بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يكن من السهل على الدولة الروسية المنبعثة من رماد الحزب الحاكم وبطش العسكر ووقع نعال رجال الاستخبارات، وعلى مدى عقود طويلة، ان تتجلبب بالسرعة المطلوبة بثياب الديموقراطيات الحديثة الحقيقية. ولم تكن روسيا قد وصلت بعد الى مرحلة النضوج. كانت هذه الديموقراطية الفتية قد بدأت تنفض الغبار عن مؤسساتها الطاعنة في ترويض الانسان، فغيرت وجهها القديم وارتدت، عن خطأ، قناع القوة بشكل آخر، وهي لم تنزعه حتى الساعة. فقد وضع بوريس يلتسن بلاده على سكة اصلاحات جريئة لكن مرتجلة، قامت بتطبيقها حفنة من الهواة المنتمين حديثاً الى قافلة الليبراليين من كل الأنواع، على بلد مرهق لم يتمكن بعد من التقاط أنفاسه. كان البرلمان، المؤسسة الديموقراطية الحقيقية الوحيدة ضمن تلك الفوضى العارمة، أصبح المتكلم باسم كل المشتكين والمطالبين بحقوقهم الأساسية من المواطنين الضائعين في هذا التغيير المفاجئ. فحدث ما حدث في ذلك اليوم من تشرين الأول أكتوبر 1993، أمام أعين الروس، الذين رأوا رئيسهم يصفي حساباته مع ممثلي الشعب بمدافع الدبابات، حيث تواجهت مؤسستان "ديموقراطيتان" لم تجدا سوى المدفع في مقابل البندقية لحل مشاكلهما المتفاقمة. فاستسلم النواب، وتمكن يلتسن من اعلان انتصاره على مجموعة "الشيوعيين الفاشيين"، بعد سقوط 150 قتيلاً حسب الاعلان الرسمي، لكن العدد في الحقيقة هو اضعاف ذلك. وانقسم الحكم بين ديموقراطيين أذهلتهم الطريقة اليلتسنية، وتواقين للحكم يرجع بهم الحنين الى الحكم القديم، الشيوعي وحتى القيصري. أما وراء الكواليس، فكانت هناك معركة أخرى دائرة للسيطرة على البلاد وثرواتها. وهي معركة محورها المال. وهذا ما يفسر في الواقع عنف نهاية تلك المعركة. ذلك ان أولئك الذين خططوا بدقة، وبمساعدة السلطة السياسية، للاستيلاء ببساطة على إرث الحكم السوفياتي، كانوا مستعدين لكل شيء للحفاظ على مغانمهم. بعد عشر سنوات، تبدل كل شيء، لكن شيئاً لم يتغير في العمق. فالبرودة البوتينية حلّت مكان السخونة اليلتسنية. ذلك ان الرئيس الروسي الشاب، الذي اقترحته جماعة يلتسن، يختلف كلياً عن سَلَفه، على رغم ان الاثنين يؤكدان انتماءهما الى إرث القيصر بطرس الأكبر، الرجل الذي أجرى اصلاحات واسعة في روسيا، لكنه أيضاً ذلك القيصر الذي أرسى، بقبضة من حديد، أسس السلطة المركزية الكلية القوة. وفي هذه النقطة بالذات، بدا بوتين أكثر صدقية وواقعية، وأكثر فاعلية من سلفه. وهذا ما أظهرته الأحداث المتعاقبة منذ ذلك الوقت. هكذا جرى "حلّ" المشكلة الأساسية الأولى. وهكذا انصرف بوتين الى محاربة بارونات المناطق الروسية، ثم الأوليغارشيين الذين قادوه الى السلطة، والذين دعموا يلتسن دعماً مطلقاً قبله، وهذا ما سيأتي الكلام عنه لاحقاً. لكن روسيا، وعلى رغم سلطة مركزية قوية، واستخبارات في أوج تطورها، تبقى دولة تزدهر فيها المافيات، بين السياسة والجريمة التي تظل، لسوء الحظ، من دون عقاب، بينما تستمر، على قدم وساق، "تصفية" "قُطّاع الطرق" كما يسميهم الحكم المركزي الشيشان، في سلسلة من الرعب الدامي، لا قيمة للانسان لدى منفذيها، كما انها لم تعد تثير الاستهجان الشعبي، كما حصل في عملية تحرير الرهائن الشهيرة. في مقابل كل ذلك، يقف الغرب مكتوف الأيدي. فهو هنا يقبل من دون اعتراض. وهناك يهنئ، وهناك يغض الطرف، وفي ناحية أخرى يعاتب بتحبب. لكن من دون مواقف. من بيل كلينتون الى جورج بوش، من فرنسوا ميتران الى جاك شيراك، ومن هلموت كول الى غيرهارد شرودر، لا شيء في الأفق! "فالخصوصية الروسية" حق مكتسب للقياصرة الجدد. ذلك ان روسيا هي دولة كبرى، مثقلة بإرث تاريخي كبير، فيجب التسامح مع حكامها. ولأنها "تسير بجدية" نحو الديموقراطية، فإنهم يشيحون بنظرهم عنها عندما تتراجع في مجالات أخرى، لأن ذلك أسهل الأمور، أو لأنهم مقتنعون بأنهم عاجزون حيال ذلك، بينما تظهر الحقيقة ان بإمكانهم القيام بالكثير لوقف كل هذه التجاوزات. لكن روسيا "مفيدة" لأميركا، وضرورية لفرنسا، ولا غنى عنها بالنسبة الى توني بلير، وهي عضو في مجموعة الثماني. فهل يسمح، بسبب ذلك كله، لروسيا بوتين، بالقيام بكل ما تريده من دون رادع، بينما تشهر واشنطن سيفها في وجه كل من تخوله نفسه التصرف على هواه في خصوصيات دولته، ويتهم بتهم شتى ليس آخرها عدم احترام حقوق الانسان او الانتخابات التشريعية الأخيرة التي يؤكد روس كثر أنها لم تجرِ بطريقة ديموقراطية؟ "على الذين يعتبرون أنفسهم خاسرين أن يفكروا ملياً في أسباب تلك الخسارة. أود أن أوجه إليهم رسالة، وأؤكد لهم ان كل أفكارهم وقدراتهم ومهاراتهم في مختلف المجالات، والتي يقومون باقتراحها على إدارة الدولة، ويكون هدفها إيجاد حلول لمشاكل البلاد، سيؤخذ بها جدياً". هكذا توجه بوتين غداة الانتخابات التشريعية، الأولى منذ بدء ولايته، الى كبار الخاسرين في الانتخابات، أي القوى الديموقراطية ذات التوجهات الغربية، والتي يسمونها في موسكو "القوى الليبرالية". وهكذا، من خلال ربط مستقبل هؤلاء في السلطة بتقييمه الشخصي لهم، أعلن بوتين أمام عدد من أعضاء حكومته، أنه الحاكم بأمره في بلاد القياصرة. ذلك ان حزب سيد الكرملين، روسيا الموحدة، كان على قيد أنملة من الحصول على الأكثرية المطلقة من أعضاء الدوما، وهو أمر لم يحدث مطلقاً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وبذلك أصبح للحزب، بتعاونه مع حلفائه، الأكثرية الدستورية التي تخوله ان يحلم بإعادة انتخاب رئيسه بعد عام 2008، لأن اعادة انتخاب بوتين أصبحت من تحصيل الحاصل عام 2004. كما ان بوتين يفتح من خلال تصريحه هذا باباً ولو بلاغياً تجاه هذه الأوساط التي شكلت، منذ بداية رئاسته، دعامة أساسية لحكمه. ذلك ان الليبراليين، وعلى رأسهم آناتولي تشيبايس، صانع التخصيصات الروسية، كانوا قد قاموا بإملاء طريقة اجراء اصلاحات اقتصادية مهمة على رئيس الدولة، كان أكبرها تأثيراً ضريبة الدخل الموحدة البالغة 13 في المئة. وهي ضريبة أثارت الدهشة في أوروبا، ورأت النور بعد جهود قامت به مجموعة "يوكوس" البترولية، الشديدة التأثير على النواب الروس، مثلها مثل بنى "أوليغارشية" أخرى تشكلت بعد تخصيصات التسعينات. لكن "يوكوس" هي اليوم تحت مجهر القضاء الروسي، كما ان رئيسها السابق ميخائيل خودوركوفسكي في السجن. وتقوم بعض القوى المنتصرة في الانتخابات الأخيرة كالتجمع الوطني القومي رودينا الوطن الذي يحتضنه الكرملين، بالمطالبة بإجراءات قاسية تجاه الجماعات الأوليغارشية. من هذا المنطلق يُسجل الفشل الذريع في الانتخابات الأخيرة للحزبين الروسيين الليبراليين: "تجمع قوى اليمين" الذي يرأسه تشوبايس، وحزب خبير الاقتصاد المعروف غريغوري يافلينسكي، يابلوكو، والممولين كلياً من قبل رؤوس الأموال الكبرى الروسية وعلى رأسها يوكوس، انعطافاً كبيراً في المناخ السياسي الروسي. ذلك ان المراقبين الأكثر تشاؤماً وحدهم كانوا يرون ان هذه الأحزاب، التي كانت المحاور الأساسي المفضل للغرب في التسعينات، لن تتمكن من تخطي عتبة 5 في المئة من الأصوات الضرورية لإيصالها الى الدوما. لم يكن ضعف شعبية القوى الليبرالية الروسية مطلقاً موضع شك، ذلك ان الروس كانوا دائماً يحمّلونهما مسؤولية الفقر العام المرتبط بإصلاحات الفترة اليلتسنية، ومسؤولية الاثراء السريع الفاحش لقلة من الرجال الذين كانوا يحظون بارتباطات سياسية قوية، على رغم تكاثر أفراد الطبقة الوسطى المرتبط بعودة النمو. وكان من الممكن ان يقوم الكرملين، الذي يهمه الابقاء على توازن سياسي معين، بإعطاء دفع بسيط من خلال "الموارد الإدارية" مُفبركة الأصوات، كي تتمكن هذه القوى من البقاء، وذلك بهدف اظهار الوجه الأوروبي لروسيا. وهذا ما حصل فعلاً في انتخابات عام 1999، حيث وصلت أصوات تجمع قوى اليمين الى 8 في المئة، وذلك "بدفع" مقصود من قبل حاسبي الأصوات المرتبطين بالكرملين. لكن الأمر لم يتكرر هذه السنة. وكما تقول المحللة السياسية ليليا شيفتسوفا، من مؤسسة "كارنغي": "لقد وصلت محاولات تدعيم البيروقراطية في عهد بوتين الى هدفها مع هذه الانتخابات. انها نهاية المرحلة اليلتسنية". وهكذا تكون الدعامة الأخرى لسلطة الرئيس بوتين، وهي الأكثر بوليسية، والتي يشدها الحنين الى الاتحاد السوفياتي السابق، والرافضة لانفتاح البلاد، والتي تغذيها أحلام بالثأر للبُنى القادمة، كالرئيس، من غياهب ال"ك. جي. بي."، قد أطبقت سيطرتها الكلية على الدولة بعد هذه الانتخابات. ويمكن تفسير خسارة الليبراليين، بعد 15 عاماً من الغلاسنوست والبيريسترويكا، بانقساماتهم في مواجهة سلطة تصرفت كالمحدلة في وسائل الاعلام والمحاكم. لكنها تفسر أيضاً بسبب التنازلات والتراجعات التي قاموا بها، والتي صفق لها الغرب، بدءاً بمعركة البرلمان في 1993، والتي وافق عليها علناً ايغور غايدار، رئيس الوزراء السابق، الى اطلاق العمليات العسكرية الكبرى في الشيشان خريف 1999، والتي وصفها تشوبايس بأنها بعث جديد للجيش الروسي، مروراً بتدجين محطات التلفزة الخاصة بين عامي 2001 - 2002، وبمشاركة فاعلة من الأوساط المذكورة، تطول اللائحة ولا تنتهي، وتصب كلها في خانة ارضاء الرئيس - القيصر. وهكذا يكون الحكم الرئاسي الروسي القوي، المرتكز على دستور اعتمد على عجل في خضم هدير المدافع عام 1993، والذي تدعمت قوته في الانتخابات الأخيرة، قد ساهم في هزيمة الليبراليين الروس. من ناحية أخرى، لم تعد الدوما، حيث كان من السهل جداً شراء الأصوات، ومنذ الانهيار الاقتصادي عام 1998 وحرب الشيشان الثانية، القلعة المنتظرة للتصدي لهذا الحكم المتعسكر. ذلك ان بلوغ أي هدف يمر بمكتب الرئيس وبرضاه. وهذا ما حصل فعلاً بعد الساعات المأسوية التي تلت عملية رهائن مسرح الدوبروفكا في تشرين الأول اكتوبر 2002، حيث قام غريغوري يافلنسكي بمساعٍ في الكرملين، دفعت الرئيس بوتين الى شكره على قدرته وهدوء أعصابه، وهذا يعني حماية علنية له. ويقال أيضاً ان رئيس حزب "الوطن" اضطر الى أخذ موافقة الرئيس في بداية عام 2003 قبل القبول بتمويل حملته الانتخابية من قبل شركة "يوكوس". من هنا، سيضطر ليبراليو تجمع أحزاب اليمين، وفي وجه القوة المطلقة التي أصبح يتمتع بها الرئيس الشاب، القادم ضابطاً من سراديب ال"ك. جي. بي." السابق، ان يضعوا استراتيجية جديدة للاستمرار. ويرى المحللون ان هذه الاستراتيجية قد ترتكز على حلف قيد الانشاء يجمع رجال "يوكوس"، ورجال تشوبايس - الذي يسيطر على تجارة الكهرباء - مع أوليغارشيين آخرين أمثال ميخائيل فريدمان، لصد مشروع البنى الأمنية المتفاقمة. وهي مواجهة قد تزعزع مكانة بوتين وحكمه. كما يرى آخرون ان من الممكن الابقاء على علاقة وطيدة مع الكرملين، ومحاولة التأثير على بوتين بالاستشارات الخارجية والمواضيع التي لا يبرع فيها، للوصول الى غاياتهم. كل ذلك، والغرب يتفرج، والولايات المتحدة تغض النظر عن كل التجاوزات التي تحصل في هذه الروسيا الغريبة التي لم تخرج بعد كلياً من أحلام الامبراطورية التوتاليتارية