خلال فترة الحرب الأميركية على العراق، كان هناك تماثل بين العناوين الكبرى في الصحف ووسائل الإعلام العربية وبين ما حملته وسائل الإعلام العالمية. لكن الوضع تغيّر مع الدخول في فترة تتمايز فيها العناوين في الصحف العربية عما تحمله الصحافة العالمية، ولأسباب كثيرة اهمها ان محوري الاهتمام الاولين في العالم العربي هما العراق و"خريطة الطريق". وقد دخلت المسألتان منطقة الظل الإعلامي أي الابتعاد عن الضوضاء الإعلامية التي تكفل للإدارة الأميركية التي تدير المسألتين حداً أدنى من النجاح أو الحد الأقصى من إمكان تغليف الفشل بشبه نجاح. ومن الأسباب الأخرى وهي أيضاً أميركية الأصل أن الإدارة الأميركية باتت على عتبة انتخابات رئاسية تتطلب رسالة تواصلية من نوع آخر لا يذكّر باحتلال بلد ووضعه تحت الوصاية في ما يخص العراق، ولا بالتفاوض على عدد وأماكن تواجد مستوطنات استعمارية في ما يخص القضية الفلسطينية، وكلها رسائل تواصلية تبدو كأنها من القرن التاسع عشر! لذا ليس من العجب أن يجد المتلقي الإعلامي العربي نفسه أنه بات يقرأ وكأنه يقارع ظله في مرايا صحافته العربية. فالإعلام العربي عليه أن يهتم بما يهم المتلقي العربي والرأي العام المحيط بقضاياه، بينما دفع الإعلام العالمي عن القضايا العربية الى الصفحات الداخلية في صحفه المكتوبة وبين طيات الدقائق الأخيرة في وسائل إعلامه المرئية. ليس في الأمر أي "مؤامرة إعلامية" تحدق بالعرب، أو أي تآمر على دفن قضاياهم إعلامياً، بل كل ما في الأمر أن الإعلام يلحق بالتيار المعلوماتي التواصلي الأهم بالنسبة الى الرأي العام الذي يتلقى سيل معلوماته، حسب مبدأ "خبرٌ يطرد خبراً" الشهير. ومن الطبيعي أن يكون اهتمام الرأي العام العربي منصباً على مسألتي العراق و"خريطة الطريق"، ولولا انتشار تقنية المعلومات لما أدرك الرأي العام العربي الفرق الشاسع بين اهتماماته الحالية والمقبلة في المدى المنظور، وبين اهتمامات الرأي العام خارج العالم العربي، ولا تنبّه إلى التراجع في نسبة أهمية أخبار العرب قياساً الى الفترات القريبة الماضية. اما الآن، وما عدا في حال وقوع أحداث مدوية إعلامياً مثل الهجومات الإرهابية في كل من الرياض والدار البيضاء، أو كوارث طبيعية ذات صدى إعلامي كبير مثل الزلزال في الجزائر، فإن أخبار العرب لا بد ان تختفي لمدة ما من الصحافة العالمية. فالواقع السياسي الذي يعيشه العالم العربي ، حسب وصف المسؤولين الأميركيين، هو اليوم واقع "ترتيبي" يحتاج الى العمل الصامت بعيداً عن التعاطي الإعلامي. وتحتاج نوعية التغييرات التي أقحمت الولاياتالمتحدة نفسها فيها في المنطقة، إلى العمل في الظل بعيداً عن التوتر الذي يمكن أن يثيره تعاطي الإعلام العربي أو العالمي أو حتى الإعلام الأميركي، بتفاصيله، أو تداول النتائج التي يمكن أن تسفر عنه. فقد مرت العاصفة العراقية وحطت رحالها بقرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي سلم قوات الاحتلال مصير العراق لفترة غير محددة. وانتهت لعبة "خريطة الطريق" وأعلنت إسرائيل قبولاً وإن كان مشروطاً بالتزاماتها. ويقتضي الأمر الآن عملاً بعيداً عن الإعلام حتى يمكن التقدم في ما يخص المسألتين. لقد لاحظ متابعو المؤتمرات الصحافية تراجع نسبة الحجم التواصلي للقضيتين في بيانات وتصاريح وأجوبة الناطقين الرسميين الصحافيين الأميركيين. فبعد فيض التصريحات المتعلقة بحل الصراع الاسرائيلي العربي وشلالات البيانات المتعلقة بعراق ما بعد الحرب، باتت البيانات المقتضبة ودعوات العمل هي الرسالة التواصلية الوحيدة التي يبثها الناطقون الرسميون. وبالطبع وبحكم قوة الدفق الإعلامي الصادر عن واشنطن، التي تمسك بزمام الأمور في كلا المسألتين، وبحكم القوة التواصلية لتصريحات الجهة المقررة فإن الدفق الإعلامي العالمي خارج الولاياتالمتحدة يتأثر بتراجع المصادر التواصلية الأميركية. مما يدفع الوسائل الإعلامية العربية إلى عزلة "إعلامية" لأنها لا تستطيع الابتعاد عن التناول الإعلامي للقضايا التي تهم الرأي العام العربي. وهكذا فإنه بخلاف فترة الحرب على العراق فان متابعي الفضائيات في العالم العربي سيجدون أنفسهم أمام تفاوت إعلامي بارز بين المحطات العربية، والمحطات الأجنبية وفي مقدمها فضائيات الإعلام الكبرى خصوصاً الأميركية. أما الأسباب التي تدفع السلطات الأميركية للتعتيم إعلامياً على "نشاطها" فيما يخص القضية العراقية والقضية الفلسطينية، عوضاً عن التواصل الذي يضمن كسب الرأي العام إلى جانبها، فيكمن في نوعية الحلول المطروحة. فكل عملية سياسية تتطلب عادة عملية تواصلية ترافقها وتواكب مراحلها كافة وتساهم في نجاحها... أو تشكل جزءاً من أسباب فشلها. لكن لكل عملية سياسية مميزات تنعكس على توقيت ونمط العملية التواصلية التي يجب أن تواكبها. فبعض العمليات السياسية يتطلب تحضيراً إعلامياً مسبقاً بحيث تنطلق العملية التواصلية قبل حتى الإعلان عن المخططات السياسية. فيما يتطلب بعض العمليات أو الخطوات السياسية إيقاعاً تواصلياً معيناً، بحيث يكون التداخل بين مراحل التحرك السياسي وتحرك الآلة التواصلية مضبوطاً ومتناسقاً. ولكن في بعض الأحيان تكون العمليات السياسية غير قابلة للشفافية الإعلامية ويكون أي تحرك على الصعيد الإعلامي التواصلي مضراً ويحمل نتائج سلبية على مجمل العملية السياسية. وهي العمليات التي تتم وراء الكواليس ولا يعلن عنها إلا بعد أن تكون المفاوضات قد توصلت الى نتيجة إيجابية يمكن أن يشكل الإعلان عنها كسباً تواصلياً عاماً. والأمثلة على هذا النوع من العمليات السياسية كثيرة، منها المفاوضات التي بادر اليها الرئيس أنور السادات قبيل توجهه الى القدس في رحلته الشهيرة عام 1977، والتي أدت الى توقيع معاهدة كامب ديفيد. وكذلك المفاوضات التي سبقت الإعلان عن اتفاقية أوسلو عام 1993 بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ففي هذه الحالات يرى المعنيون بالعملية السياسية أن التواصل خلال المفاوضات يمكن أن يؤثر سلباً على مجرى المفاوضات، فيعمدون إلى العمل بشكل سري بعيداً عن أضواء وسائل الإعلام. لكن هذا لا يدفع الإعلاميين بعيداً عن دوائر المعلومات ومصادر الأخبار. ففي كثير من الأحيان يصار إلى إدخال عدد محصور من الإعلاميين إلى دائرة السر وهو ما يسمى ب"التواصل داخل الحصار"، ويكونون في غالب الأمر من رؤساء تحرير الصحف أو من الإعلاميين المقربين من دوائر السلطة والقرار. ويتم ذلك بهدف تحضير العملية التواصلية التي تلي الانتهاء من المفاوضات حتى في حال فشل المفاوضات. وحصل هذا بعد فشل مفاوضات ايهود باراك وياسر عرفات في كامب ديفيد، وبدأت التسريبات والتساؤلات في الصحافة العالمية عن المسؤول عن هذا الفشل. ولكن التواصل تحت الحصار سلاح إعلامي يصعب التعامل معه من دون استعداد مسبق. وقد بدا من التجربة الفلسطينية أن الاسرائيليين والأميركيين كانوا مستعدين تماماً للعملية التواصلية التي تلت فشل المفاوضات، وأنها كانت ضمن حسابات عملية إدارة فشل المفاوضات. ويذكر الجميع أن الإعلام الأميركي والإسرائيلي أطلق حملة إعلامية مباشرة بعد فشل المفاوضات، شارك فيها الرئيس بيل كلينتون، حمّلت الرئيس الفلسطيني مسؤولية الفشل، وكان المرتكز التواصلي شعاراً "أعطى باراك كل ما يمكن لاسرائيل أن تقدمه، ومع ذلك رفض عرفات الرزمة". وبالطبع لحق الإعلام العالمي بالحملة الإعلامية الأميركية الإسرائيلية، وما زال الرئيس عرفات يدفع ثمن هذا الفشل الذي حمّلته العملية التواصلية وزره. ولم تقو التكذيبات الفلسطينية على التصدي للحملة بسبب ضعف عمليتها التواصلية والإرباك الذي أصاب القائمين عليها بسبب ضخامة الكذبة التي شكلت قاعدة الحملة ضد الجانب الفلسطيني. ومن أسباب ضعف إمكانات الرد الإعلامي الفلسطينية غياب ضيف إعلامي محايد في فريق المفاوضات الفلسطيني، يعمل حسب مبدأ "التواصل تحت الحصار" على عكس الفريق الاسرائيلي والفريق الأميركي. ويكون الضيف الإعلامي صحافياً بصفة شاهد محايد يتم ضمّه إلى الفريق المفاوض، ويتعهد عدم البوح بما يسمعه ويراه ويلاحظه قبل أن يعطيه الفريق الفلسطيني الضوء الأخضر. أي أن يكون عنصراً من عناصر العملية التواصلية أو مجموعة العمليات التواصلية المُعدة مسبقاً والتي تأخذ في الاعتبار مختلف السيناريوات، ومنها فشل المفاوضات. ويكتسب الضيف الإعلامي المحايد أهمية بسبب عدم ارتباطه بالفريق المفاوض من حيث المبدأ، وصيته المعروف ومهنيته المعترف بها، ما يجعل أقواله "مقبولة تواصلياً" على عكس تصريحات أعضاء الوفود الرسمية الذين يدافعون عن مواقف فريقهم. ولزم انتظار نهاية ولاية كلينتون وخروج بعض أعضاء الإدارة السابقة بتصريحات صحافية حول مسؤولية الفريق الإسرائيلي وتواطؤ الفريق الأميركي معه ومشاركتهما في فشل المفاوضات، لكي يظهر فراغ الشعار الإعلامي الذي كسب باراك بواسطته المعركة الإعلامية التي تلت فشل المفاوضات، وأظهرت أن ما قدمته إسرائيل كان "حزمة فارغة". أما الأن فيبدو أن المفاوضات حول "خريطة الطريق" تتطلب، حسب تقدير واشنطن، تعتيماً إعلامياً لضمان نجاحها، ولكن على عكس مفاوضات كامب ديفيد فإن "ورقتها" معروفة والبنود التي يجب التفاوض عليها باتت متناولة إعلامياً بشكل كثيف، حتى أن مسؤولين أميركيين يقولون انها متداولة إعلامياً أكثر من اللزوم، ما يثبت ضرورة الابتعاد عن الأضواء. وأسباب هذه الضرورة كثيرة، وهي ظاهرة للعيان تحملها "خريطة الطريق" أو ورقة الطريق وهو التعبير الأصح التي بات يعرفها عن ظهر قلب كل متابع عادي للأخبار من دون أي خبرة في الشؤون الاستراتيجية. فالطريق هي عبارة عن رمز إعلامي تلعب دور "ملهاة تواصلية"، بمعنى أنها المحورالتواصلي الإعلامي الذي ترتكز عليه العملية السياسية لتهدئة المتابعة ريثما تتقدم المفاوضات. وقد كتب دورها الإعلامي في النقاط التي تحملها بخط واضح لا غبار عليه. فإذا نظرنا إلى النقاط التي تمثل المراحل الثلاث التي تقود إليها "الورقة" نرى أن نقاط المرحلة الأولى ليست بحاجة لأي عملية تواصلية للإعلان عن تنفيذها أو عدم تنفيذها فهي تحتم خطوات عملية تظهر على الأرض من دون أي جهد إعلامي أي أنها من نوع الخطوات التي تعلن نفسها بنفسها، أو خطوات من نوع التعهدات والتمنيات. وهي تقسم قسمين: الأول إجرائي ويقع على عاتق الفلسطينيين محاربة الإرهاب ووضع حد له عبر توقيف أشخاص والقضاء على بنيته وتعاون أمني أما القسم الثاني فهو من نوع التعهدات ويقع على عاتق الإسرائيليين. اما التحفظات الأربعة عشر فجاءت، ضمن عملية تواصلية مواكبة وجعلتها حبراً على ورق. وتمتد المرحلة الأولى حتى نهاية السنة الحالية أي فترة ستة أشهر!. أما المرحلتان الثانية والثالثة فتتضمنان تسويات ومؤتمرات دولية وجداول أعمال وتنظيمات وإعلان دولة وتدعيم مؤسسات، أي أنهما تشكلان مرحلتين لا يمكن ولوجهما ما لم تسبقهما مفاوضات تثبت ما يمكن تطبيقه وما يمكن الأخذ به، وتنأى عما لا يمكن تطبيقه او القبول به. وفترة التفاوض هذه هي المرحلة الأولى خصوصاً أن الهدف هو "الانتهاء من العملية" بحلول العام 2005. من هنا يمكن تقدير ضرورة "السكون الإعلامي" المطلوب. فورقة الطريق هي "الخرقة الحمراء" التي من المفروض أن تلهي المتفرجين ومن هنا تسميتها "ملهاة تواصلية"، فيما ينكب المتفاوضون على التفاوض، ولكن ليس على تنفيذ المرحلة الأولى فأمرها مفروغ منه قبل الإعلان عن "ورقة الطريق"، ولكن التفاوض هو على المراحل التالية التي تتضمن نقاطاً "غير مادية" مبنية على التقديرات والمبادرات وأجواء الثقة، وهي عناصر تتخفى وراءها قرارات تؤثر في مستقبل المنطقة ودولها، ومن الأفضل إبقاؤها بعيدة عن أضواء الإعلام، وإلا بات من الصعب اتخاذ هذه القرارات خصوصاً في ضوء "اللاءات الأربع عشرة" الاسرائيلية المتشددة لم تقبل بأسخى العروض العربية لسلام شامل، وجعلت "خريطة الطريق" مجرد "خرقة حمراء" لا وزن لها إلا وزنها التواصلي الكبير، ولا قيمة لها إلا قيمتها في عالم التواصل والإعلام