لا يختلف اثنان على أن الإعلام بمفهوم "الميديا" هو أداة وصل بين مصدر الخبر والمتلقي. وشبّه بعض منظري علم الإعلام الميديا ب"أنبوب" ينقل المعلومة بين المصدر والمتلقي، بينما فضل آخرون تشبيهاً أقل بساطة للتشديد على دور الإعلام بتحليل الخبر والتحقق منه فشبهوا الميديا بال"محوِّل"، أي مركز تلقي كماً من المعلومات قبل إعادة تحويلها وبثها بشكل آخر. لكن منذ سنوات باتت الوسائل الإعلامية تلعب دوراً جديداً في الحياة السياسية هو دور "المُثبِّت" للحقيقة والوقائع والمواقف. وقد أثبتت الأزمة الأميركية - العراقية والتشنج الديبلوماسي والسياسي الذي يرافقها الدور المتنامي للوسائل الإعلامية في تثبيت قول أو واقعة وتقرير أو حتى موقف سياسي دولي. قبل أن تنتشر وسائل الإعلام ويتوسع استعمالها كانت معظم المفاوضات والمناوشات السياسية تتم خلف الكواليس ووراء جدران السفارات والدوائر الحكومية والاماكن السرية، لا يصل الى الرأي العام الا ما ندر من ارهاصاتها بانتظار "اعلان" النتائج التي تم التوصل إليها. ولم يكن في وسع الرأي العام التأثير على مجريات الأمور بسبب جهله التوجهات العامة لما يجري في السر. وإذا ما تسربت أنباء بسيطة فانها تكون ضمن إطار اللعبة الديبلوماسية للضغط على المفاوضات عبر إثارة الرأي العام في اتجاه معين ولخدمة أهداف محددة. وقد أدركت الوسائل الإعلامية القوة التي يمكن أن تكتسبها من جراء وضع القوى السياسية تحت مجهر الإعلام بصورة دائمة، ما يجعل الرأي العام الحَكَم المباشر لما يدور وراء كواليس لم تعد تستطيع حجب المفاوضات. وباتت الشفافية الإعلامية أداة من أدوات المفاوضات على مختلف المستويات ولكنها في غالب الأحيان تخدم الطرف الضعيف وتنغص عمل الطرف القوي لأنها تقطع الطريق على الضغوطات التي يمكن أن تقوم بها الأطراف القوية لإجبار الأطراف الضعيفة على الانصياع، خصوصاً أنها تمنع استعمال وسائل غير نزيهة أو يتفق على اعتبارها غير نزيهة في مرحلة معينة. لكن هذا لا يعني أن الطرف القوي يمتنع بشكل دائم عن استعمال الوسائل الإعلامية كسلاح لخدمة اهدافه ولتثبيت مواقفه أمام الرأي العام. لا بل على العكس فإن الأطراف القوية تحاول استعمال سلاح الميديا كشاهد تثبيت كلما كان ذلك يشكل كسباً لها، ولكنها تفضل أن يكون هذا السلاح متوافراً لديها فقط مثلما هو الأمر بالنسبة الى أي سلاح آخر. الا ن ما يجعل الإعلام سلاحاً ديموقراطياً متوافراً للجميع نظرياً هو انتشاره الكثيف وعدم القدرة على السيطرة عليه والتلاعب بخيوطه الممتدة حول العالم، الامر الذي يؤثر سلباً على الطرف القوي ويخدم الطرف الضعيف في كل صراع. في بداية الأزمة العراقية ظهر الإعلام وكأنه الحليف الاول لواشنطن، وبدا أنه سلاح أمضى من كل التكنولوجيا الحربية التي يمكن أن تستعملها للقضاء على النظام العراقي. وكانت الحجج المنطقية والمعلومات العلمية حتى وإن كان مصدرها استخباراتياً، تدعم الموقف الأميركي المتشدد المطالب بنزع سلاح العراق. ولم تكن اي جهة، حتى المتعاطفة مع نظام صدام، تستطيع رفض ما تعلنه الادارة الاميركية و"تثبته" في الحقل الاعلامي. ونجد في هذا بعض التفسيرات للحساسية السلبية التي يحملها النظام العراقي للإعلام في الخارج بصورة عامة. وسهّل الاستعمال الأميركي للإعلام بشكل سليم، أي بحجج مقنعة بشكل متناسق لا تناقض فيه، إمكانية تقدم الخطط الأميركية المتعلقة بالعراق سياسياً وتنفيذياً بحيث لم تجد أي رفض لسياسة الاحتواء التي فرضتها على العراق ولا أي اعتراض على الحصار الاقتصادي الذي تسبب بوفاة عدد كبير من العراقيين. وحتى الإجراءات المناقضة لقرارات الأممالمتحدة مناطق حظر الطيران والقصف اليومي للأراضي العراقية أو التي لا تستند اليها وجدت قبولاً لها بسبب "التثبيت الإعلامي" لأهداف تصب الإجراءات في سياقها. ولم تظهر بوادر موقف مناهض لسياسة واشنطن من اقرب حلفائها الا عندما خرجت الاهداف السياسية الاميركية عن سياق الاهداف المثبتة اعلامياً. واستفاد العراق كثيراً من هذا التحوّل مكتفياً بالقفز في السياق الإعلامي المثبت ليكتسب القوة الإعلامية المتراكمة فيه ويحولها لمصلحته، فانتقلت القوة المشحونة منذ سنوات بفضل العمل الإعلامي الأميركي من جانب واشنطن الى جانب بغداد. ومع ان الموقف العراقي قد يكون مجرد انتهاز فرصة اخيرة أو أخرى لتجنب الانهيار تحت تأثير ضربات القوة العسكرية الأميركية، الا أنه من ناحية إعلامية بحته، حوّل لحسابه المكتسبات الإعلامية الأميركية، بدخول سياق المطالبات الإعلامية الأميركية الأكثر ثبوتاً في أذهان الرأي العام العالمي وهي: نزع أسلحة الدمار الشامل. ومن ناحية تواصلية إعلامية بحتة فإن قوة حجة نزع أسلحة الدمار الشامل هي الأقوى لدى الرأي العام العالمي، ليس فقط بسبب خطر هذه الأسلحة بل وايضاً بسبب التركيز الإعلامي خصوصاً الأميركي على خطرها، فلدى الرأي العام لا توجد مفاضلة بين "خطر" النظام العراقي و"خطر" اسلحة الدمار الشامل، ولكن وبكل بساطة فإن الحديث الإعلامي عن أسلحة الدمار الشامل كان أكثر "كماً إعلامياً" من الحديث الإعلامي عن "خطر" النظام العراقي، أي أن التداخل الإعلامي لشعار "نزع السلاح" كان أقوى من أي شعار آخر. ومن هنا حصلت بلبلة عندما غيرت واشنطن أهدافها المعلنة من وراء حربها على العراق. مثلما يمكن أن يحصل عندما يكون التداخل الإعلامي الإعلاني لماركة صابون معينة قوياً في سوق معينة، وفجأة ومن دون أي تحضير تتغير الرسالة الإعلانية التي ترافق تسويقه، فعوضاً عن أن يكون مثلاً ناجعاً للجلد يتحول مفيداً لشعر الرأس. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تحدث بلبلة في السوق وينهار الطلب على هذا النوع من الصابون بسبب قوة التداخل الإعلامي التي كانت تحملها الماركة نفسها. أي أن الانقلاب على الأهداف المعلنة يكون صعباً كلما كانت جذورها التواصلية مغروسة بعمق بسبب الترديد والعمل التواصلي المستمر. ليس من الغريب أن نرى اليوم أن معارضي السياسة الأميركية الذين يشكلون أكثرية ساحقة في الرأي العام العالمي، يطالبون بما دأبت واشنطن على المطالبة به منذ سنوات، اي نزع السلاح العراقي. لقد عملت الحملة الإعلامية الأميركية لسنوات طويلة على تثبيت رمزية تواصلية في وسائل الإعلام تفيد أن "خطر" العراق مرتبط بسلاح الدمار الشامل الذي يمتلكه والذي يرفض التخلي عنه. وقد اصبح هذا الشعار ثابتاً وساهم التكرار الاعلامي والاعلاني في جعله رمزاً للخطر العراقي لدى أكثرية ساحقة من الرأي العام. ويلجأ المعارضون للسياسة الأميركية، مهما كانت دوافعهم السياسية الخاصة، لتثبيت معارضتهم ضمن الرمز الذي يضمن لهم أكبر قدر ممكن من التأييد بسبب التداخل الإعلامي الكثيف للشعار نزع السلاح وليس بسبب مواقفهم. وهكذا يتحول الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى عملاق إعلامي يستطيع مواجهة العملاق الأميركي لأنه حمل الشعار التواصلي الذي قامت الولاياتالمتحدة بوضع أسسه منذ أكثر من عشر سنوات، وهو نزع سلاح العراق. وتتركز الحملة الإعلامية التواصلية الفرنسية على جعل الوسائل الإعلامية "شاهداً" على أن مطالبها ليست إلا "ما سبق وثبتته" الوسائل الإعلامية خلال سنوات استناداً الى الحملة الإعلامية الأميركية. وهي بالتالي تحاول الاستفادة أيضاً من زخم ما سبق وتراكم في سياق شعار نزع السلاح. ولكن مهما كانت قوة تثبيت الرمز التواصلي في الوسائل الإعلامية الا انه ليس أبدياً، فهناك معادلة رياضية تربط بين قوة نسبة التداخل الإعلامي ومجموعة من العوامل التي تؤثر فيها. ومن أكثر العوامل المؤثرة في تقرير قوة التداخل الإعلامي لشعار ما عامل الزمن، أي فترة الترداد والترديد للشعار في الوسائل الإعلامية. ويمكن القول ان رمزية شعار أسلحة الدمار الشامل في العراق التي تتردد في وسائل الإعلام العالمية منذ أكثر من 13 سنة، باتت تملك قوة تداخل إعلامي تعتبر الثانية بعد رمزية شعار "المحرقة" الذي يتردد في الصحافة العالمية بشكل مستمر منذ أكثر من 55 سنة. ومن ناحية تواصلية يمكن القول ان السحر انقلب على الساحر. فالجهود التي قامت بها السلطات الأميركية مع جهات عدة أخرى لتثبيت رمز خطر العراق وربطه بخطر السلاح الشامل، والذي تثبت في الوسائل الإعلامية بات الدرع الإعلامي لمجموعة عمليات سياسية ذات أهداف متنوعة تمنع السلطات الأميركية من تجاوز شعار هذا الخطر مثل محاولة ربط العراق بنشاط تنظيم القاعدة وتكبل عملها بشكل صريح. ويمكن القول، حسب خبراء التواصل، أن الولاياتالمتحدة ارتكبت خطأ علمياً من ناحية تواصلية حين اعتقدت بأن مجهود سنوات من التراكم الإعلامي الرمزي يمكن محوه بأيام معدودة. ولكن يبدو من جهة أخرى أن إدراك واشنطن صعوبة تجاوز هذه العقبة ومحو الشهادة الموجودة في الوسائل الإعلامية جعلها تحاول المرور بالقوة، ما أفسح مجالاً أمام مجموعة من الصفات والتشبيهات التي تستخدمها وسائل الاعلام لوصف تصرف الولاياتالمتحدة، مثل أحادية القرار. ويمكن أن تظهر الممارسة اليومية للسياسة الدور الذي تلعبه وسائل الاعلام لتثبيت بعض الرموز والشعارات على شكل شاهد إعلامي. فالدول التي تتردد في اتخاد موقف ما من قضية معينة يحاول مسؤولوها عدم الادلاء بأي تصريح عن القضية المعنية. فأي اعلان أو تصريح أمام الوسائل الإعلامية يدخل حقل "الوجود الإعلامي" الذي لا مجال لمحوه إلا بتكذيب أو بتصحيح يمكن أن يفضح السياسة التي تقف وراء التحول في الموقف. وعلى سبيل المثال فإن شيراك أراد من خلال تصريح متلفز "تثبيت" موقف فرنسا إعلامياً بحيث تدرك الحكومة الأميركية وحلفاؤها أنه موقف نهائي لا عودة عنه. ولو لم يتم تثبيت الموقف إعلامياً لما حصل على قوة الدفع الذي حصدها في العالم. ويمكن القول انه في ظل اتساع انتشار وسائل الإعلام باتت التصريحات العلنية المثبتة في الميديا تمتلك قوة تتجاوز بكثير قوة السياسات المقررة في الكواليس وحول طاولات المفاوضات. فإعلان رسمي على لسان مسؤول مثبت في وسائل الإعلام اطلعت عليه مئات الملايين من الناس، يربط المسؤول بقوة تفوق قوة توقيعه على ورقة اتفاق يمكن إعطاء ألف تفسير سيميائي ولغوي له. لكن هذا لا يمنع القوى الكبرى إعلامياً، وفي طليعتها الولاياتالمتحدة من تصحيح توجهات بعض رموز تواصلية "ترميها" لوسائل الإعلام وتريد "استيرادها". وأفضل مثال على ذلك التشديد الإعلامي الأميركي على محاولات العراق استيراد اليورانيوم من النيجر، والتقرير الذي رافق هذا الاتهام وسلم إلى الأممالمتحدة بعد مطالبة هانس بليكس الدول التي تطلق اتهامات بتقديم ما تملكه من معلومات. ففي تقريره النهائي أعلن رئيس المفتشين أن الوثائق الاميركية مزوّرة من الألف الى الياء، في اتهام صريح لواشنطن. غير ان الوزير كولن باول والمستشارة كوندوليزا رايس استطاعا بحركة استيعاب شبيهة بما يقوم به مصارع الجودو أن يتجاوزا المأزق، فرد باول بأن ملف العراق النووي لم يقفل بعد، بينما أجابت رايس بأن هذا الملف يخبئ مفاجآت كثيرة. ولم يكلفا نفسيهما الدخول في تفاصيل جديدة. ومن وجهة نظر تواصلية فإن الملف النووي العراقي لم يقفل بعد في ذهن الرأي العام العالمي. يكفي الآن أن تتكفل القوات الأميركية المستعدة للزحف على بغداد باكتشاف ما تريد اكتشافه حتى يعود الزخم إلى العملية التواصلية الإعلامية الأميركية، وتخرج منتصرة، طالما أنها ما زالت حية لدى الرأي العام العالمي بعدما ثبتتها وسائل الإعلام