عندما ألقت الولاياتالمتحدة قنبلتها النووية الأولى على هيروشيما والثانية على نغازاكي اعترف القيمون على الحرب في المحيط الهادي أن استعمال السلاح النووي لم يكن لأسباب عسكرية بل "إعلامية" لحث الجيش الياباني على الاستسلام. وعندما فجّرت فرنسا قنبلتها النووية الأولى في صحراء الجزائر في شهر شباط فبراير عام 1960 ظهر الجنرال شارل ديغول وراء شاشة التلفزيون ليعلن للعالم أن فرنسا أصبحت قوة نووية. وما أن حصلت الهند على عناصر قوتها النووية حتى عمدت إلى تفجير قنبلة ليعلم العالم أنها دخلت النادي النووي. وكذلك فعلت باكستان. ويشكل الإعلام أحد أسس السلاح النووي والردع العسكري الذي ينتج عنه. فمن دون إعلام يوصل مخاطر السلاح إلى الخصم فإن السلاح النووي يفقد احد أهم مقوماته المتمثلة ب"الردع". فكما هو معروف فإن السلاح النووي ليس سلاحاً "للاستعمال" بل للردع. وخلاصة المعادلة التي يقوم عليها الردع النووي بعد تطوير مقدرة الرد على المعتدي هي: "فناء متبادل". وصمدت هذه المعادلة طيلة نصف قرن، وكانت ركناً أساسياً من أركان الحرب الباردة وحال السلم التي هيمنت على علاقات العملاقين. لكن لا يكفي توازن الرعب لإدامة وضع السلم، بل أن الردع يعتمد على بث الخوف لدى الخصم، وليس فقط لدى الطبقة الحاكمة التي تدرك الخسائر الفادحة والمميتة التي تنتج عن استعمال "متبادل" للسلاح النووي، بل لدى الرأي العام في بلاد الخصم. وللوصول إلى هذا الهدف فإن الإعلام بمختلف وسائله هو الممر الأوحد والأهم. وتوجه الرسالة الإعلامية - النووية الى الرأي العام الداخلي أيضاً. وإذا كان الهدف من توجيه رسائل إنذارية إلى الخصم أمراً مفهوماً وطبيعياً فإن توجيه الرسائل إلى الداخل هو نوع من الطمأنة الذاتية. لذا تقوم العملية الإعلامية المتعلقة بالشأن النووي على أسس مختلفة عن العمليات الإعلامية السياسية الأخرى، على عكس الأمور العسكرية التي تغلفها سرية تامة وذلك بسبب مفهوم الردع الذي يعتمد عليه هذا السلاح. وتشكل صورة انفجار القنبلة النووية الأميركية فوق هيروشيما أولى حلقات سلسلة الرسالة الإعلامية التي تقوم عليها عملية الردع الإعلامية. وانحفرت صورة "الفطر النووي"، وهو عبارة عن غبار ودخان ولهب تصاعد من نقطة الانفجار، ويمكن رؤيته من على بعد أكثر من 200 كيلومتر، أما باقي الرسالة الردعية الداخلة في عملية الردع النووية فتتوزع بين ما يسمى كتابات شبه علمية عن القنبلة النووية وهو ما تعالجه الصحافة والوسائل الإعلامية والمواضيع التي تدور حول السلاح النووي. وبُنيت "مخيلة نووية" لدى المتلقي استناداً إلى الخوف الذي ينبع من فهم الخطر النووي. وبدأت العملية أساساً في الدول الغربية التي كان يفصلها عن المعسكر الشيوعي حائط برلين الحد الفاصل بين القوتين النوويتين بشكل عام. وكان من الضروري أن يدرك المواطن الغربي الخطر الذي يواجهه من وراء الستار الحديدي، وذلك ضمن خطة احتواء الخطر السوفياتي الشيوعي وخطة دعم الجهد المالي المطلوب لرفع نسبة استعداد المعسكر الغربي للمواجهة. وأساء خروتشوف إبان أزمة الصواريخ الكوبية، فهم العلاقة الإعلامية الموجودة بين التخويف من الخطر النووي واللعب على شفير الهاوية. فهو اعتبر أنه بمجرد التلويح بحرب نووية في المجتمع الغربي المدرك تماماً خطر السلاح النووي بسبب الانفتاح الإعلامي على عكس الاتحاد السوفياتي، يكفي لتراجع الرئيس جون كيندي. لكن حدث العكس، فقد كانت واشنطن تدرك استحالة استعمال السلاح النووي من قبل أي طرف، فاستعملت التلويح بالخطر النووي لتقوية موقفها لدى الرأي العام الغربي. وأبرز مثال على ذلك ما حدث عندما حاول السفير السوفياتي في باريس استخدام الجنرال ديغول في محاولة لشق الصف الغربي فطلب مقابلته ليقول له أن عدم تراجع واشنطن يعني "فناء البشرية"، فأجاب ديغول بقوله الشهير: "إذاً سنموت سوياً سعادة السفير!". وتكفلت فيما بعد الروايات القصصية الكثيرة والأفلام السينمائية بإبراز الخطر النووي وقدرته التدميرية، وساهم هذا الوعي في زيادة القدرة الردعية للسلاح النووي وبشكل غير مباشر زاد من فرص عدم استعماله. وأدركت القوى النووية والقوى الطامحة لتصبح قوى نووية أن مجرد امتلاك هذه القوة من دون أن ترافقها رسالة إعلامية لا يعني الكثير في مفهوم الردع، ذلك أن الردع مبني أساساً على إعلام الآخر بنتائج عمل يراد ردعه عن القيام به. وهكذا كان الأمر بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي وفرنساوالصين وهي الدول النووية التي استطاعت بجهدها الخاص دخول النادي النووي. أما بريطانيا فوضعت الولاياتالمتحدة تحت تصرفها بعض صواريخ "بولاريس" النووية في مرحلة أولى ضمن تجهيزات الحلف الأطلسي في مطلع عهده لردعها عن استئناف تجاربها وأبحاثها النووية. واختارت الهند أيضاً سلوك طريق الإعلام النووي الردعي ففجرت قنبلتها النووية حالما تجمعت لديها القدرة على ذلك، لكن هذا لم يمنع باكستان الغريم التاريخي للهند، من متابعة جهودها للحصول على القنبلة لإقامة توازن الرعب. وحالما تمكن العلماء الباكستانيون من الحصول على مقومات القنبلة النووية باشروا بتفجيرها بشكل إعلان مباشر عن الدخول في مرحلة التوازن التي يفترضها الردع النووي. ويقول أحد خبراء الاستراتيجية النووية ان الهند التي أرادت الحصول على السلاح النووي لإقامة توازن مع جارتها الكبرى الصين كانت في مركز ضعف نسبي تجاه باكستان قبل أن تحصل اسلام اباد على قنبلتها، إذ أن الردع النووي يتطلب توازناً في القوى وغياب السلاح النووي لدى أحد الأطراف يلغي عملية الردع. وعدم الإعلام عن السلاح النووي يمكن أن يشكل نوعاً من غياب السلاح النووي الذي يلغي عملية الردع بسبب غياب التوازن. الا ان من البارز أن الهندوباكستان، بعد تمكنهما من السلاح النووي، دخلتا في لب عملية تواصلية مبنية على الردع الإعلامي المستند إلى الردع النووي. ويكفي لذلك الاطلاع على البيانات المتبادلة بين العاصمتين بين فترة وأخرى للتأكد من ان الطرفين يسعيان الى ابراز العامل النووي عبر بناء جدار الخوف، مثلما تم بين العملاقين خلال الحرب الباردة. ففي مطلع الشهر الجاري تسلمت السلطات الباكستانية صاروخاً جديداً من طراز "غوري" مداه 1500 كلم، واعلن المسؤولون الباكستانيون أن بلادهم مستعدة لرد "شامل" في حال هاجمتها الهند! ولم يتأخر وزير الدفاع الهندي جورج فرنانديز لمناسبة تسلم صاروخ من طراز "أغني-1"، في الرد، فقال: "إن ردنا على أي هجوم باكستاني سيمحي باكستان من الوجود". ومن المؤكد أن التعامل الصحافي مع الخطر النووي بين البلدين العملاقين سيستمر إلى أن يدخل تحسس هذا الخطر بشكل عميق مجمل الجسم المتلقي من المواطنين الهنود والباكستانيين عبر التعامل الإعلامي بالسلاح النووي ونتائجه. وعندئذ يمكن أن يوضع السلاح النووي جانباً بعدما يكون قد أدى دوره في بناء توازن رعب يمنع المواجهة. وقد سلكت بعض القوى النووية غير المعترف بها،إ مثل اسرائيل وأفريقيا الجنوبية والبرازيل والأرجنتين سابقاً اسلوب الردع النووي الذي يعتمد على الغموض الذي يحيط بعملية امتلاك السلاح النووي. ويسمى اسلوب الردع هذا "الغموض الكذاب"، وهو نظام ردع له مقومات شبيهة بمقومات نظام الردع المبني على حقيقة وجود سلاح نووي. ويتطلب أيضاً عملية إعلامية ترافقه وتكون أكثر تعقيداً حيث أنها تعتمد على بث رسالتين تواصليتين متناقضتين دولة نووية ودولة غير نووية. ويجب على القيمين على العملية الإعلامية العمل على أن تحمل الرسالتان مقداراً من الشفافية القادرة على "خداع" الرأي العام خصوصاً الخصم بشكل لا يستطيع أحد الجزم بأن اسرائيل لا تمتلك السلاح النووي أو أنها تمتلكه. وفي الواقع فإن اسلوب الغموض الكاذب يقود إلى نوع من الردع النووي حيث لا يستطيع أي مسؤول لدى الخصم المخاطرة بأن يضع جانباً احتمال امتلاك اسرائيل السلاح النووي. وفي الثمانينات فضح موردخاي فعنونو المهندس السابق في مفاعل ديمونه سر الغموض النووي الاسرائيلي واكد في مقابلة صحافية أن اسرائيل تمتلك أسلحة نووية، وتم اختطاف المواطن الاسرائيلي من روما وما زال قابعاً في السجون الاسرائيلية. وفي حين اعتبر بعضهم أن العملية جاءت لتقضي على نظام الردع الاسرائيلي المبني على الغموض حول امتلاكها القنبلة النووية، يقول آخرون ان الموساد قد يكون وراء العملية التي هي اعلامية قبل كل شيء بهدف الاعلان غير المباشر عن حقيقة امتلاك القنبلة ما يقوي موقف الردع النووي، بعدما زادت كفّة المشكّكين في حقيقة امتلاك اسرائيل القنبلة، مما يضعف الردع النووي في غياب تصريح علني عن دخولها النادي النووي. ومن الثابت ان اسرائيل تمتلك حوالى 200 قنبلة نووية وبعدما انهار نظام الغموض الكذاب الذي كانت تبني عليه نظام ردعها السابق، بات شعار نظامها الردعي الجديد انها "لن تكون البادئة باستعمال أسلحة الدمار الشامل في المنطقة". ويمكن ملاحظة أن الشعار الجديد يتضمن مقداراً لا بأس به من "الغموض البناء" كما يقال في علم التواصل. فهو لا يحصر الردع بالسلاح النووي بل يوسعه إلى أسلحة أخرى بالإشارة إلى "أسلحة الدمار الشامل". ولا ينفي بتاتاً امتلاك هذه الأسلحة بل يؤكدها ضمنياً حين يعلن عدم نيته أن يكون البادئ باستعمالها. وتقوم الحكومة الإسرائيلية من فترة إلى أخرى بحملة إعلامية منظمة حول أسلحة الدمار الشامل التي تدعي امتلاك بعض الدول المجاورة لها من دون أن تثبت أقوالها، ولكن كل ما تسعى إليه عبر حملاتها الإعلانية التذكير بنظام ردعها. واعترف محللون اسرائيليون بأن "عدم امتلاك أو عدم اعتراف أي دولة عربية بامتلاكها سلاحاً يماثل بقوة ردعه ما تحاول اسرائيل الإيحاء بامتلاكه، يحد كثيراً من قدرتها الردعية". ويرى بعضهم ان الانتفاضة مثلاً هي أفضل مثال على عدم جدوى الردع النووي أو أسلحة الدمار الشامل، في مواجهة أسلحة غير استراتيجية مثل الحجارة والبندقية! لكن هذا لم يمنع الصحافة الاسرائيلية من نشر تسريبات عن الاستعدادات العسكرية الاسرائيلية للرد في حال وقوع هجوم عراقي على اسرائيل. ولا تقتصر التسريبات على نظام الدفاع الصاروخي "أرو" السهم حيث ظهرت الحملة الإعلامية المنظمة من خلال استخدام الصحافيين الاسرائيليين تعابير متشابهة لوصف النظام، بل تعدته إلى أقوال منسوبة إلى مسؤولين اعتبرت أنه يمكن "محو بغداد عن الخارطة..." في حال تعرضت اسرائيل لهجوم كيماوي أو جرثومي. ومن الطبيعي أن هذه التصريحات ليست فقط للاستعمال المحلي بل تدخل ضمن نظام الردع الشامل الذي تحاول اسرائيل بناءه عبر عمليتها الإعلامية في غياب امكان التصريح علناً عن قوتها في مجال أسلحة الدمار الشامل. إلى جانب الردع النووي المبني على الردع الإعلامي، والردع المبني على الغموض الخادع، يوجد نوع من الردع الاستباقي الذي تولد نتيجة مجموعة الاتفاقات التي "كبلت" إمكان الحصول على أسلحة دمار شامل لكل من هو خارج نادي الكبار أو النادي النووي. والردع الاستباقي مبني على مبدأ استباق إمكانية تمكن دولة أو قوى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. ويلعب الإعلام دوراً كبيراً في تسويق الردع الاستباقي عبر نشر المعلومات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والمعاهدات المتعلقة بها، وكذلك بالجهد الذي يكرسه المجتمع الدولي لمحاربة أسلحة الدمار الشامل. لكن يمكن في بعض الأحيان، أن تستعمل دولة أو قوة هذا الإعلام لتحقيق ردع خاص بها مبني على أرضية المعلومات التي ساهم الإعلام بنشرها، من دون أن تعترف صراحة بامتلاكها اسلحة دمار شامل. وهكذا هو الأمر بالنسبة الى كوريا الشمالية. فهي قامت بطرد خبراء وكالة الطاقة الدولية وأعلنت إعادة تشغيل مفاعلها النووي تاركة للوسائل الإعلامية نشر وتوزيع سيناريوهات لم تعلن عنها لكنها تستند إلى واقع ما قبل اتفاق كوريا الشماليةوالولاياتالمتحدة أي إلى سنة 1994، ولكن بيونغيانغ لم تحاول تثبيت واقع إمكان او عدم إمكان انتاج قنبلة نووية. وساهم هذا الغموض الذي اعتمد على قوة اندفاع الدفق الإعلامي في تشكيل نظام ردع يمنع الولاياتالمتحدة من التحرك عسكرياً. وما تبحث عنه فرق التفتيش الدولية في العراق هو قبل كل شيء كل ما يتعلق بالبحث العلمي في العراق الذي يمكن أن يشكل يوماً ما مادة تغذي الدفق الإعلامي ويصب في سياق بناء خوف من إمكان إعادة بناء قوة أسلحة دمار شامل، على أسس إعلامية شبيهة بما بناه النظام الكوري الشمالي تشكل في كنف غموض إعلامي متعمد إلى جانب تعامل إعلامي خيالي مبني على الخوف من تكرار التجربة. نظام ردع للنظام العراقي الحالي... والمقبل