يُخربش الصغير. يخط أشكالاً. يزرع زوايا ودوائر يهبها الحياة. هي أب وأم وأخوة، أشجار، طيور، نجوم، شمس وقمر. يخربش الصغير، يرسم، وهو يعكس ما نعتقده، لا يتسلى ولا يلعب، بل يرتاح، يفرج عن همومه ويعالج بطريقته الخاصة، ألمه حزنه وفرحه معاً. رسومات الصغار، العفوية والبسيطة، أدهشت علماء النفس بقوة معانيها وبساطتها، هي أحلام وكلام صامت له دلالات ومعان، وهي نوع من علاج نفسي بديهي يبرع الطفل فيه ويحاول من خلاله فهم العالم الذي يحيطه. يُسرع الصغير الى حيث الجميع، ينظر الى أفراد عائلته بتحدٍ كبير، يفرد أمامهم ورقة عليها رسم ما، شكل مستطيل عليه بقع بنية اللون، ويسأل بفخر واعتزاز "من يعرف ماذا رسمت؟" وتبدأ الإجابات والمحاولات لفك رموز الرسم العظيم، انه حائط؟ لا... علبة في داخلها هدية؟ لا... صندوق يحتوي كنزاً؟ لا ينظر ابن السنوات الثلاث الى الجميع بغضب ويتهم العائلة بالجهل ثم يسرع الى حيث يربض الكلب البني اللون في احدى زوايا الغرفة ويتمتم بأنه رسم الكلب بألوانه الجميلة. يبدأ مشوار الرسم عند الأطفال في سنواتهم الأولى، وهو يؤثر في نموهم النفسي، كما يؤكد علماء النفس والتربية لدى الأطفال، ومن أهمهم عالمة النفس الشهيرة فرنسواز دولتو مؤسسة "البيوت الخضراء" الخاصة بالأطفال والأمهات في فرنسا. بعض الأطفال، حسب علماء النفس، يدلنا من خلال رسوماته على معاناته، ويفتح المجال لفهمه ومساعدته. بالطبع هناك أطفال يخربشون أكثر مما يرسمون، لكن خربشتهم تعبر بدورها عن حزن أو فرح وعن غضب وحنق ايضاً. هؤلاء الأطفال يرسمون غالباً من يحبون بألوان زاهية يحبونها ومن يكرهون بألوان يكرهونها. الطفل واضح وصادق في رسوماته، فهي تعبر عن حالة يعيشها، وهي خالية من كل كذب وخداع، الطفل يرسم فيبوح بأسراره لأقلام ملونة وورقة بيضاء ثم يرتاح. يحتل الرسم مكاناً شبيهاً باللعب في حياة الطفل، حكايته تبدأ مع الطفولة الأولى، ومن خلاله يكتشف الصغير ذاته كما يكتشف البيئة التي يعيش فيها، وهو يعبر فيه عن همومه ومشاكله التي لا يراها الكبار، بل يشعر هو بها من دون ان يدرك معناها. ويفتح الرسم المجال امام مخيلة الطفل ويطورها ويوجهها نحو الإبداع. وهناك عدد من المراحل التي يمر بها الطفل عادة، خلال حياته، في مشواره مع الرسم. طبعاً يبدأ الطفل بالخربشة، وهي مرحلة تمتد بشكل عام، من السنة الأولى حتى الثالثة من العمر. وفي حدود السنة ونصف السنة، يتمكن معظم الأطفال من رسم بعض الخطوط على الورق، خصوصاً اذا ما شجعهم الأهل. وفي السنتين الاوليين، تتحول الخربشة الى أمر عادي، وتلقائي يقوم به الطفل في أي وقت ومكان، فإذا لم يجد ورقاً يكفي، يُكمل رسوماته على المكتب، ثم يتعداه الى الجدار والأرض والأبواب لا يردعه تأنيب ولا قصاص. وفي هذه المرحلة يستطيع السيطرة الى حد ما على الخطوط وتصبح لخربشاته معان معينة، يصعب علينا فهمها، لكنها بنظر علماء النفس خربشات مهمة تدل على نفسية الطفل، خصوصاً اذا كانت ترسم أفراد العائلة أو المحيط الذي يعيش فيه. تحول الخطوط الى أشكال من مرحلة الخربشة، ينتقل الطفل الى مرحلة الشكل والتصميم التي تنتهي عند دخوله المدرسة الابتدائية، أي في عمر الخامسة والنصف تقريباً. إذاً، في هذه المرحلة الثانية من حياة الطفل، يطوّر الصغير رسوماته ويحوّل الخطوط الى أشكال وتصاميم معينة، فيرسم مثلاً رأساً، ثم سماء، أو يرسم أشكالاً هندسية، سهلة، كالمربع الصغير الذي يصبح بيتاً في ما بعد. كما يبدأ ايضاً برسم الواقع، اي الصورة التي يراها، فهو يستعمل خطوطه وأشكاله وتصاميمه الخاصة لإبراز الحياة اليومية التي يعيشها، والمميز في رسومات هذه المرحلة من العمر، محاولة رسم الأشخاص بدقة، فهو يرسم رجلاً ذا شارب مثلاً، أو يضع نظارات اذا كان والده مثله له شارب ويضع نظارات. وامرأة ذات شعر قصير أو طويل مثل أمه. واكثر الأطفال يرسمون صورة الأهل، خصوصاً كما يفضلونهم في الشكل المحبب لديهم. في كل بلدان العالم، يرسم الأطفال بالطريقة نفسها، ويكون تعاملهم مع الألوان في البداية على شكل محاولة اكتشاف لها وكيفية التعامل معها، ثم يبدأون باختيار ألوان معينة من دون سواها. هذا ما نراه غالباً لدى الأطفال، فهم يختارون دائماً المجموعة ذاتها من الألوان والرسومات ولا يتخلون عنها إلا في مرحلة لاحقة. لكن رسوماتهم كلهم تتشابه من حيث الطريقة وهي مهما كانت، لأشخاص أو حيوانات وأشياء، فإنما تدل على المدينة التي يعيشون فيها والبلد الذي ينتمون اليه، بكل بساطة وعفوية. فرسوم الأطفال عموماً، هي أعمال مبدعة وخلاقة لانها تملك الصدق والشفافية، فالطفل يرسم الأشياء كما يتذكرها أو كما يحبها أن تكون. وهو لا يهتم بالبعد الذي تأخذه الصورة، انه يرسم الشخص حسب شعوره تجاهه ويهتم كثيراً بالتفاصيل التي تلفت نظره، وقد ينسى الشكل العام. فمثلاً يرسم شجرة مليئة بثمار التفاح لأنه شاهدها هكذا، فإذا بالورقة تمتلئ بالتفاح المتراص الواحدة قرب الأخرى، لكنه ينسى رسم جذع الشجرة وأوراقها. عندما يدخل الطفل المدرسة الابتدائية تتغير رسوماته، تفقد الشفافية والخيال وتتجه نحو الأبعاد والعلاقات الصحيحة، أي نحو الواقع، حيث تظهر التفاصيل اكثر دقة نتيجة التدريب على الرسم الذي يتم بدءاً من المدرسة الابتدائية. الرسومات وشخصية الفرد اهتم علماء النفس برسوم الاطفال واستخدموها مادة علاجية وتحليلية في الوقت ذاته، فأصبحت الرسوم التي تمثل أفراد عائلاتهم تحتل مكانة مهمة في التجارب المتعلقة بمفهوم شخصية الفرد. اما الطريقة المعتمدة لذلك، فهي تلك التي وضعها في الستينات الاخصائي لويس كورمان بعدما استعان بحوالى 1200 طفل للقيام بدراسته. الطريقة سهلة جداً. نضع الطفل أمام طاولة تناسب طوله، نعطيه ورقة بيضاء وأقلاماً ملونة ونطلب منه ان يرسم عائلة، العائلة التي يريد. هكذا لا نسجن الطفل في واقع قد يرفضه ونقدم له الخيار. في رسوماته يستطيع ان يرسم من يريد من أفراد عائلته، كما يستطيع ان يضيف اشخاصاً من خارجها، ببساطة هو حر في رسمه، يُسقط من واقعه الخيالي من لا يحب ويضيف اليه من يحب، من دون الغرق في واقعية اجتماعية ما. بالنسبة الى علماء النفس، كل ما يحويه الرسم له اهمية كبرى في التحاليل، وكذلك طريقة تصميمه وتوزيع أفراد الأسرة والحجم الذي اعطاه لكل شخص فيها، خصوصاً هو بالذات، أين وضع شخصه في الرسم؟ قرب من؟ وهل أضاف شخصاً آخر في اللحظة الأخيرة قبل الانتهاء من الرسم؟ ولا ينتهي هذا النوع من الاختبار مع انتهاء الطفل من الرسم. بل يأتي دور عالم النفس ليشرح للطفل العائلة التي رسمها، من هم الأشخاص ماذا يفعلون في الحياة وغيرها. ومع هذا الشرح البسيط يبدأ حوار يتكلم فيه الصغير، غالباً، اكثر بكثير من عالم النفس. والواقع ان دراسة رسوم الأطفال، تدل على قوة معاناتهم وتفتح الطريق الى ايجاد حلول لها رسومات فقدت روح الطفولة قلّبت صفحات سمراء اللون، باهتة، لدفتر رسم قديم عمره ثماني عشرة سنة. ومع كل ورقة كانت تكبر الغصة في القلب وتضيع المخيلة مع صور ظننت انني نجحت في ترويض ذاكرتي على نسيانها وتناسيها. لم أرسم أي رسمة في هذا الدفتر. لم أتدخل بأي شكل أو لون من ألوانه. رسوماته خطتها يد طفلة في الخامسة . طفلة عادية اختارت ألواناً وخطوطاً وأشكالاً، لا شيء يدل فيها على الطفولة، لا شيء ابداً فيها، يُفرح القلب. انها خربشات طفلة صغيرة، عاشت الحرب، ومحت الحرب كل ما في ذاكرتها النضرة من طفولة. صدقوني، نحتاج الى شجاعة كبيرة لتأمل الرسومات التي خطتها ايدي أطفال الحروب. أمامها نحتاج الى التمسك بكل ارادة الوجود والابتعاد عن كل حساسية مفرطة. انها رسوم تهدم أمان الحاضر لمن عاش حرباً ما وتؤلم بفظاظة صدقها، القلب الذي يحب الأطفال. رسومات أطفال الحروب تحكي من دون كلام، وينفجر في خطوطها عويل داخلي أحاله الرعب الى صراخ أبكم. رسوماتهم تفتح الطريق لمعاينة عذابات النفوس الصغيرة التي تطلب المساعدة. هي خربشات فقدت الى حدٍ بعيد روح الطفولة، ولم تعد تملك منها الا تلك الخطوط الساذجة التي خطتها يد لا تتحكم بعملية امساك القلم وتقويم الخطوط. وتلك السذاجة وحدها دليلنا على هوية صاحب الرسم، على هوية طفل يرسم ألماً بعيداً كل البعد عن دنيا الطفولة. دراسات كثيرة اتخذت رسومات أطفال الحروب مادة لأبحاثها، وحاولت تفسير المعاناة المرسومة، والخروج منها بمادة تحليلية تساعد على علاج الاضطرابات لدى هؤلاء الأطفال. كما أقيمت لها معارض كثيرة في مختلف أنحاء العالم. واعتمدتها اللجان المختصة بحقوق الانسان شعاراً ينادي بالسلام والمحبة وبإيقاف الحروب في العالم أجمع. اما مؤسسة "يونيسيف" لإغاثة الطفولة، فتقوم كل عام، بطبع عدد ضخم من هذه الرسومات على شكل بطاقات معايدة يعود ريعها لصندوق اغاثة الطفولة ولمساعدة أطفال الحروب. رسومات أطفال الحروب تبقى غصة في القلب وصرخة في ضمير الانسانية. عندما أتأمل رسومات طفلة في الخامسة من العمر عاشت حرباً مريرة، أفتح ذاكرتي وقلبي امام أطفال حروب اليوم، أطفال فلسطين والعراق وافغانستان وغيرها، وأفتح ضميري أمام أطفال الجوع والعطش، أطفال التمييز العنصري والاستغلال والعنف. بعض هؤلاء الأطفال قد يرسم ذات يوم معاناة ما عاشها. وقد تساعده خربشاته على الخروج الى ضوء النهار والحياة. لكنه على رغم ذلك سيحمل طوال حياته، جراحات رعب مضى. اما أولئك الاطفال الذين تجمعوا في ظلام خوفهم ويرفضون مغادرته، فإنهم قد لا يرسمون أبداً، وسيبقون جراح الانسانية التي لا تندمل