هل في الامكان قراءة تغيير ما في خريطة الحلف الغربي؟ باريسوبرلين تحتفلان بمرور 40 عاماً على معاهدة الإليزيه التي نظمت ومأسست التعاون الثنائي بين فرنساوالمانيا، فيما كان وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد يعتبر أنهما تمثلان "أوروبا القديمة". ويشير التباين في شأن الحرب على العراق بين ضفتي الاطلسي عموماً، وبين واشنطن من جهة وباريسوبرلين من جهة اخرى خصوصاً، إلى شرخ حقيقي في لحمة الجسم الاطلسي لم يشهد له مثيل على الاقل منذ انهيار الستار الحديدي وزوال الحرب الباردة. الولاياتالمتحدة التي نجحت في اقناع الخصوم بمدى قدرتها على تزعم العالم، بما تملكه من امكانات اقتصادية وعسكرية وسياسية، تعاني من "تمرد" حقيقي من اطراف يفترض أنهم في معسكر الاصدقاء. والواضح أن توافق موقف برلينوباريس حول مسألة الحرب ضد العراق يعكس رغبة في وضع حد للاندفاع الاميركي لقيادة العالم من دون كثير اهتمام بمصالح التجمعات والقوى الدولية. فألمانيا لم تعد مضطرة للالتصاق بالمارد الاميركي خوفاً من مارد احمر يطل على نوافذها، وفرنسا اضحت قلقة على مصادرة دورها الذي لطالما تحرته كدولة كبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد زوال الحقبة الهتلرية سعت المانيا إلى اعادة التشكل وفق قوانين ومصالح قوى ما بعد الحرب. المعاناة الاوروبية من الاحتلال النازي للقارة في غربها وشرقها، غذى دعوات نشطت، لا سيما في فرنسا، لتفتيت الكيان الالماني كونه يشكل خطراً حقيقياً على جيرانه ويهدد السلام الدولي. فالمانيا، كما كان يردد الجنرال شارل ديغول، خاضت ثلاث حروب ضد فرنسا ضمن فترة حياة انسان. والدعوة إلى تفتيت الكيان الالماني لم تكن تستند على أسس نظرية فقط، بل ان الحلفاء المنتصرين شرعوا في شكل او آخر في التمهيد له عبر تقسيم المانيا إلى مناطق احتلال تديرها روسياوفرنساوبريطانياوالولاياتالمتحدة. غير أن ما انقذ المانيا من سرطان التلاشي نشوب الحرب الكورية عام 1942 وانبعاث المعسكر الشيوعي والدخول في حرب باردة لم تنته الا مطلع العقد الماضي. خسرت فرنسا رهانها في اخفاء الكيان الالماني واستعاد القسم الغربي من المانيا سيادة اجتُزئ منها الشق الشرقي في ظل الهيمنة السوفياتية. وتم لالمانيا بقيادة مستشارها كونراد اديناور اعادة تسليح نفسها والانضمام إلى الحلف الاطلسي لتصبح عضواً كاملاً في المعسكر الغربي. اختارت المانيا الالتصاق بالولاياتالمتحدة لتتقي بمظلتها النووية شر الخطر الاحمر، وفي هذا الالتصاق استعادة لوزنها داخل القارة القديمة على قدم المساواة مع جيرانها، خصوصاً باريسولندن. غير أن مصالح الزواج الكاثوليكي بين برلينوواشنطن وهنت. اذ زال الاتحاد السوفياتي بامبراطوريته وانقشعت اخطاره، والتحم شقا المانيا الغربي والشرقي ولم يعد تقسيم البلاد امراً واقعاً. ولذا تعيد المانيا رسم واقعها الجيوستراتيجي وتخيُّل دور طموح يتناسب مع وزنها الاقتصادي والسياسي ويتجاوز عار النازية الموروث واللصيق بحاضرها. والامر بالنسبة الى فرنسا يتسق مع حال العلاقات التي وسمت البلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحال هذه العلاقات لم يتغير في المبدأ والمنهج عن تلك التي شيد أسسها شارل ديغول. فالضابط الذي لجأ إلى بريطانيا ودعا من هناك الفرنسيين الى المقاومة والالتحاق به من اجل التحرير، لم يقبل أن يكون دور بلاده ثانوياً ما أدى الى اصطدامه بحليفيه تشرشل وروزفلت. كان ديغول يريد أن يدخل باريس وفق روزنامته السياسية التي قد لا تتوافق مع تلك العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها. لم تكن فرنسا ابان تلك الحرب وبعدها بالوزن الذي يتيح لها تبوؤ مركز قرين لحلفائها. حتى المانيا المنهزمة استنكرت وجود ممثل فرنسي عند التوقيع على وثيقة الاستسلام في ايار مايو 1945. بيد أن حنكة ديغول وتمسكه بسياسة فرنسا العظمى مكّنته من تحقيق مكتسبات رمزية اعاد من خلالها تأكيد مكانة بلاده كدولة عظمى. فرنسا غُيّبت عن مؤتمر يالطا الولاياتالمتحدة، بريطانيا، الاتحاد السوفياتي بيد أنها حصلت على منطقة إحتلال داخل المانيا المنهزمة شأنها في ذلك شأن كبار الحلفاء، كما تم لها الحصول على حق النقض داخل مجلس الامن كدولة من الدول الخمس الكبرى. على أن ما كان منةًًَ صار واقعاً مكتسباً تسعى باريس إلى تدعيمه وتطويره. فرنسا المشاكسة وقفت حجر عثرة دائماً امام سياسة الولاياتالمتحدة التي تلامس مصالح فرنسا سواء على مستوى القارة او على المستوى الدولي. باريس كانت تدرك حاجتها إلى المظلة النووية للولايات المتحدة امام الاتحاد السوفياتي. الا أنها لم تستسغ الانصياع عسكرياً لمشيئة البنتاغون. وذهبت باريس في سعيها الاستقلالي حد الإنسحاب من مؤسسات الحلف الاطلسي عسكرياً من دون أن يصل ذلك حد القطيعة السياسية. ومهما تعددت اشكال الحكم في فرنسا ومهما تنوعت هويات الرؤساء في الاليزيه، فإن باريس كانت ترى في واشنطن شبهة هيمنة على قارة لطالما منّت باريس النفس بزعامتها ربما منذ نابليون. وهذا الحذر الفرنسي ازاء الحلف الما وراء الاطلسي يفسر التحفظ التقليدي لفرنسا ازاء بريطانيا التي اعتبرها ديغول حاملة طائرات اميركية في اوروبا ومنع دخولها إلى السوق الاوروبية المشتركة. وهو أمر لم تحظ لندن به إلا بعد انسحاب ديغول من الحياة السياسية. اوروبا القديمة التي يتذكرها وزير الدفاع الاميركي تهكماً، تركزت حول المحور الفرنسي - الالماني الذي بنى الوحدة الأوروبية مدماكاً فوق آخر. وفي تلميحات رامسفيلد ايحاء ب"أوروبا جديدة" تتجه شرقاً قد تكون بديلاً عن تلك التقليدية التي حكمت ادارة القارة منذ نصف قرن. ولعل في التضامن الفرنسي - الالماني صورة لشكل القلق المشترك من جنوح جمهوريي واشنطن نحو ابعاد لا يمكن تدجينها في الاندفاع الاميركي. فرنسا تعرف أن حرب واشنطن ضد العراق هي لعب في حقولها، فباريس أقرب في الجغرافيا إلى ساح الوغى واكثر التصاقاً بثقافة المنطقة بالواقع التاريخي والفعلي. وباريس تدرك أن الحرب الاميركية ضد العراق وما يستتبع ذلك مما هو مجهول، سيسقط الاوراق الاخيرة التي ما زالت تمسك بها في ادارة شؤون منطقة الشرق الاوسط. وفي رفض فرنسا للحرب بالطريقة الاميركية اتساق مع سعيها التاريخي إلى الحفاظ على مكانتها كدولة كبرى للحسم في شؤون الحرب كما السلم. لكن ما تملكه باريس من امكانات على الاقل على المستوى العسكري والاقتصادي، لا يتيح لها تغيير قواعد اللعبة الاميركية الا اذا نجحت في تصليب تحالفها مع المانيا واذا وفّقت في إدارة تفاهم دولي ضد الحرب واذا ما حظيت بمواقف عربية واضحة وصادقة من موضوع رفض هذه الحرب. على أن موقف برلين أشد حزماً من موقف باريس. المستشار الألماني غيرهارد شرودر أعلن في شكل واضح أن بلاده لن تؤيد أي قرار في مجلس الأمن لشن حرب على العراق. ومن المقرر أن تتولى ألمانيا، التي انضمت إلى عضوية مجلس الأمن كعضو غير دائم لا يتمتع بحق النقض الفيتو، رئاسة مداولاته الشهر المقبل. أما فرنسا التي صعّدت في الأسابيع الأخيرة من لهجتها إزاء احتمالات الحرب فأعلنت على لسان وزير خارجيتها دومينيك دوفيلبان ان باريس لا ترى مبرراً للحرب، فيما لم ينف احتمال ان تذهب بلاده حد استخدام حق الفيتو لاجهاض قرار أممي داعم لحرب ضد العراق. وربما يدفع الإجماع الذي حظي به الموقف الرسمي الفرنسي من قبل الطبقة السياسية الفرنسية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها في إدانة تصريحات رامسفيلد الرئيس جاك شيراك وطاقمه الى مزيد من التصلب لوضع العصي في دواليب واشنطن. على أي حال فإذا ما رأى وزير الدفاع الأميركي في موقف برلينوفرنسا تمثيلاً لأوروبا القديمة، فإن في أوروبا من يرى أن في القدم حكمة، لذا فإن حظوظ باريسوبرلين في تعديل وجهة السير الاميركية ازاء العراق ليست ضعيفة. فالولاياتالمتحدة التي تلوّح بالحرب وحيدة ومن دون قرار أممي لا تستطيع وحدها وبالطاقم الجمهوري الحالي على رأسها تحقيق انتصار في العراق من دون دعم سياسي وديبلوماسي على الاقل من عواصم القرار في العالم. فما انجزته عسكرتاريا واشنطن في افغانستان يعتريه شك ووهن على رغم أن 11 ايلول سبتمبر زوّد واشنطن وآلتها العسكرية بدعم جامع قد يكون الأخير من شرق البسيطة إلى غربها. * كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن.