كلامياً لم تثبتاه فعلياً، حتى الآن على الأقل! الثالث: ان اعتماد وسيلة "الكذب الرسمي" للقيام بعمل خطير مثل اعلان الحرب هو خطيئة كبرى في النظم الديموقراطية وهو ما يضع صدقية السلطتين في واشنطن ولندن على المحك! الرابع: ان تجيير الأمور الى أخطاء ارتكبتها بعض الأجهزة الاستخبارات في تقديم وتقدير معلوماتها الى السلطة تنعكس سلباً على الأجهزة ولا تبرئ السلطة. ثالثاً: تضليل التضليل! إذا كان لا بد من تحليل موضوعي لتهمة "التضليل" التي ألصقت بالإدارتين الأميركية والبريطانية فإن أوضح رد عليها هو "تضليل التضليل". ففي تاريخ الفلسفة العربية اشتهر لدى الإمام الغزالي كتابه المعروف "تهافت الفلاسفة"، وفيه يؤكد ان اليقين في معرفة الله يتم "بنور يقذفه الله في الصدر" هو نور الإيمان وليس عبر الحجج المنطقية العقلانية التي يعتمدها الفلاسفة.. الى ان جاء ابن رشد من بعد وأصدر كتابه الشهير "تهافت التهافت" رداً على الغزالي مبيناً فيه العكس تماماً. وإذا كان لنا ان نحكم على تهمة "التضليل" بعيداً عما قاله وفعله كل من الرئيس الأميركي بوش ورئيس الوزراء البريطاني بلير لكان علينا الاقرار بالمعطيات والأمور الأساسية الآتية التي تبرّر "تضليل التضليل": 1- إن التسلّح بكل أشكاله وأنواعه هو مسألة حياة او موت بالنسبة الى نظام صدام حسين داخلياً وخارجياً. 2- إن الرئيس العراقي أعطى طوال حكمه أكثر من دليل على غايته ونهجه: إزاء شعبه وإزاء جيرانه وإزاء العالم. 3- لقد ظل صدام حسين حتى آخر دقيقة من حكمه يعمل ل / ويحلم ب / أسلحة الدمار الشامل لأنها عماد نظامه وبقائه في السلطة ودوره الاقليمي والدولي. 4- كان صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل منذ حربه مع إيران. ولكن بعد ذلك هل دمّره؟ أم أخفاه؟ أم خبأ قسماً منه في الخارج؟ إنها أسئلة مشروعة نظراً الى صغر حجم الأسلحة البيولوجية والكيماوية وحتى النووية؟! وتالياً هل سيتم العثور على شيء منه في مستقبل قريب او بعيد؟! وهل سيقوم الأميركيون، كما افترض بليكس هازئاً، بوضع أسلحة داخل العراق واتهام العراقيين بها إذا ما أعيتهم الحيلة؟ إن ما يحدث الآن على الساحة الدولية ليس معركة من أجل الحقيقة. ان خلفيات ما يجري تتحدد ضمن ثلاثة اعتبارات أساسية: الأول: لقد ذهبت أميركا وبريطانيا الى الحرب في العراق في ضوء انقسام دولي واضح. ولأنهما حققتا انتصاراً على الأرض بهزيمة نظام صدام يسعى الآخرون فرنسا خصوصاً لتحقيق انتصار معنوي على مستوى الأخلاقية الدولية أي دفاعاً عن الحقيقة التي تمسكوا بها وبدا انهم على حق فيها حتى الآن! ثانياً: ان هذه الحملة "من أجل الحقيقة" لا تنفصل عن الحملات الانتخابية في أميركا وبريطانيا. القصد منها زعزعة صدقية بوش وبلير في نقطة قوتهما وانتصارهما وإحداث تحوّل في الرأي العام ضد مصلحتهما واضعاف التوجه الآحادي الامبراطوري الأميركي في السيطرة على العالم! ثالثاً: وهو ما ينساه الجميع عادة، ألا وهو عدم التفريق في هذه الحرب، وكل الحروب في التاريخ، بين أسبابها وأهدافها. فما شدد عليه بوش وبلير في موضوع أسلحة الدمار الشامل، سواء أكان صحيحاً أم غير صحيح، يدخل في أسباب الحرب أي المبررات المعلنة لهذه الحرب تجاه الرأي العام. ولكن ما لا يذكره قادة أميركا وبريطانيا هو أهداف هذه الحرب، وهي أكثر أهمية من أسبابها وعادة ما يتم اخفاؤها عن الرأي العام، وفي رأس هذه الأهداف كما بيّنا سابقاً الهيمنة على نفط العالم وضمان أمن اسرائيل والسيطرة على أوبك وتدجين الأممالمتحدة ومنع أية قوة عالمية من مناهضة الولاياتالمتحدة في المدى المنظور، وذلك باستعمال سلاح النفط للسيطرة على اقتصاديات الدول الصناعية المتقدمة التي قد تشكل منافساً محتملاً للولايات المتحدة في توجهها الأحادي الامبراطوري. والخلاصة، اذا كان بوش وبلير قد اعتمدا أسلوب "التضليل" فإن أهداف حربهما هي على العكس تماماً تشكل "تضليل التضليل"، أي أنها تسقط مقولة عدم شرعية الحرب في أسبابها لتقيم في مقابل ذلك شرعية للحرب في أهدافها من منظور أميركي - بريطاني. ولئن كان يسهل القول في الأسباب، فإنه يصعب القول في الأهداف. لقد كانت حروب التاريخ قائمة دائماً على قاعدة المصالح. وسيكون من الصعب الآن تقويمها على قاعدة الأخلاق فقط!