المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"وثيقة" عن الحياة في قرية لبنانية خلال الثلاثينات والأربعينات . هكذا كانوا وكن ... أيام الليرة السورية وعبدالوهاب وكلارك غايبل 2 من 2
نشر في الحياة يوم 25 - 08 - 2002

هنا الحلقة الثانية والأخيرة من رواية روتها سيّدة وُلدت في 1925. تنتمي الى طبقة وسطى في قرية أرثوذكسية من قضاء عكّار في شمال لبنان، تجاور قريتَها قرى مسلمة سنية وأخرى مارونية.
... وابتُليت القرية بموت الصغار. وكانت الملاريا في طليعة الأمراض التي تصيبهم كما تصيب الكبار، فيما علاجها الوحيد الكينا. كذلك انتشرت الانفلونزا التي سمّوها "الصبّة الصدرية". وفي تلك الأيام بدأ يُسمع بالسرطان، مع أن جدتي أخبرتني عن رجل في زمنها مات ألماً وتعارفوا على تسمية مرضه "تَطْمَه"، وهو في أغلب الظن السرطان. والسل كان، بالطبع، معروفاً ماتت إحداهن وأحدهم به واعتقد أهل القرية أنه الأخطر والأشد إماتةً بين الأمراض، وظلوا على اعتقادهم هذا حتى ذاع أمر السرطان.
ومن العلاجات الطبية التي سادت كؤوس الحجابة، ومؤداها لفّ ورقة صغرى على قطعة نقد معدني واشعال النار في طرفها المغطوط بالزيت بعد ان توضع داخل كوب يُلصق على الظهر. فالحجابة تسحب الرطوبة والألم من الصدر، ولو أنها كانت تدبغه بالأزرق لأيام أربعة أو خمسة. وكان أبي وأمي يحجبانني ويحجبان أخوتي باستمرار. لكن الايمان استشرى بمعجزات طبية ينفذها القديسون. وقد رووا قصصاً عن امراض شفي منها بعض من حضر عليهم في الحلم هذا القديس او ذاك. أما الخوري فأبرز مهامه "قَطْع الريقان"، وهو اصفرار في العينين ترافقه رائحة بول قوية وكريهة، فضلاً عن وظائف طبية عديدة أثارت الاستياء عند منافسه طبيب القرية. وهذه جميعاً شرعت تخفّ في الأربعينات وباشرت في الخمسينات اندثارها.
وقصد بعضهم شيوخ القرى المسلمة المجاورة كي "يكتبوا" لهم، او لمن يحبون، تنفيذاً لرغبة مستعصية. وقد قيل ان الشيخ كتب لأحدهم، وكان على وشك أن يطلّق زوجته، فأعادها وتخلى عن المرأة التي كان مولعاً بها. وكان مما يُنسب الى الشيخ، الذي آمن المسيحيون بقدراته، انه يعيد سرقات الى أصحابها أو يكشف عن هوية سارق مجهول. ولئن تراجعت هذه الممارسات بدورها، ظل مشايخ القرى التي أقيمت فيها مدارس دينية عثمانية، يُعتبرون "أقوى" المشايخ في الكتابة.
وبالموت ارتبط اللون الأسود. المسنّات قلن مراراً إن المرأة، في زمنهن، أقامت سنوات على حزنها ولباسها الأسود، ولم تغسل شعرها طوال عام. وفي ما بعد اختفى الامتناع عن الغسل واستقر لبس الأسود على سنتين مع انه قد يصل، كما فعلت أمي بعد وفاة أبيها، الى ثلاث. وفي الثلاثينات والاربعينات كانت هناك محطات لبكاء الموتى واقامة القداديس لأرواحهم، هي الثالث والتاسع والأربعون والثلاثة أشهر والستة أشهر والتسعة أشهر والسنة. ويُروى أن إحدى العائلات جعلت، لحظة دفن فقيدة منها، تحضّر العجين لقداس الثالث.
وترافق القداس مع النِياحة، أي أن يؤتى بقربان يُشكّ بالزهر وبصورة الفقيد أو الفقيدة، فيما يتواصل البكاء كما لو أن الوفاة حصلت لتوّها. وفي مناسبات الموت تلك، شارك الرجالُ النساءَ نحيبهن، كما كانوا يُرخون ذقونهم أربعين يوماً. وعلى العموم ارتفع كثيراً صوت الصراخ في مناسبات الحزن، حتى قيل في السنوات اللاحقة: "لم يعد هناك موت"، لقلّة الصراخ.
وفي المآتم التمّت كل قرى الجوار نساءً ورجالاً، فكانوا يفدون سيراً على الأقدام الى بيت الفقيد او الفقيدة. وظلت "الوَقْعة" من ثوابت تلك المناسبات، وهي وجبة الطعام الموسّعة التي تُقدّم للمحزونين ومُعزّيهم، يتوزّع طبخها الأقارب والجيران في ما بينهم على مدى تسعة أيام. لكن ما تغير، منذ كنت في العاشرة أو ما يقاربها، أن أصحاب العزاء والمقرّبين منهم لم يأكلوا اللحم، عهد ذاك، الا بعد مضي الأربعين.
* * *
أما الولادات والأعراس فمناسبات البهجة الصافية. فالأعراس عُرفت بطقوس وزغاريد أو "زلاغيط" قالت إحداها الأكثر تواتراً:
"يا سيفاً هدهد القاع/ كلّو سلاسل كلّو رباع
كل الفرسان طاعوا/ إلا هالفارس ما طاع".
والعريس هو طبعاً الفارس الذي لم يُطع.
وأوكل الى وجهاء القرية "تطليع العروس" من بيت أهلها، لا سيما متى كان الأهل فقراء، فيما يلاقيها ذوو العريس في منتصف الطريق فوق أحصنتهم. وفي الأربعينات، مع الاستقلال، صارت إحدى الزغاريد الأكثر رواجاً تقول:
"بنديرتنا تلات لوان والأرزي اللبنانيي
نحنا زلامك يا عروس سنّي سيوف الماضيي".
واشتهر بعض الأعراس، خصوصاً قبيل الحرب، بالرقص والدبك على صوت الطبل الذي كان يلمّ أهل القرية ويجمعهم، كما بالطبخ بالدُسوت وكثرة الشرب حتى السُكر.
والعريس اذا كان مهاجرا اوضاعه جيدة، أهدى عروسه مجوهراتٍ: سلسلةً وصليباً وخاتماً وساعة. كذلك قدم الأبوان شيئاً ما لابنتهما. وأنا أعطتني أمي يوم زواجي، في 1947، قطعتي ماس أبوها أهداها إياهما عند زواجها. وقبلاً كانوا يزوّدون العروس أثاثاً لغرفة النوم، وهي عادة زالت عندنا ولو استمرت فترة أطول عند المسلمين.
وكان ما يلي الزواج مناسبة احتفالية واسعة. فحين يقوم العروسان بزيارة ردّ الرِجل لبيوت مهنئيهما الأقارب والجيران، يمدّ أصحاب هذه البيوت لهما طاولة من الحلوى والفاكهة. والمرتاحون مالياً كانوا يأتون، للمناسبة، بحلوى من طرابلس. واحيانا تلقى العروسان هدايا كرطلي أرز او ما شابه، وهو ما كان يحصل أيضاً في الولادات اذ تتلقى الأم المُنجبة كمية سكّر مثلاً.
وفي الولادات احتشدوا يهنئون. وبدا تفضيل الصبي على البنت أعنف منه اليوم، فروت لي أمي انه حين جاءت بضعة نساء لتهنئتها بولادتي، رفضن تناول الضيافات لأن البنت يُكتفى بالتهنئة بها من غير ضيافة. والضيافات كانت الحلقوم وما أسميناه ملبّس دنفليش، وهي مليئة بالقَطْر، والسمسمية ونوع من الدروبس كنا نسمّيه "بو شعر" اذ الورقة التي يُلفّ بها تأخذ، لدى فتحها، شكل شُعيرات. أما المَغلي فلم يُعرف الا في زمن لاحق.
* * *
بالطبع كانت الثقافة الجنسية للفتيات ضعيفة جداً. وفي جيلنا بدأت المعرفة تتفتّح قليلاً، إذ الأم لم تكن تقول لابنتها شيئاً مفيداً. وبخليط من كلام وهمس، روي الكثير عن خيانات زوجية، الا أنها سريعاً ما كانت تُضبّ وتُخنق. وفي القرية لم أسمع ب"ليلة الدخلة" كعادةٍ، الا أن بعض الموارنة والمسلمين الذين قدموا اليها مارسوها. وقيل أيضاً ان واحداً منهم، وهو ماروني، تجمع أهله وذووه خارج الغرفة التي دخلها مع عروسه وراحوا يحضّونه فيما هو يستغيث: "مهلاً عليّ. أعطوني بعض الوقت". وفي النهاية لم يوفّق العريس وكاد زواجه أن يتهدد لولا اهتداؤه الى شيخ "كتب له"، فحالفه النجاح.
ولم يكن شهر العسل عاماً شاملاً. فالأفقر حالا لم يتقيّدوا به، ومن كانت حالهم افضل قليلاً قضوه في طرابلس. لكن أبي وأمي، وفي زمن يرقى الى العشرينات، قضيا شهر عسلهما في حمص بسورية. وأنا وزوجي قضينا يومين أو ثلاثة في ضهور الشوير بعد ليلة في فندق ريجنت في بيروت، ثم توجهنا لثلاثة أو أربعة أيام أخرى الى زحلة، وفي عودتنا نمنا ليلتين في فندق نورماندي في بيروت.
ولم يكن ضرب الزوجة محموداً، بل عرّض فاعله لإدانة الناس واستهجانهم. إلا أن الحياة يومها لم تخلُ من عنف. فكان يُذكر، بين فينة وأخرى، أن أحدهم يملك بندقية أو مسدساً. وابان طفولتي قتل احدهم احدا بسبب فتاة تنافس عليها القاتل والقتيل. ودائماً نشطت المحاكم والدعاوى، ولا ازال اذكر اشخاصا من قرية مسلمة مجاورة يسوقهم رجال الدرك وهم على احصنتهم، فيما المطلوبون مربوطون بحبل الى الحصان الذي يجرّهم وراءه. ويروي أهل القرية عن أيام الحرب الأولى أن كاهنهم نفسه قتل بيكاً مر في حارته وحاول التحرش بنسائها، فأرسله المطران سنة الى البرازيل كي يجنّبه عقاباً أقسى.
أما العنف الأشرس، بما فيه التعذيب، فكان حصة الحيوان من كلاب وقطط، يتشارك فيه الكبار والصغار: الأوّلون ليجنّبوا أنفسهم ما يرونه إزعاجاً، أو ليسرّعوا تلبية الحمير وحركتها، والأخيرون كي يتسلّوا.
ولم تصلنا، في الحرب الثانية وقُبيلها، جرائد. ما كان في المتناول جريدة محلية نسيت إسمها تصدر في طرابلس، كما جاءتنا مجلة "الدبّور" من بيروت في صورة متقطّعة.
وانقسمت القرية، في السياسة، حزبيتين هما حزبيتا عائلتيها الأكبر عددا ً. وأذكر، قبيل الحرب، أنني بتّ أسمع بأحزاب من نوع آخر لها أنصار عندنا. سمعت ب"الشيوعي" الذي ارتبط اسمه بالكفر وبالكسل ورغبة الاستيلاء على بيوت الآخرين، فضلاً عن حب التعرض للتعذيب في السجون، لأن واحداً من شيوعيي القرية حينذاك كثيراً ما سُجن وعُذّب. وكان صيت "القومي السوري" أن رئيسه من الروم الأرثوذكس وأن أعضاءه شجعان يحبّون العراك والمشاحنات. كذلك سمعت بالقومية العربية التي رآها أهل القرية شبيهة بغرابة الأطوار. أما "الكتائب" فتأخر ذكرهم الى وقت لاحق.
* * *
في هذه الغضون أُرسلت، وأنا في الخامسة، الى مدرسة عُرفت باسم صاحبتها. والمدرسة ليست غير بيت المعلّمة التي آثرت أن لا تتزوج مكرّسةً نفسها ل"تمسيك الحرف"، أي تلقين أوليات القراءة والكتابة. والسيدة هذه، وابنة عمّها التي أسست "مدرسة" مماثلة أخرى، تعلمتا في مدرسة أقامتها روسيا القيصرية أواخر القرن التاسع عشر وأهدتها لأرثوذكس القرية، وكان يُؤتى اليها بمعلمين من فلسطين. لكن روسيا كفّت عن دعمها ثم نشأت الدولة اللبنانية فجعلتها مدرسة رسمية لتلاميذ المنطقة.
بعد ذاك، أُرسلتُ الى مدرسة أهلية خاصة أُنشئت لتوّها بأموال المهاجرين المهتمين بتعليم أبنائهم. وكان من ابتدأها زوج وزوجة علّما في مدرسة سبق للبروتستانت أن أسسوها في القرية، حيث احتكر التعليم بروتستانت من خارجها، ولم يظهر لدى الروم أي اعتراض على تعليم أبنائهم فيها. ذاك أن التحفظ المذهبي لم يحُل دون الاستفادة من قدرات البروتستانت التعليمية، لا بل انضم كثيرون اليهم كي يدرسوا في مدارسهم.
هذه المدرسة الأهلية لقّنت انكليزية وفرنسية متواضعتين فضلاً عن العربية والحساب. وهناك تولى التعليم ثلاث مدرّسات من القرية ورابعة من خارجها، والأربعة حائزات على شهادات ابتدائية من طرابلس. لكنهن ابتدأنها للبنات فقط، فيما توزّع الصبيان بين المدرسة الرسمية والأخرى البروتستانتية.
فيها بقيتُ ثلاث سنوات أو أربعاً أذكر منها مشاركتي، مرةً، في تمثيلية عن حياة المسيح وموته، ودعوة خطباء من الخارج لا اذكر اسماءهم كي يخطبوا فينا عن العلم والاخلاق الحميدة. وحوت الدروس حصة للرياضة، فحاولوا تعليمنا كرة السلة والتنس، على أن يقتصر اللعب علينا نحن البنات. أما خارج المدرسة، فكان الأطفال من الجنسين يلعبون معاً في "الغمّيضة" وغيرها، لكنهم متى بلغوا الثالثة عشرة او ما يقاربها فُصلوا عن بعضهم، لا سيما متى كان الصبيان غرباء عن القرية.
على أية حال، وصلت هناك الى الابتدائي الخامس لأُنقَل، وأنا في الحادية عشرة، الى القسم الداخلي في مدرسة الأميركان بطرابلس. و"الاميركان" التي ركّزت على الانكليزية والقليل الذي لا يُذكر من الفرنسية، أدارتها معلمة أميركية بروتستانتية هي مس تيغاردن، ثم نابت عنها مس كارتر التي سخرت من الانكلير لدى تنازل إدوارد الثامن عن العرش. وفي النهاية تولّتها بروتستانتية من البترون هي مس ديبو. فالمهم ليس الجنسية بل المذهب، وفقط حين قضت الحاجة جيء بأرثوذكسيات أو أرمنيات للتعليم، أما المارونيات فلا. وكان الاستاذ الذكر الوحيد قيصر جحا الذي علّمنا اللغة العربية.
معلّماتها كن متشددات في مسائل الاخلاق، فمُنع علينا الخروج وحدنا حتى لو الى حديقة المدرسة، وسُمح لنا بالتفرّج من وراء حائطها على الأحداث الكبرى كعرس الزعيم الزغرتاوي يوسف كرم ومظاهرات صاخبة في 1936 تطالب بالوحدة السورية. وكن، كل أحد، يأخذننا الى كنيسة البروتستانت، مع ان المدرسة نفسها ضمت كنيسة صغيرة تُلقي فيها المدرّسات عظاتهن. وفي "الأميركان" درست كثيرات من بنات المسلمين، لا سيما العائلات الطرابلسية المعروفة.
ولم تتراخَ الجدية والصرامة هناك. فالعقاب المتبع، في الصف، كان الضرب بالمسطرة على الكفّ. وخارج الصف، كان يُجبر التلميذ على تناول أكلة لا يحبها، بحيث يُمنع من مبارحة غرفة الطعام، بل من الابتعاد عن الصحن، إلى أن يُنهي ما فيه. وكان الأكل بالشوكة والسكين، ما علّمتني اياه امي قبيل التوجه الى "الأميركان" لأن السائد في البيوت كان الأكل بالملعقة وحدها الى جانب الصحن.
وفي طرابلس، في السنوات الثلاث التي قضيتها في "الأميركان"، تعرّفت الى أشياء كثيرة أهمّها معرفة طرابلس نفسها.
فهناك أخذتنا المدرسة الى "الليمون"، وهو ما صار شارع عزمي وجواره، ولم يكن "الليمون" غير تلّ من الرمال، كما لم تكن هناك بيوت في المنطقة التي صارت تُعرف بباب الرمل. والشارع الأساس في طرابلس كان "التل" الذي قامت فيه ساحة المدينة وسوق التبضّع الأحدث، يليه "البازركان" حيث السوق الشعبية القديمة.
كذلك اكتشفت المطعم. فالأهل إذ اصطحبونا في الأعياد لشراء الثياب أطعمونا في "كوب دور"، أو كأس ذهب، الذي قدّم الطبخ والسمك وغيرهما. وأذكر أن الفيلم الأول الذي حضرته كان في طرابلس، إما في الأمبير أو في الروكسي، وهو "الوردة البيضاء" الذي مثّل فيه محمد عبد الوهاب. كذلك أخذتنا المدرسة لمشاهدة "سنو وايت"، وفي تلك الأثناء تعرّفنا على أسماء غريتا غاربو وكلارك غايبل.
وعربات الخيل لم أكن شاهدتها قبل طرابلس. أما الترامواي الذي ركبته لاحقاً مع أبي، في بيروت، فكان لا يزال موقفه قائماً في طرابلس حيث ترى عددا من القطارات صدئاً ومتروكاً.
وكان لي من العمر 12 سنة حين قادتني أمي الى صالون حلاقة في الطابق الثاني من بناية على التل، فتعرّفت على صالونات الحلاقة. وحين تزوجت، جئنا الى القرية بحلاق من بيروت أصله من زحلة.
* * *
وخلال الثلاثينات والأربعينات، تغيرت العملة تغيرت كثيراً. فقد تداولوا "الليرة سوري" قبل الليرة اللبنانية، كما ظل الأغنى بينهم يتبادلون الليرات الذهب، العثماني منها والانكليزي. الا أنني أذكر، في طفولتي الأولى، عملة "المجيدي" ونقدها المعدني "البرغوت" الى جانب أشياء عثمانية كثيرة. ففي كلامنا اليومي دخلت مصطلحات عدة أظن أن أغلبها تركي، مثل "تبسي" وتعني منفضة، و"بشكير" وهو منشفة، و"طَزَر" أي مقعد. وهذه لا تزال تتردد في القرى المسلمة بينما أوشكت على الانقراض في قريتنا. كذلك كان حال تعابير استدراكية مثل "خوش" التي تفيد "بالأحرى"، وكلمات للمبالغة والاستهجان ك"تبقى بكليك" التي تقال أحياناً تحبّباً ولو أنها، في الأصل، شتيمة.
وقد أطلق أبي وأمي، وعائلات قليلة اخرى، أسماء عربية "جداً" على أولادهم. صحيح أن إحدى الأُسَر الوجيهة سمّت، في مطالع القرن، أحد أبنائها "حسن"، غير أن الأسماء المعدودة مسلمةً خالصةً لم يألفها الروم في قريتنا. فهم استخدموا، فضلاً عن تلك المسيحية ك"جرجس" و"بولس"، أخرى عربية حيادية مثل "سليم" و"راشد" و"حبيب". لكن أمي أرادت لي "خديجة" إسماً قبل أن تتردد ثم تغير رأيها. وفعلاً عرفت القرية يومها "خالد" و"أحمد" وغيرهما، فضلاً عن الأسماء العربية القديمة ك"غسان" و"عدنان" التي اقتصرت على العائلات المحظوظة. ولا أعرف سبب هذه التسميات. فهو ربما نتج عن خليط من العوامل، كالصلة بالبكوات المسلمين في الجوار، والمحبة التي كنّها بعض أعيان القرية للقائمقام التركي الذي عملوا موظفين وكتّاباً عنده، وربما بتأثير صداقات مع تجار من طرابلس، أو كتبٍ كالتي كنت أرى في بيت جدي: لجرجي زيدان ومصطفى المنفلوطي وغيرهما. واعتادت أمي، ككل الأمهات، أن تقص علينا حكايات قبل النوم، لكنها أيضاً تلت لنا أشعاراً حفظتها، بعضها عامي وبعضها فصيح، ومنها ما دار حول العرب وماضيهم. والأغرب، ربما، أننا كنا ننادي والدنا "أبي" الفصيحة، وكان المسلمون في القرى المجاورة يقولون "بوبتي".
واللهجة المصرية عرفناها، مع الحرب، إذ رحنا نسمع محمد عبد الوهاب وام كلثوم ومنيرة المهدية، وكان اسم سيد درويش معروفاً. وفي تلك الأثناء دخل الى القرية الراديو الأول الذي يعمل على بطارية سيارة. وجعل الناس يتجمعون حيث الراديو لسماع أخبار الحرب، فكانوا يستمعون الى اذاعتي لبنان والأردن، وربما اذاعة مصر. كما أظن أن اذاعة أخرى وُجدت باسم "اذاعة الشرق".
والغرب وفد إلينا بعاداته، أو بشيء منها. فكنا، أواخر الثلاثينات، نرقص في بعض البيوت تانغو وشارلستون على الفونوغراف. وقد اقتصر الرقص على البنات طبعاً، الا أن بيتنا لم يكن من البيوت المتساهلة التي تسمح بهذا. عندنا لم نكن نسمع موسيقى ولا كان هناك فونوغراف، مع أن بيت جدي حوى واحداً أتت به خالتي التي سبق أن هاجرت، مع زوجها، الى لاس بالماس.
* * *
وكانت العلاقة بالقرى المجاورة حسنة عموماً. فهي اعتادت على شراء كل شيء تقريباً منا، ونحن اشترينا منها أجباناً وألباناً وبطاطا وفاصولياء. وانعقدت صداقات عدة بين مسلمين ومسيحيين فكانت نساء البكوات، مثلاً، يأتين لزيارة جدتي والعكس بالعكس. ذاك أن جدي كان محبوباً من المسلمين، عمل كاتباً عند البكوات مثل آخرين قبله من عائلتنا وعائلات قليلة أخرى في القرية. لا بل نشأت زيجات مختلطة، ولو أنها بقيت ضئيلة جداً. وقد قُبلت، في النهاية، كأمر واقع. وتداخل الجيد بالسيء فتردد، وأنا في نعومة أظافري، أن شيعة الهرمل، أو "المتاولة"، يريدون مهاجمة قريتنا. لكنْ قيل كذلك ان قرية سنية في الجوار تدخّل أهلها وأوقفوهم بالتي هي أحسن. ويبدو أن وجود جدي والوجهاء الآخرين كان مما يخفف الرعب الذي يدبّ فينا في حالات كهذه.
ولم يكن الاختلاط بالمستغرب داخل القرية، ولو أن حدوده رُسمت بدقة. فقبل سبعين عاماً او نحوها، وفدت اليها عائلة مارونية من قرية مجاورة، علماً أن عداء الروم للموارنة كان مستفحلاًً، وقد تحدث كبار السن عن زيجة مختلطة حصلت بين اثنين من المذهبين فاعتبروها كارثة. وفي الأربعينات هاجرت عائلة مسلمة من قرية مجاورة أخرى الى قريتنا، وانضم أفرادها، مثلهم مثل سابقيهم الموارنة، الى الفلاحين. لكنهم، أيضاً، أسسوا "مهنة" حراسة البيوت والأملاك العائدة لبعض المهاجرين والملاّكين.
وكانت الخادمات في البيوت إما من نساء القرية الفقيرات، أو من المارونيات والمسلمات في القرى المجاورة. هكذا ظلت الحال الى أن تدفقت، في الخمسينات، فتيات علويات من سهل عكار ومن سورية. فقريتنا بدت مرفّهة وسط نطاق محروم. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه لدى المقارنة بمركز القضاء، حلبا.
فالأخيرة التي هي عاصمة عكّار لم يكن فيها، في الثلاثينات، غير طبيب أسنان لا غير. كان اسمه عبد المسيح مسّوح، أصله سوري وأبوه قسيس بروتستانتي يقيم في طرابلس. هكذا لم يُضطر الكثيرون للتوجه الى حلبا الا متى استدعتهم المحكمة للمثول أمامها، او للحصول على ورقة رسمية من الكاتب العدل. وكان من يذهب يعود منها بخضار أو لحم أو سواهما لكنه لا يقصدها طلباً لهذه السلع أو غيرها. ذاك أن مغادرة القرية ظلت، في عرف أهلها، تعني طرابلس حصراً.
والحال أننا كنا على قدر من الاكتفاء معقول. فعدا الخياطين كان هناك ثلاثة حدادين وبيطريون وصانع أحذية، أو "كندرجي"، للجنسين. لكنهم كانوا، في بيتنا وبيوت أخرى، يأتون بحنا مراد من طرابلس، أول الصيف وأول الشتاء، فيقيس أقدامنا، أنا واخوتي وابناء عمي، ويصنع لنا أحذية العام.
* * *
وتباعاً تتالت الدكاكين ابتداءً بحدود حارتنا، وهي تبيع كل شيء من الاقمشة الى المواد الغذائية. وفي وسط القرية، كانت ساحة الحبوب الذي يؤتى به من سهل عكار او من القبيات ومحيطها، يتجمع فيها أهل الجوار كله كي يشتروا. ما خلا هذه، لم تنشأ سوق شعبية فاقتصرت الأسواق على القرى التي حملت كنائسُها أسماءَ قديسين. هكذا غدت ساحة الواحدة منها، يوم عيد قديسها، سوقاً ومهرجاناً نقصدهما. واليهما كان يؤتى بالفرسان كي يُظهروا مهاراتهم في السيف والترس رقصاً ولعباً.
وأذكر، ابان الطفولة، أربع أو خمس مقاهٍ بسيطة في القرية نصفها غير مسقوف، دخلتْها النساء والفتيات مع آباء وأخوة لهن، فشربن الكازوز او القهوة والشاي.
وكان في القرية طبيب أسنان وصيدلية. وقد عرفتْ مبكرا اكثر من طبيب صحة ممن درسوا عند البروتستانت، الا ان معظمهم سافر الى العراق او عمل في "شركة نفط العراق" أي. بي. سي، وهؤلاء سكنوا طرابلس. لكن التحول الكبير طرأ مع الحرب الثانية. فبعدها جعلت تتحسن الطرق وتتعبّد، واستقرت أعداد في المدن بينما قلّ سكان القرية.
ومنذ وعيي الأول أذكر السيارات هناك، تتجمّع في الساحة التي نشأتْ فيها لاحقاً مقاهٍ كبيرة نسبياً. فثلاث سيارات أو أربع اعتادت نقل الركاب الى طرابلس، أما سائقوها، مسيحيين ومسلمين، فكانوا من قرى مجاورة. غير أن السيارات الخاصة لم توجد آنذاك فتأخّر امتلاكها الى منتصف الأربعينات.
وفي الفترة نفسها، أضيئت دروب القرية بفوانيس تعمل على الكاز يتولى أمرها شرطيون تابعون للبلدية. وعلى ضوئها، كنا نتمشى في المساء على الطريق الرئيسي للقرية من طرفه الى طرفه الآخر. وكنا كثيرين صبياناً وصبايا، لكن أفراد كل من الجنسين تمشّوا وحدهم. بيد أن الفارق الأبرز في "المشوار" أظهره غياب الشمس. اذ قبله، وجب الإياب على البنات فيما استطاع الصبيان البقاء على الطريق. والصبيان، إخوتنا وأبناء أعمامنا، كانوا من يهددنا بالشكوى حين يروننا لا نزال خارج البيت بعد المغيب.
فالفتاة كان مغلوباً على أمرها بسبب الشرف والعار. مع هذا، درج العشاق، إبّان عمل الشمس، على اللقاء في البساتين، وقد عُرفت حالتان انتهتا ب"شليفة" خطيفة قاومها الأهل بشراسة. والأهل كانوا من يقرر الزيجات ويرتّبها، أوامرهم هي التي تُنفّذ. وكان من تَشدّدهم أنهم لا يتركون الخطيب والخطيبة يختليان وحدهما أو يذهبان معاً الى طرابلس.
وخلال الخطبة التي تمتد ما بين ثلاثة اشهر وستة، والتي لم يكن بد منها قبل الزواج، لم ينفرد الخطيبان ببعضهما، واذا فعلا فخلسةً. وحتى بعد الزواج، ظل معظم المتزوجين يعيشون مع أهلهم: غرفة في البيت لهؤلاء وغرفة لأولئك. ومن قريب او قريبة تم معظم الزيجات، حتى قيل ان ابنة قريتنا "تموت اذا اخذت غريباً". وفعلاً، حدثت حالات أكدت لهم صحة قناعتهم هذه. وكانت المرأة اذا اختلفت مع زوجها ولاذت ببيت أبويها، خذلها أبوها وردّها الى الزوج. وحتى ضربُها، حين كان يحصل، لم يعدّل الأمور كثيراً، رغم نظرة عامة دانت الضرب ولم تستسغه أبداً.
وهذا إنما كان بعضاً مما عشناه ولا يزال عبيره عندنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.