«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلف الاطلسي "يخترع" الاعداء وأميركا وأوروبا نحو "الطلاق السعيد"!
نشر في الحياة يوم 03 - 06 - 2002

هل يكن القرن الحادي والعشرون قرن المواجهة بين قطبي الحضارة الغربية: اميركا واوروبا؟
هذا السؤال رافق الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش كظله خلال جولته الاوروبية، الى درجة ان المحللين الغربيين تساءلوا عما اذا كانت هذه الجولة هي الاخيرة "قبل إعلان الفراق الكبير بين هذين الحليفين التاريخيين".
لكن لماذا؟ ماذا جرى ويجري بين أميركا وأوروبا؟
لو ان زائرين من الفضاء الخارجي هبطوا فوق كوكب الارض هذه الايام واستمعوا الى الحملات المتبادلة بين ضفتي الاطلسي، لظنوا أن الولايات المتحدة وأوروبا في ذروة حرب باردة حقيقية بينهما.
فمن دومينيك دو فيلبان وزير خارجية فرنسا وجورج روبرتسون الامين العام لحلف الاطلسي الى خافيير سولانا مسؤول السياسة الخارجية الاوروبية، كان ثمة رسالة قوية موجهة الى الاميركيين: لسنا أجراماً تدور في فلككم، ولستم من يحق له ان يقرر وحده "محاور الشر" أو الخير في العالم.
ومن بوش الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وصولا الى "الحمامة" كولن باول، كان ثمة رد واحد على هذه الرسالة: انكم تحرثون في البحر. أميركا هي الزعيمة، فحذار التجرؤ عليها أو التمرد على قراراتها.
وهكذا، وبعد أقل من تسعة أشهر على احداث 11 أيلول سبتمبر التي أوحت للكثيرين ان التحالف الاوروبي - الاميركي عاد الى سابق عنفوانه ابان الحرب الباردة بفضل العدو الجديد الارهاب العالمي، كان الشرخ في التحالف الاطلسي يطفو على السطح وبكثير من الضجيج والانفعالات.
وهكذا أيضا، تحّول السؤال حول ماذا يجري بين الحليفين العملاقين بسرعة البرق الى سؤال آخر اكثر عمقاً وتعقيداً: هل هذه بداية الطلاق الكبير للزواج الاشهر في التاريخ الحديث؟
سنأتي الى هذا السؤال لاحقاً. لكن قبل ذلك اطلالة اولاً على الاسباب الحقيقية التي تقف وراء الانفجار الجديد للخلافات بين القارتين الشقيقتين العتيقة والجديدة.
يقول الخبير الدولي اريك شو ان التفكك في عرى التحالف الاطلسي، بدأ منذ اللحظات الاولى لنهاية الحرب الباردة في العام 1989. والاسباب برأيه عديدة ومتنوعة، لكن معظمها يتعلق بالرغبة الاوروبية في تحقيق الاستقلال، او على الاقل بنيل "الاحترام" من جانب "الاخ الاكبر" الاميركي في اطار مشاركة تعددية ما.
فأوروبا التي بدأت تشعر بقوتها الاقتصادية، بعدما باتت حصتها من الاقتصاد العالمي تساوي الحصة الاميركية نحو 22 في المئة، باتت تشعر بأن مصالحها لا تتطابق بالضرورة مع المصالح الاميركية كما كان الامر بعيد الحرب العالمية الثانية.
وهي، في الوقت ذاته، مقتنعة بأن الولايات المتحدة لن تسمح لها بتحقيق سياسة خارجية وأمنية خاصة بها، لأن ذلك سيؤدي الى بروز منافس قوي لواشنطن على الزعامتين القارية والعالمية.
وأخيراً، يعتقد الاتحاد الاوروبي بأن واشنطن تقوده من أذنه نحو سياسات تخدم الاهداف القومية الاميركية في الدرجة الاولى، من دون الالتفات الى الاهداف الاوروبية.
وفي المقابل، ترى الولايات المتحدة أنه ليس عليها القلق كثيراً من الاعتراضات او الممانعات الاوروبية على زعامتها لسببين:
الاول، ان الاوروبيين مفككون على رغم الاتحاد الذي يربط بينهم واليورو العملة الاوروبية التي تجمع اقتصاداتهم. وهذا ما حدا بهنري كيسنجر الى السخرية منهم قائلا: "اذا أردت ان أفاوض اوروبا، بمن يمكن ان اتصل هاتفيا؟".
أما السبب الثاني، فهو ان واشنطن واثقة من ان انسحابها من المسرح الاوروبي، سيؤدي الى تقويض الكيان الاوروبي نفسه.
ويقول هنا المسؤول الاميركي السابق جيمس دوبينز: "من دون صمغ القيادة الاميركية، سيعود الاوروبيون الغربيون الى عاداتهم القديمة، أي الى الروح القومية وسباق التسلح، وممارسة لعبة الجيوسياسة" القديمة، والتغيير الدوري للتحالفات.
لا بل لا يستبعد دوبينز ايضاً ان يؤدي الانسحاب الاميركي من القارة العجوز الى تجدد "الصراعات التاريخية" مثل الحربين العالميتين الاولى والثانية.
وبالمثل، كان الرئيس الاميركي بوش يؤكد انه "منذ الاربعينات قادت الولايات المتحدة تحالفاً منع العودة الى التنافسات المحلية في اوروبا".
هذه الاجتهادات المتضاربة بين الحليفين الاطلسيين، تسفر الآن عن تضارب الاهداف في كل شيء تقريبا: في السياسات الخارجية المتعلقة بالشرق الاوسط والصين وروسيا وآسيا وحتى اميركا اللاتينية. وفي الاقتصاد حيث تطرح اوروبا رأسمالية "أكثر انسانية" من "الليبيرالية الاميركية المتوحشة"، في مسائل البيئة والمناخ، وحتى في الشؤون المتعلقة بقواعد السلوك القانوني والاجتماعي مثل حيازة السلاح وعقوبة الاعدام وغيرها.
بيد ان الخلاف الحقيقي والاكبر يكمن في مكان آخر: الموقف من مسألة الدولة - الأمة ودورها في السياسة العالمية.
يقول جيمس سيزر، أستاذ علم السياسة في جامعة فرجينيا، أنه لفترة عقود خلت، كان من المعترف به ان اللاعب الرئيس في الشؤون العالمية هو الدولة - الأمة، تساندها منظمات دولية وبعض التحالفات شبه الدائمة.
بيد أن هذا الرأي لم يعد عملة رائجة الآن في أوروبا. إذ خلال السنوات القليلة الماضية، دشّن الاتحاد الاوروبي عملية تفكيك الدولة - الأمة ونزع الطابع القومي عن سياسات بلدانه.
وهذا كان بمثابة الانقلاب الاكبر في العصر الحديث. ذلك أن اوروبا كانت المهد الذي ولدت فيه الدولة القومية في الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، ومن ثم انتقلت منها لتنتشر في كل أنحاء العالم، سواء بحكم التقليد أم بقوة الاستعمار. وبالتالي، فإن تخلي أوروبا عن الدولة القومية، يشبه تنكر الأم لوليدها.
بيد ان المضاعفات بالطبع لا تقتصر فقط على العلائق العاطفية بين المخلوقات التاريخية، بل هي تطول أيضاً السياسات والتوجهات. وهكذا فإن الاتحاد الاوروبي بدأ يسعى لإقامة نظام عالمي جديد يتخطى مفهوم الدولة - الأمة، ويستند الى نظام أمني عالمي جديد تحرسه أمم متحدة قديمة او جديدة لا فرق، وتسوسه محاكم عدل دولية في القانون حكومة عالمية في السياسة.
وبالطبع أيضاً، كان من المحتم أن يصطدم هذا التوجه حرفاً بحرف مع التوجه الاميركي، الذي ما زال يعتبر الدولة القومية أداة ناجحة، ليس فقط في الداخل الاميركي بل أيضاً لتثبيت الزعامة في العالم.
هذا الطلاق الكامل في المفاهيم والاستراتيجيات العامة بين ضفتي الاطلسي، هو الآن الجذر الحقيقي والأساسي لكل الخلافات الاخرى التي تنبت بسرعة الفطر بين الحليفين الغربيين التاريخيين. وهو خلاف لا مجال للحلول الوسط فيه. لا بل يبدو ان لا مجال أيضا لأية حلول ما على الاطلاق.
فأوروبا باتت تعتبر الدولة - الأمة قيداً على تبلورها كقوة عالمية جديدة، وأميركا ترى اليها بصفتها الضمانة لاستمرارها كقوة عالمية وحيدة. اوروبا تريد عولمة على طريقتها الاوروبية الخاصة، واميركا تناضل للحفاظ على عولمة لا تنفي هي نفسها انها أمركة فاقعة وواضحة.
فاذا كانت الفجوة بين قطبي الحضارة الغربية على هذا النحو من التعقيد والاتساع، فإلى أين من هنا؟
هنا يطرح على بساط البحث مصير أهم وأكبر حلف عسكري - حضاري في تاريخ البشرية: حلف الاطلسي، الذي كان الركيزة المؤسساتية الاولى للتحالف الغربي طيلة أكثر من نصف قرن.
ويرى بنيامين شفارز، الكاتب في "اتلانتيك مانثلي" وكريستوفر لاين، الباحث في مركز الدراسات الدولي الاميركي، ان ثمة سؤالين أساسيين هنا: الاول، لماذا حلف الاطلسي ما زال على الحياة. والثاني الذي ينبثق لا محالة من الاول، لماذا صّناع القرار الاميركيون ما زالوا يعتبرون العلاقات الاميركية مع اوروبا حيوية، على رغم زوال الاتحاد السوفياتي وامتلاك الاوروبيين الموارد التي تمكنهم من تحقيق أمنهم الخاص؟
ويجيب الباحثان على السؤالين بالقول: "مع انهيار حلف وارسو، بدا ان كلا من حلف الاطلسي والزعامة الاميركية قد استنفدتا فائدتيهما. ومع ذلك، وبتحفيز من واشنطن، توسّع الحلف جغرافيا مضيفا اليه بولندا والمجر وجمهورية التشيك وأعيد تعريف مهمته الاستراتيجية. وحلف الاطلسي "الجديد" جرّب في كوسوفو. لكن على رغم النزعة الاحتفالية التي رافقت الانتصار على الصرب، آن الاوان بالنسبة الى الاميركيين كي يتساءلوا اذا كان استمرار دورهم العسكري في أوروبا ضروري او مبرر".
هل هذا التقويم في محله؟
الواقع انه في سنوات الحرب الباردة الاولى، تسّلمت الولايات المتحدة، من خلال دورها المهيمن على حلف الاطلسي، مسؤولية الدفاع عن اوروبا الغربية ضد الاتحاد السوفياتي لأن أوروبا كانت بوضوح غير قادرة على الدفاع عن نفسها.
لكن، وفي أواسط الستينات، حقق الاوروبيون نهضة اقتصادية قوية، فيما بات هدف الاتحاد السوفياتي في أوروبا الحفاظ على الامر الواقع الذي برز بعد حرب 1945 بدلاً من العمل على تغييره. وقد اعترف حتى فرد آيكل، مسؤول البنتاغون في عهد ريغان، الذي يعتبر من "الصقور" المتطرفين، أن أي احتمال بأن يشن الاتحاد السوفياتي هجوماً ضد أوروبا الغربية تبدد تماماً في نهاية الخمسينات. إذن، لماذا واصلت الولايات المتحدة استراتيجيتها بعد وقت طويل من اتضاح الحقيقة أن أوروبا الغربية قادرة على الدفاع عن نفسها وانها غير عرضة للتهديد؟ ولماذا تواصل الولايات المتحدة الاصرار على ان حلف الاطلسي الذي تقوده هو مؤسسة لا غنى عنها لأي هندسة أمنية اوروبية، معرّضة بذلك للخطر، وبشكل منهجي، المشاريع التي تعطي اوروبا القدرة على الدفاع عن نفسها؟
احتواء العدو
على رغم ان استمرارية الاهداف الاميركية الاساسية في اوروبا كانت تغطى بفكرة استيعاب العدو الشيوعي ابان الحرب الباردة، الا أن الدوافع الحقيقية كانت تشمل أيضاً استيعاب الحلفاء. فقيامها بحماية الامن الالماني، وبدمج سياساتها الخارجية والعسكرية في مؤسسات التحالف الاطلسي الذي تسيطر عليه، احتوت الولايات المتحدة عدوها السابق، ومنعت "شركائها" من الانطلاق في سياسات خارجية وامنية مستقلة. وهذا ادى الى استقرار العلاقات بين الحلفاء في اوروبا الغربية، لأنه عبر السيطرة على ألمانيا، ضمنت الولايات المتحدة لجيران برلين بأنها لن تكون عرضة للتهديد بسبب تجدد صعود القوة الالمانية وهو صعود كان ضرورياً لاحتواء الاتحاد السوفياتي، ولضمان ازدهار اوروبا الغربية والاقتصاد العالمي. وهكذا فان رسن القيادة الامنية الاميركية نجح في السيطرة على كلاب الحرب، من خلال حماية دول اوروبا الغربية من نفسها.
بالنسبة الى صناع القرار الاميركيين، "القيادة" الاميركية عبر حلف الاطلسي التي تخفف من المخاوف الامنية للاوروبيين ما تزال حيوية على رغم زوال الاتحاد السوفياتي. فبعد كل شيء، مسودة البنتاغون للعام 1992 جادلت بأنه يتعين على الولايات المتحدة ان تواصل "ثني الامم الصناعية المتقدمة من تحدي قيادتها، او حتى التطلع الى دور اقليمي او عالمي اكبر".
ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن تعمل واشنطن بحزم كي تبقي الدول الكبرى السابقة في أوروبا الغربية، وكذلك اليابان، داخل قيود النظام الذي خلقته هي بعيد الحرب، من خلال تقديم ما وصف بأنه "الاشراف من قبل البالغين". وقد تعّين عليها عمليا حماية مصالح كل الدول الكبرى المحتملة بحيث لا تحتاج أي من هذه الاخيرة الى القدرات لحماية نفسها. أي لكي لا تحتاج لان تعمل كدول كبرى. ولا عجب تبعا لذلك ان تكون الولايات المتحدة مضطرة لان تنفق على "أمنها القومي" أكثر من كل دول العالم مجتمعة. ان مجرد وجود لاعبين مستقلين حقاً، أمر لا يمكن تحّمله لأنه سيتحدى الهيمنة الاميركية التي تقول واشنطن انها المفتاح لنظام عالمي مزدهر ومستقر.
وهكذا، وفي العام 1990، أعلن مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون الاوروبية جيمس دوبينز امام الكونغرس: "ان الخطر هو انه من دون "صمغ" القيادة الاميركية في حلف الاطلسي، فإن الاوروبيين الغربيين سيعودون الى عاداتهم القديمة، أي بعث الروح القومية في قواتهم المسلحة، وممارسة "لعبة الجيوسياسة القديمة"، والتغيير الدوري للتحالفات.
ووفقا لدوبينز، من دون الولايات المتحدة بوصفها عامل الاستقرار فإن التنافس بين دول أوروبا الغربية قد ينسف البنى السياسية والاقتصادية كتلك الموجودة في الاتحاد الاوروبي، ويمكن ان يؤدي ايضاً الى استئناف "الصراعات التاريخية" مثل الحربين العالميتين.
وبالمثل، اكد الرئيس السابق كلينتون انه منذ الاربعينات قادت الولايات المتحدة تحالفاً منع "العودة الى التنافسات المحلية" في اوروبا الغربية.
الهيمنة الاميركية
النقطة الحقيقية هنا، هي ان المنطق وراء الاستراتيجية العالمية الاميركية، هو الذي يملي بالفعل استمرار الهيمنة الاميركية في اوروبا عبر حلف الاطلسي وتوّسع هذا الحلف شرقاً لمواجهة المتغيرات الجيوسياسية الجديدة. وبما ان هذا المنطق يمنع "شركاء" اميركا الاوروبيين الغربيين من تحمل مسؤولية الحفاظ على الاستقرار في منطقتهم، فيجب ان تتضاعف المسؤوليات الاميركية. وكما قال السيناتور ريتشارد لوغار: "الميكانيزم الوحيد القادر على تحقيق هذه المهمة هو حلف الاطسي، لا الاتحاد الاوروبي ولا غيره".
ويشدد لوغار ايضاً على ان الحلف الاطلسي بقيادة اميركا يجب أن يتوسع "الى خارج" المنطقة الاوروبية، لأنه لن يكون هناك أمن دائم في المركز من دون تحقيق الأمن في الاطراف. وهذا المنطق يعني ببساطة ان المسؤوليات الامنية التي ستقع على عاتق الولايات المتحدة ستكون بلا نهاية.
ان صناع السياسة الاميركية يعتقدون بأن مواصلة الهيمنة الاميركية على أوروبا والعالم ستحّسن الامن الاميركي وستحافظ على الاستقرار في القارة. بيد ان هذا الاعتقاد يستند الى قراءة مضللة لدروس التاريخ والعلاقات الدولية، كما يشدد الباحثان شفارز ولاين.
فالواقع ان السياسة الاميركية في أوروبا لا تهدف الى منع ظهور قوى مهيمنة اخرى، بل الى الحفاظ على التفوق الاميركي.
قبل 49 سنة، عرّف المعلق الفرنسي سيرفان شرايبر الدور الاوروبي لاميركا كالآتي: "حين تتحمل أمة مسؤولية الامن العسكري والاستقرار الاقتصادي في منطقة جغرافية، فإن هذه الامة سواء أرادت ذلك ام لا ستكون على رأس امبراطورية". وبعد اكثر من 50 عاماً على تأسيس حلف الاطلسي، بدأت المطالبات بإعادة النظر في السياسة الامبراطورية الاميركية في اوروبا.
وهذه المطالبات قد تسفر في النهاية عن بداية نهاية حلف شمال الاطلسي. وهو أمر لن تفعل نتائج جولة بوش الاخيرة سوى التعجيل به، خصوصاً بعد إبرام "التحالف الاستراتيجي" الجديد بين اميركا وروسيا، وبعد توقيع اتفاق الشراكة والتشاور بين هذه الاخيرة وحلف الاطلسي بحفز من واشنطن.
فهذان التطوران، وعلى رغم الاحتفالات الصاخبة التي رافقتهما بصفتهما المسمار الاخير في نعش الحرب الباردة، طرحا على بساط البحث كل مبررات وجود حلف الاطلسي الذي كان الهدف من تأسيسه أصلا "طرد روسيا الى الخارج الاوروبي، ودفع اميركا الى الداخل، وابقاء ألمانيا تحت".
والآن، ومع وجود روسيا "في الداخل" بعد توقيع إتفاق ريكافيك، لم يعد للحلف من معنى امني، لا في نظر دول مثل جمهوريات البلطيق ورومانيا وبلغاريا وغيرها من دول شرق اوروبا ووسطها التي كانت تريد من انضمامها اليه بناء سور بينها وبين روسيا، ولا ايضا في نظر اوروبا الغربية التي عادت الشكوك تساورها حول يالطا اميركية - روسية جديدة للسيطرة على اوروبا وان كانت يالطا الجديدة هذه لها رأس واحد هو اميركا، فيما روسيا مجرد جرم نووي يدور في فلكها.
وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية هي، الخلافات حول دور حلف الاطلسي تتزامن مع خلافات أخرى لا تقل حدة حول مسألة الحرب ضد الارهاب. ففي حين تضع الولايات المتحدة هذه الحرب في مصاف الحروب العالمية الاخرى ضد "قوى الشر" النازية او الفاشية او الشيوعية كما شدد بوش في جولته الاوروبية، تعتبر اوروبا أن الارهاب او أسامة بن لادن لا يستأهلان كل صليل الاسلحة هذا، وان إثارة الامر على هذا النحو هدفها فقط اعادة رسم خرائط العالم وفق المصالح القومية الاميركية الضيقة.
وهذا ما يغلق الدائرة بين الحليفين الكبيرين، ويجعل من احتمال استمرار حلف الاطلسي على قيد الحياة أمراً مشكوكاً به. لا بل اكثر: بعض المحللين الاميركيين والاوروبيين يعد العدة من الآن لاعلان انتحار الحلف ووفاته.
زوال الحلف
بالطبع، ان احتمال غياب حلف الاطلسي عن الساحة العالمية لن يكون حدثا عاديا. فكما ان انهيار حلف وارسو دشّن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في شرق أوروبا، كذلك فان انحدار حلف الاطلسي قد يدشن مرحلة جديدة في غرب اوروبا.
قد لا يحدث "الطلاق السعيد" بين ليلة وضحاها، لكنه سيحدث. وقد لا تتمكن اوروبا أبداً من مقارعة الولايات المتحدة في تفوقها العسكري التكنولوجي الذي سبقت فيه كل العالم بسنوات عدة أو في موازناتها الحربية الهائلة التي تبلغ اضعاف أضعاف موازنات كل الدول الاوروبية مجتمعة. الا انها أوروبا قادرة على الاقل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في ما يتعلق بالدفاع عن النفس.
وهذا في حد ذاته سيكون بمثابة زلزال قد يغّير الكثير من معالم النظام العالمي الراهن، وربما يحّول القرن الحادي والعشرين من قرن أميركي او أوروبي او أميركي - أوروبي، الى قرن صيني - ياباني وهندي. ومن يدري ربما إسلامي أيضاً.
وهذا بالتحديد ما كان يخشاه صموئيل هانتنغتون: أي انتهاء عصر الهيمنة الغربية على العالم. ولذا كان ولا يزال يحث اوروبا وأميركا على اعادة انتاج تحالفهما لشن "حروب حضارات" بهدف حفظ سيطرة الحضارة الغربية على الشعوب والثقافات الاخرى.
لكن الارجح ان مناشادات هانتنغتون جاءت متأخرة. متأخرة كثيراً ربما


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.