هي من أوائل النساء اللواتي قدن سيارة في الشرق، وكان عمرها 16 عاماً. بعدها تعلمت قيادة الطائرة وكانت من الأوائل أيضاً، وكان عمرها 20 عاماً. لم تحز شهادة جامعية بل كانت تلميذة مميزة، علامتها في الرياضيات كثيراً ما تعدت العشرين: 22 على 20 مثلاً. هواياتها: التطريز، الأوبيسون، الحياكة، الخياطة، النحاس المضغوط، الرسم، الدمغ الوشمي أي فن طبع الرسوم على الخشب والجلد بالمدمغ، التصوير، عزف الكمان والبيانو والغناء. زوجة رئيس حزب انتخب نائباً وعيّن وزيراً مرات. أم لرئيسي جمهورية، وأم وجدة لثلاثة شهداء... ليست "المرأة الخارقة" الوارد ذكرها مثلاً في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية. انها سيدة حقيقية عرفت كيف تبقى في الظل وتقف وراء رجالها وعائلتها لتدعمهم بأفضل الطرق. انها "حارسة العائلة". انها جنفياف بيار الجميل. "حارسة العائلة" كتاب جديد لماريا شختورة رئيسة القسم الثقافي في جريدة "لوريان لوجور" اللبنانية الصادرة بالفرنسية. وان نفت شختورة صفة الكاتبة عن نفسها وفضلت عليها صفة الصحافية، الا انها قدمت في هذا الكتاب "أطول ريبورتاج في حياتي" كما تقول، ولعله من أجملها. عمر هذا البحث 11 عاماً وقد رأت شختورة ان الأوان حان لنشره بعدما سكت المدفع وهدأت النفوس خصوصاً "ان المرأة العجوز، في فستانها الأسود وبتسريحتها الخاصة اقتربت اليوم من الثالثة والتسعين". وتضيف شختورة في مقدمة كتابها انها لم تُدخل أي تعديل أو أي معلومة اضافية على النص القديم كي لا تخون الحماسة والحيوية والإحساس الرقيق لهذه الحقبة الخاصة. "وأضيف فقط، للتأريخ، كما تقول، ان الشيخة جنفياف بيار الجميل تشيخ واقفة، دائمة الشموخ، على رغم جراحة في القلب مجرد حادث صغير كما تؤكد لم تحد يوماً من حيويتها وأسلوب عيشها أو بقائها خطرة بمقدار ما هي مميزة". وهذا ثاني كتاب لشختورة بعد "La guerre des grafitti" أو "حرب الشعارات" الصادر عن "دار النهار" العام 1978. ولعل ما يجمع بين الكتابين شغف المؤلفة بالصورة وتركيزها عليها لنقل حقائق تمس العين مباشرة. فإذا قام كتابها الأول على الصور فالكتاب الثاني لا يقلل من أهميتها، ويحوي مجموعة نادرة لصور تخص آل الجميل أولاً وكل الوطن ثانياً. يقسم كتاب "حارسة العائلة" خمسة أقسام، تناولت فيها الكاتبة مراحل أساسية في حياة الشيخة جنفياف الجميل. فبعد ملاحظة من الكاتبة ومقدمة عن عائلة الجميل، بدأت سيرة حياة امرأة مميزة فعلاً انطبعت صورتها في الأذهان ولكن لم يعرف الكثير عنها. ربما هي التي أرادت ذلك لأنها بطبيعتها منزوية ولا تحب الأضواء والشهرة والحياة الاجتماعية الصاخبة. "فما صرحت عنه ارادت ان تفشيه لي بكل صراحة - كما تكتب شختورة - لكنني أعرف ان أسراراً كثيرة ستبقى طي الكتمان، مخبأة في الأعمال، وان الشيخة لن تسمح لها بتخطي عتبة ذاكرتها". القسم الأول من الكتاب بعنوان "الصبا - المنصورة" يتناول نشأة جنفياف الجميل في مصر حتى خطبتها من الشيخ بيار فزواجهما. القسم الثاني يحكي عن دورها كزوجة وأم. الثالث عن دورها في السياسة. أما الرابع وهو بعنوان "المآسي" فيختصر كل ما عانته الشيخة طوال حياتها... لتصل الى "الوحدة" عنوان القسم الخامس، قبل أن تنهي شختورة بخاتمة قصيرة ضمنتها انطباعاتها الخاصة عن بطلة كتابها. ولدت جنفياف الجميل في المنصورة في مصر في 23 كانون الثاني يناير 1908. والدها الياس الجميل ووالدتها عفيفة. وهي الخامسة في عائلة عدد أولادها اثنا عشر سبع اناث وخمسة ذكور. وحدها عاشت مع والديها في المنصورة، فيما أرسل أخوتها للتعلم في لبنان. فكانت كالطفلة الوحيدة المدللة. تلقت دروسها في مدرسة راهبات العائلة المقدسة. وكانت تلميذة مجتهدة، وتلقت تربية دينية صارمة. في المنزل الكبير الذي ترعرعت فيه كان لها محترف تمارس فيه هواياتها الكثيرة، مثل العزف على الكمان والبيانو والغناء والرسم والتطريز والحياكة الخ... وكسرت التقاليد للمرة الأولى عندما تعلمت قيادة السيارة، ونالت رخصة السوق وهي لم تتعد السادسة عشرة، في مجتمع كانت السيارة فيه نادرة... والسائقون رجالاً. ولكن سرعان ما اعتاد أهل المنصورة رؤيتها تقود سيارة العائلة، فألفوا الأمر وما عادوا يعيرونه اهتماماً. هكذا سارت الحياة بطريقة هادئة ساكنة. وبين اهتماماتها اليدوية ومدرستها والمشاوير الطويلة في السيارة تمتعت الفتاة بطفولة ومراهقة من دون مشكلات. واهتمت بها مربيتها حتى زواجها. وكانت الحياة في مصر تتميز في الطبقة البورجوازية بكثرة المستخدمين. ولم يكن هذا بالضرورة دليل غنى بل مجرد عادة. وكانت الحياة الاجتماعية تتركز خصوصاً في المنازل. وبما ان النشاطات الخارجية كانت قليلة كان الناس، وخصوصاً أفراد الجالية اللبنانية، يحبون الاجتماعات كثيراً. "ولكن ليس في عائلتي - كما تقول جنفياف الجميل - كثيراً ما كان والدي يستقبل الأصدقاء الى الغداء، لأنه كان يعمل كثيراً ويبدأ نهاره في الخامسة صباحاً... فوالداي كانا تقليديين وما كانا يحبان الحفلات الراقصة والسهرات في الكازينو". وإذا عُرفت جنفياف بالهدوء والرصانة، لم ينفِ ذلك حبها للمغامرة. ففي العام 1928 وبعد عودتها من لبنان الى مصر حققت انجازاً قلما سبقتها اليه امرأة في ذلك الوقت. فقد التقى شقيقها ألفرد الذي كان يدرس الحقوق في جامعة القاهرة، صديقاً له عائداً لتوه من أوروبا وقد نال امتيازات عالية في مجال الملاحة الجوية. ونزولاً عند دعوة ألفرد قرر الطيار الشاب ان يزور المنصورة بطائرته وهو أمر خارج عن المألوف في ذلك الوقت. "استقبل ألفرد ضيفه في المنزل طبعاً - على ما تروي جنفياف - ولم أتردد في التعبير عن اعجابي بقيادته الطائرة فأعلمني أنه أسس مدرسة لتعليم الطيران في القاهرة ودعاني الى تعلم هذا الفن. لم أكن نسيت بعد الحيل التي اخترعتها لتعلم قيادة السيارة. أما الطيران فقصة مختلفة... "لم أخبر والدي بما كنت أخطط له طبعاً، لكني قصدت عمي وشرحت له الموقف". وأتى الحل عن طريق العم إذ تقرر ان ترافقه مرتين الى القاهرة لإدارة أعماله فيما تتابع هي دروسها في الطيران. وهكذا كان. وحازت شهادتها في الطيران. وكانت جنفياف نجحت في شهادة البكالوريا بتفوق. إلا انها لم تتابع دراسات عليا، مسلّمة بالتقاليد التي كانت تمنع الفتاة من ارتياد الجامعة. وهكذا فعلت بناتها بعدها. وفي ذلك الزمن، درجت العادة على ان "تخطب" الفتاة، منذ ولادتها، الى أحد أقربائها. كان لوالدة جنفياف ابن أخت تتناسب سنه وسن جنفياف. هو بيار... ومن عائلة الجميل أيضاً. كان بيار من جيل ألفرد شقيق جنفياف. وكانت عائلته هربت الى مصر العام 1914 لتعود الى لبنان العام 1918، عند نهاية الحرب الأولى. وقد نشأ الفتى بين بيروت وبكفيا في عائلة متواضعة من الأطباء والصيادلة. وعندما أصبحت جنفياف في الخامسة والعشرين، "بلغت السن" كما كانوا يقولون، بدأ التحضير لزواجها ولزواج أختها ماري. وكان العريسان بيار وشقيقه غبريال. وتمت مراسم العرسين في بكفيا لينتقل بعدها العرسان الأربعة الى اليونان في رحلة شهر العسل، ولتتغير حياة جنفياف كثيراً مع ابتعادها عن المنصورة وبعد موت والدها ثم موت شقيقها ألفرد. الزوجة والأم هكذا تزوجت جنفياف. وكان بيار صيدلياً، وشاباً جيداً "على كل الصعد". كل ما كان يهمه ان يلعب كرة القدم، كما كان يحلو لوالده الدكتور أمين ان يقول بفخر. وهكذا كل نهار أحد من العام 1934 كانت جنفياف ترافق زوجها الى الملعب لتشاهده "باحترام" يركض وراء الطابة أو يلوح بالبطاقات الصفر كان حكماً اتحادياً وعندما كانت تتعب من متابعة اللعبة التي لم تفهم منها شيئاً، كانت تنام على المدرجات. ولكن لحسن حظها كان بيار يصطحبها الى السينما، ثم الى العشاء في المطعم الفاخر "العجمي". وكان هناك أيضاً النزهات على الكورنيش. "حارسة العائلة" وزوجها الصيدلي رزقا ستة أولاد: مادلين التي عرفت بماديس وكلود وجاكلين وأرزة وأمين وبشير. ومنذ ولادة ماديس اكتشفت جنفياف موهبة جديدة كمربية وأم عائلة كبيرة. ومنذ ولادة مادلين وصولاً الى بشير، بُرمجت حياتها على نمط الرضاعة والحمامات والحفاضات. في هذا الوقت، أسس بيار الجميل مع آخرين حزب الكتائب. بعدها مثل لبنان في الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936. وعند عودته طلب منه أن يتسلم رئاسة هذه الحركة الوطنية على رغم معارضة والده ذلك، ما أثر في حياة العائلة كثيراً. بين الملاعب والحزب، قليلاً ما كان بيار يجتمع مع عائلته تاركاً لجنفياف هموم تربية العائلة. علمت أولادها الاستقلالية والاهتمام بأنفسهم. وكانت الحياة أحياناً عندهم أشبه ب"لحن السعادة". كانوا يرددون أغاني علمتهم اياها، وتصاحبهم أحياناً على البيانو. وعند المساء كثيراً ما كانوا يتحلقون حول سريرها لتخبرهم حكايات لها مغزى معنوي. فكانت طريقتها لتربيتهم وتهذيبهم. وإذا كان أولاد الجميل قليلاً ما يخرجون "الى العالم" كانوا في المقابل محاطين جداً، وشكلوا مع أولاد عمهم 4 صبيان وفتاتان شلة سعيدة. و"الست جنفياف" كانت تهتم بنزهات الأولاد أيضاً. وكانت رحلتهم المفضلة بالترامواي. وكانت تأخذهم الى السيرك والسينما والمسرح. أما أيام الآحاد فكانت مخصصة للنزهة مع الشيخ بيار. كانت تخيط ثياب أولادها، وكانت صديقة وشريكة لهم أكثر منها أماً. وهم يعترفون بأنها ساعدتهم في النمو والانفتاح وخصصت كل وقتها لتربيتهم. السياسة والمآسي والوحدة عندما نال لبنان استقلاله بدأ حزب الكتائب يبحث عن معنى جديد لوجوده. وبقي يتخبط في مشكلات حتى العام 1952 حين عاد موريس الجميل شقيق جنفياف المتخرج حديثاً في جامعة الحقوق في باريس ليضع هيكلية الحزب النهائية... علماً ان جنفياف دعمت الحزب مادياً، سنوات طويلة، وباعت مما ورثته عن والدها من أملاك في لبنان، ما أبقى الحزب الفتي واقفاً على رجليه. وخلال عهد الرئيس كميل شمعون 1952 - 1958 تميزت الحياة اللبنانية، عموماً، بالرفاهية ومجتمعه ببعض الصخب. فخضعت "الست" مرغمة لهذه التقاليد. لكن كره بيار الجميل لهذا النوع من الحياة الاجتماعية ساعدها في الحفاظ على حياة عائلتها الخاصة. كانت جنفياف مساعدة مهمة لزوجها في كل مهماته. وهذا الموقف دفع ببعض الشهود على حياة الزوحين الى القول ان "قوته الخفية كان اسمها جنفياف بكل بساطة". كانت أكثر من زوجة بل كانت الدعم للرجل - المؤسسة الذي نذر حياته للشعب وحرم الخصوصية. بكل رباطة جأش كانت الشيخة دائماً الوحيدة القادرة على الوقوف فيما كل شيء ينهار. وحدها كانت تتصرف بحذاقة حيث يجب وفي الوقت الضروري. ومن وقتها انطبعت بتسريحة شعرها الكعكة بناء على نصيحة من زلفا كميل شمعون وسيارتها الفولكس فاغن - الخنفساء. وإذا كانت حاضرة للاستقبالات، إلا ان جنفياف عاشت مع أولادها بعيداً من اهتمامات بيار السياسية. لكن ثلاثة من أولادها، ماديس وأمين وبشير، انخرطوا في الكتائب من دون أن يتعدى الأمر في البدء النشاط الاجتماعي. أما الآخرون فبقوا بعيدين من السياسة. وفي أوج الازدهار الذي عرفه لبنان حتى نهاية الستينات، بدأت تتسلل اليه الرياح الاقليمية خصوصاً بعد هزيمة 1967. هنا بدأ ايقاع حياة الشيخة يتغير إذ لم يعد الزوج وحده معنياً بالشأن العام بعد انخراط الولدين الذكرين في العمل السياسي: أمين نائباً عن المتن الشمالي منذ العام 1970 خلفاً لخاله موريس الجميل، وبشير الذي بدأ انطلاقته من صفوف طلاب الكتائب وخطف عام 1969 على حاجز فلسطيني قرب تل الزعتر... الى ان اندلعت الحرب عام 1975 وانخرط فيها الأولاد والأحفاد وسقط منهم: أمين ابن ماديس عام 1976، ومايا ابنة بشير عام 1980، ثم بشير عام 1982... ل"تتوج" المأساة بوفاة الشيخ بيار عام 1984. بعد اغتيال بشير ووفاة بيار وانتخاب أمين رئيساً، عاشت الشيخة في شقة عادية في الدورة في مبنى يخص احدى بناتها... وحيدة محاطة بصور أحباء رحلوا. قلما كانت تخرج، لكنها كانت تستقبل عدداً من الرسميين والديبلوماسيين والأصدقاء والأوفياء للحزب الذين لم ينسوها. باستثناء قداس الأحد، كانت تشارك في ما تسميه "احتفالاتها": جنازة، تعزية، تهنئة بعرس أو عمادة. "ماذا تريدين ان أفعل؟ فالبلد شاركنا كل أحزاننا، فكيف لا أرد الجميل بالمثل؟". اهتمت عن بعد بالطريقة التي حكم بها أمين البلد. فعلاقتها به تختلف عن علاقتها ببشير. ربما لأن البكر كان يشبه والده الى حد كبير. ولكن أي قرار عائلي أو وطني كبير كان للشيخة الرأي الأول والأخير فيه. كان شقيقها موريس يقول عنها "انها الأذكى بيننا جميعاً وبلا شك المحضّرة لاعتناق الحياة السياسية لو قدر لها ذلك". ولعل المرة الوحيدة التي بدت فيها الشيخة مذهولة كانت في 3 تشرين الأول أوكتوبر 1988، ليلة احتلت "القوات اللبنانية" مراكز الكتائب في منطقة المتن، الأمر الذي اعتبرته الشيخة طعنة لتضحيات نصف قرن من أجل الوطن والحزب. ساءتها خيانة البعض لهذا النضال وتشرذم العائلة الكبيرة ومخالفة المبادئ التي نادى بها الحزب "أمضيت خمسين عاماً أناضل وأضحي باسم المبادئ التي أردت زرعها في نفوس أبنائي. وبسبب هذه المبادئ نعاني اليوم وثمة من يسعى الى تحطيمنا. وما شهده أمين غداة انتهاء ولايته الرئاسية أجبر على الخروج من لبنان بعد السيطرة على مراكز الكتائب نهاية أكثر تعاسة من الموت". عند هذا الحد ينتهي التحقيق - الكتاب لتخرج منه شختورة التي عكست، بأسلوب شيق وبتسلسل آسر، فرادة هذه السيدة اللبنانية، بانطباعات عدة أبرزها: ان مآسي الحياة لم تلغِ من قسمات وجهها ارادة صلبة للمواجهة تختصرها ابتسامة دائمة، وان عزلتها ليست هرباً من الحياة أو انسياقاً الى الهامشية، بمقدار ما هي ركون الى ملجأ للتأمل والاعتناء بحديقة النفس الخاصة، إذ يكفي في زحمة الكلام والحوادث من حولها... ان تسوق ملاحظة تفاجئ بها الجميع، بكل وعي وحكمة. وعلى رغم صفحات الكتاب ال125، بما تضمنته من معلومات عن هذه السيدة الكبيرة، خلصت ماريا شختورة الى انها بدأت تعرف جنفياف الجميل "ولكن قليلاً".