"لو كنت مكانكم، لما نمت مطمئناً. حذار القنبلة الاجتماعية التي أصبحت الآن جاهزة تماماً". ليست هذه الكلمات مطلع بيان لأحد الأحزاب السياسية، بل مقطع من أغنية لفرقة ان. تي. أم. التي تقدم النمط الموسيقي الغنائي المعروف بالراب RAP. والفرقة هذه احدى أشهر فرق الراب، نشأت في إحدى ضواحي باريس، منطقة السين سان دوني حيث تقوم مدن - ضواحٍ كاملة، وحيث جامعة سان دوني بطلابها الخمسة والعشرين ألفاً، التي ورثت جامعة فانسين الشهيرة بتمردها ولكنْ بأساتذتها الكبار أيضاً، وحيث نفوذ انتخابي تقليدي، وان في تراجع ملحوظ، للحزب الشيوعي المسيطر على عدة بلديات. وتوجد فرق راب شهيرة، حيث هناك مهاجرون ومدن - ضواحٍ، كفرقة "آي أم" في مرسيليا، وفرقة "زبده" في تولوز واسمها تعريب لكلمة "بور"، وهي نفسها تلاعب عبر قلب المقاطع لكلمة "آراب" أو عربي، وال"بور" هي كنية ابناء المهاجرين المولودين في فرنسا. وللراب في هذه البلاد محطاته الاذاعية، وعلى رأسها "سكاي روك" التي لم تعد تذيع سواه منذ 1997. وهي تحظى حسب احصائيات رسمية دقيقة بنسبة 49 في المئة من استماع من هم دون العشرين في المدن الفرنسية. كما للراب مجلاته وأزياؤه. والحق اني بدأت التعرف على الراب من الزاوية "الضيقة"، زاوية الصراع مع ابنتي على خفض صوت المذياع لتجنب هذه الموسيقى "البلهاء، المتكررة، الجديرة بمراكز التعذيب"، كما كنت أقول لها حين أمرّ أمام غرفتها. الى أن جاءتني يوماً بكراس مكتوب بخط يدها وطلبت مني الاستماع، وراحت تقرأ. فأمسكت بيدي الى عالم لم احدس وجوده. ومن يومها، صارت تكتب القصائد التي تسمعها، وتتلوها علي، وصرنا نتأثر معاً. قبل ذلك، وأثناء "الصراع"، كانت احياناً تأتي سائلة عما تعني "قصة قناة السويس" ومن هو "لوثر كينغ" أو "مالكوم اكس"، وما الذي حدث في "اكتوبر 1961" يوم ألقي بعشرات الجزائريين في نهر السين. ثم راح اهتمامها بقراءة الصحف وبسماع نشرات الأخبار يتعاظم وراحت محاور "تسيّسها" تتوضح. فهي قبل كل شيء ضد الظلم الذي يستفزها كمسألة شخصية، ثم هي ضد كل اشكال التمييز العنصري والاضطهاد على أساس ديني أو عرقي. وهي بعد ذلك ضد البؤس ولا تعتقد أنه مبرر أو محتوم، وتؤمن بقوة بأن العالم يمكن أن يُنظم خلاف ذلك. وأخيراً هي ضد كل اشكال الزيف الاجتماعي، ملاحقة أدق تعبيراته، بدءاً بتصرفات الناس العاديين في الشارع، مروراً بما يحويه التلفزيون، وانتهاء بأشكال من التعبير اكثر تعقيداً كالأفلام السينمائية والنصوص الأدبية. لم يبق عندي شك في تطابق قناعاتها هذه مع خيارها الفني ذاك. ولست أجزم أين كانت نقطة الابتداء. إلا أني اعتقد ان الامر جاء تفاعلاً بين آراء ابنتي وحساسيتها وبين تلك القصائد الغاضبة. وحالها في هذا كحال أقرانها أو معظمهم. بل ان نوعاً من الفرز يجري في اوساط المراهقين والشبيبة بين "المعنيين"، أو "الملتزمين" إذا شئنا ترجمة دقيقة للتعبير الفرنسي المستعمل، وهؤلاء من أنصار الراب، وبين الآخرين الذين يستمعون الى أنواع أخرى من الموسيقى، وهم اجمالاً أقل اهتماماً بالمشاكل الاجتماعية وأقبل بلورة لقناعات محددة حيالها. أما في احياء مدن المهاجرين، فقد تحول الراب الى نمط حياة، اطار ثقافي كامل، دفع أحد الكتّاب للتساؤل عما إذا كانت "الضواحي قد اخترعت الراب أم ان الراب هو الذي اخترع الضواحي". وكما الراب الأميركي، الناشئ أصلاً في ضاحية البرونكس الفقيرة وبين السود، فلسنا بازاء موسيقى أو موضة معينة تعبر كسواها، بل وبالتأكيد أمام ظاهرة اجتماعية بالمعنى الكامل والأصيل للكلمة. هناك، ضمن الراب، اتجاه لطيف، يعتمد على الايقاع والموسيقى وتتبع فيه الكلمات اللحن. وهذا المنحى قليل الأثر، ضامر، مقارنة بالراب الذي يطلق على نفسه تعبير "الاندر غراوند" ما تحت الأرض، للاشارة الى نشوئه في القاع الاجتماعي للاحياء الفقيرة، وللاشارة الى تمرده على الاحتواء بواسطة الاعتراف الرسمي به. ذلك ان الخطاب الذي يحمله جذري الى حد يجعله غير قابل للاستيعاب. ولذلك، تتجنب شبكات الراديو والتلفزة الرسمية اذاعته، كذلك تفعل معظم الشبكات الخاصة رغم جماهيريته الأكيدة. يهاجم فريق ان. تي. أم. مغني الراب اللطيف: "أيها الزنجي، أنت تثرثر كثيراً. هات الميكرو. أعده للذين في الأسفل، الى البنائين الذين تسرق أسلوبهم. وكما يقال عندنا، ان لم يكن لديك ما تقوله، فاغلق فمك. تقول عن نفسك انك اندر غراوند. اذهب أنت وفرقتك. فلست من عالمي ولا أريد أن يخلطوا بيننا. انت تستند الى الضحايا حين يناسبك ذلك. تلك لا شرعيتك وهذا يضايقني". وتقول فرقة آي. أم. المرسيلية "ليست المشكلة في لون البشرة بل في الحساب في البنك"، مميزة داخل التمييز العنصري بين الأثرياء والفقراء. والفقراء هؤلاء يسكنون المدن - الضواحي، اي معادل مدن الصفيح عندنا والأمور نسبية. وهم يسمون احياءهم "الباطون" أو "الزفت" لكون هذه المباني الهائلة الممتدة بتراتب متواز ممل، قد أنشئت على عجل بواسطة المكعبات الاسمنتية، المصنوعة سلفاً في الغالب، كما يسمونها "حجور الفئران". تقول فرقة "الزنجي البني" المؤلفة من سود وعرب: "كم من الحقد في النظرات. كم من الاهانات في الأفواه. تتغير الأجيال لكن طموحاتها تزداد شبهة"، في اشارة الى النمو المضطرد للتيارات اليمينية الشعبوية التي تستند في خطابها الى التحريض على كره الأجانب والمهاجرين. ومدن الضواحي المهاجرة هذه التي تؤوي خليطاً من العرب والأفارقة والمارتينيكيين وابناء مستعمرات أخرى، والبرتغاليين، تضج بعنف دموي متفجر. تكاد لا تخلو صفحات الجرائد اليومية من الحوادث التي يتخذ بعضها طابع التمرد المديد، كما كانت عليه الحال في الاسبوع الماضي في المدينة - الضاحية بيرت، قرب طولون. فبيرت هذه يسكنها 15 ألف انسان، وقد تحولت كسائر المدن - الضواحي الى غيتو شبه مغلق، يدور فيه الشبان على أنفسهم طوال النهار تبلغ نسبة البطالة في بيرت 30 في المئة وهناك انهيار في نسبة التردد على المدارس لمن هم دون السادسة عشرة. وفي ليل الخامس من نيسان ابريل، داهم البوليس احدى الشقق لتوقيف شاب بتهمة الاتجار بالمخدرات، فما كان من والدته وهي أم لخمسة أولاد، إلا أن رمت بنفسها من الطابق الثامن، حسب الرواية الرسمية. وتحول الحادث الى "حرب شوارع حقيقية" كما تقول جريدة "لوموند" في عددها الصادر يوم 8 نيسان. وحدثت لأيام ثلاثة متوالية، مطاردات ليل نهار في الشوارع والقيت قنابل مولوتوف وحجارة، وجرى توقيف عشرات الشبان. وكانت الضاحية - المدينة نفسها قد شهدت حوادث عنف مشابهة في تشرين الثاني نوفمبر 1997. وقد وقف رئيس البلدية - الشيوعي - عاجزاً أمام المشهد، واعداً باتخاذ تدابير لتحسين مستوى الحياة والأمان. ولا شك أن صعود الراب المعبر في قصائده عن نوعية الحياة هذه، حيث يضمر الأمل، يترافق مع تراجع واضح ومتعاظم في نفوذ الحزب الشيوعي الذي كان قد نجح، حتى عقدين من الزمن، في تأمين أطر للعمل السياسي وللتعبير عن النفس داخل هذه الأوساط. تقول احدى الأغاني: "لقد نسينا النظام الا حين يتعلق الأمر بإعادة الانتخاب. الدولة تمسك برقابنا بواسطة الآمال الكبيرة". وتقول أخرى، عنوانها "رائحة الكبريت": "لن تتحرك الدولة قبل أن يصبح المهمشون كثراً الى حد أن أنفاسهم ستثقل على أرصفة الحي السادس عشر الحي الباريسي البورجوازي. تباً! من وضع البؤس على لائحة الانتظار الطويلة هذه. ما الذي يمنع اشتعال النار؟ ذلك انه يوجد حتماً مجانين أكثر مما توجد رائحة طعام في احياء هؤلاء المعذبين". والتحذير من التدمير الذاتي، وليد اليأس وانسداد الأفق - انتحار المرأة تلك أو حوادث العنف الأعمى - يتكرر في القصائد كلها. يملك ابناء الضواحي هؤلاء إزاء حالهم البائسة مرتكزات قِيَمية لعل أبرزها ثلاثة: الاول، تمجيد التضامن واناشيد الاخوة والصداقة المكتظة في الراب، حيث "تتعلم مع الوقت كيف تحمي اصدقاءك عند الحاجة والكلمة الأخيرة منطوقة بالعربية، وتقفز حتى لو خاطرت بحياتك"، او و"كبرنا معاً، بنينا معاً. اذكر نقاشاتنا وأحلامنا. هل تذكر أحلامنا؟ حين كنا في المستودع المهجور وكنا نشعر بالسخونة ترتفع. تباً! كل ذلك بعيد الآن. امضيت مراهقتي أحطم القطارات. لست نادماً، فكم من مرة لامسنا معاً السعادة، بحيث يمكن أن نموت غداً". ثاني المرتكزات التمسك بال"بلاد" التي لم يرها بعضهم أبداً، لكنها متشكلة في وجدانهم كمرجع انتمائي: "رحلت يا وطني وليست غلطتي. بعضهم لم يقدر على تحمل حياته هناك. يهرب منك الكثيرون. لكنك مفتقد مشتاق اليك. وهذا الحبر مهدى اليك، لكنه شيء قليل. أرقب عودتي كما حارس امام قبره". ويترتب على الانتماء دائرتان اضافيتان: اشارات كثيرة الى فلسطين كانتماء اضافي متبنّى، وذكر لله، بالعربية احياناً. وهم يكررون جملاً بالعربية من مثل "إن شاء الله" ويضعون في مقدمة الملاحق المكتوبة والمرفقة بالاسطوانات المدمجة شكرهم "لله العلي القدير". ولا يبدو اختلاف الأديان، وبعضهم مسيحي، مصدر صراع، بل هو مدعاة احترام متبادل. اما المرتكز الثالث فهو الأم. وهي مغنّاة بوصفها القيمة العليا، الملجأ الأكثر أماناً. تقول احدى القصائد "انها تطارد العقبان فوق السطح ... كل الأمهات أميرات يعطين الحب بلا توقف للحيوات المولودة ثم يرحلن ... مَن أكثر من الأم بإمكانه ملء روح رجل جاد". وتقول أخرى: "اغنيتي مهداة إلى كل النساء في المدن - الضواحي، أكنّ من باريس، الجزائر أو ياوندا. هؤلاء اللواتي يعرفن العذاب، شبابيك المقابلات في السجون، ممرات المستشفيات المعقمة، إنهن يلحقن بك، ورغم الألم المعتصر في القلب، إلا أنهن يمشين وفي عيونهن نظرة كبرياء". ويشمل هذا الاحترام للأم الاخوات أيضاً، وهن موصوفات في أغاني الراب، كمكافحات وكمتضامنات وكمنقذات أحياناً. هكذا تحضر النساء في الحيز الاجتماعي وتبرز قيمتهن من خلال مواقفهن ضمنه، مما يفسر غياب القصائد الغرامية، المنتمية بالضرورة إلى الحيز الخاص، عن كل أغاني الراب. وبالمناسبة، فمغنيات الراب قليلات جداً. وهذا بحد ذاته ذو دلالة. ولعل تفسيراً أولياً يكمن في أن الفتيات في المدن - الضواحي أكثر قدرة على ايجاز المخارج. ومن المعروف أن نسبة تعلم الفتيات في الضواحي أعلى من نسبة الفتيان، وان الكثيرات منهن يحزن شهادات جامعية ويسعين الى العمل وينجحن في ايجاده، بحيث تقول الدراسات المختصة ان مصدر رزق العائلة بكاملها يقع على كاهل بناتها في كثير من الأحيان. لقد كان عليّ أن أسافر عبر القصائد حتى أفهم أخيراً سر ذلك الايقاع العنيف المتكرر. فهمت كيف يمكن للموسيقى، عبر التكرار، ان تخلق أجواء التوتر. وكيف يمكنها أيضاً، وعبر التكرار نفسه أن تصبح ثانوية بالنسبة للنص، للكلمات. أن تصبح مجرد خلفية، ذات طابع ايقاعي مقلق، لأنه متكرر. فهمت معنى ما قاله أحد مغني فرقة راب بريطانية، "آسيان دوب فوندايشن"، من أنه "حتى الايقاع رسالة". وفهمت كيف أوجد الراب لغته الخاصة: مزيج من العربية والولوف الافريقي ولغات المستعمرات وأيضاً ما يسمى "الفيرلان"، وهو ابتكار يعتمد على عكس مقاطع الكلمات الفرنسية، بحيث يخلق هذا المزيج عالماً يجري الانتماء إليه، عبر تبني مفرداته، عالماً تجري فيه إعادة توظيف الكلمات، فينشأ نوع من التعريف الجديد لها، القائم على جرأة في استخدام اللغة بسبب التحرر من قيود اللياقة المتعارف عليها ولكن أيضاً وبالتأكيد، بسبب الانتماء الى تجربة حياتية مكثفة وبسبب التمازج الثقافي. انه تفاعل انتماءات تمتلك كلها جذوراً شديدة الخصوبة. أوجد ذلك شاعرية بدت مفتقدة بسبب نضوب اللغة المترهلة من فرط الاستعمال المطروق المقنن، كما بسبب هيمنة الصورة. وبهذا المعنى، أعاد الراب الاعتبار للكلام. يقول اوكسمو، واسمه الحقيقي عبدالإله، وهو مالي الاصل وباريسي الاقامة: "اخشى الموت. اخشى أن تستمر الحياة بدوني. أخشى ان ينساني أصحابي وان تتضاعف دموع أمي كلما فتحت جفونها". * ما كان ممكناً أن أتعرف على الراب ولا أن أنجز هذا المقال، لولا المساهمة الجدية والمنهجية لفرات الركابي، ابنة الثالثة عشرة التي عملت معي على تبويب وشرح النصوص وما استغلق عليّ.