غدت المخاوف من عودة روسيا الى اجواء العهد السوفياتي سياسياً، من خلال نظام سيطرة الحزب الواحد وتعاظم نفوذ الاجهزة الامنية، الهاجس الذي يشغل عقول مراقبي المشهد السياسي الروسي. وزاد حلول موعد الانتخابات الرئاسية في تعزيز هذه الشكوك، اذ غدت نتائجها معروفة سلفاً بعدما نجح الكرملين خلال الشهور الاخيرة في توجيه الضربات واحدة تلو أخرى ضد خصومه في معسكري اليمين واليسار على السواء، وتمكن من ازاحة بعضهم عن ساحة المواجهة السياسية، فيما تحول وجود آخرين الى "ديكور" ضروري فرضته قواعد اللعبة الديموقراطية. ومع ادلاء ملايين الروس بأصواتهم اليوم يكون الستار اسدل على الفصل الاخير من عملية اعادة بناء هياكل السلطة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، بعد سنوات من الصراع وتعدد مراكز النفوذ والازمات السياسية والاقتصادية المتعاقبة في ظل سيطرة شبه مطلقة ل"حيتان المال" الذين اقتسموا ثروات روسيا بعد انهيار الدولة العظمى وتفاخر بعضهم بالقدرة على تثبيت حكومات او خلعها اذا تعارضت مع مصالحهم او سعت الى الاقتراب من مناطق نفوذهم. والأكيد ان بروز نجم الرئيس فلاديمير بوتين الذي يدخل اليوم ولايته الرئاسية الثانية محاطاً بشعبية واسعة وصلاحيات لم يسبقه اليها الا الزعماء السوفيات يثير اسئلة عدة، خصوصاً ان الرجل دخل عالم السياسة من بوابة الاستخبارات عندما عينه سلفه بوريس يلتسن على رأس جهاز الاستخبارات السرية ثم رئيساً للوزراء قبل ان يسلمه نهائياً مفاتيح الكرملين في نهاية عام 1990 عندما تنازل عن السلطة وأعلنه خليفة قبل شهور من حلول موعد الانتخابات الرئاسية. ويعتبر عديدون ان بوتين "خان الامانة" عندما اختار نهجاً لم يتفق دائماً مع رغبات دوائر النفوذ التي قادته الى السلطة وتطلعاتها، وهو ما ظهر من خلال الحرب التي بدأت هادئة ثم تصاعدت وتيرتها على "حيتان المال" ورجالات الحرس القديم وأسفرت عن تهميش دورهم في شكل ملحوظ. ويشير خصوم بوتين الى ان الجولة الاولى التي خاضها الكرملين قبل اكثر من عامين وانتهت بانتصار حاسم على عملاقي المال بوريس بيريزوفسكي وفلاديمير غوسينسكي دفعهما الى البحث عن ملجأ خارج روسيا، فتحت شهيته لمواصلة تصفية نفوذ آخرين خصوصاً ان شعار "الحرب على الفساد" الذي رفعه بوتين لتبرير حملاته على نظام "الاوليغارشية" لاقى هوى في نفوس الروس الذين تشير تقديرات الى ان ثلثهم يعيش تحت خط الفقر. واذا كان الرئيس الروسي لم ينجح في اعادة الامن الى الروس، وهو الشعار الذي ركب موجته للوصول الى الكرملين في فترته الرئاسية الاولى، فان مكافحة المفسدين شكلت دائماً مطلباً شعبياً عريضاً، وفي مقابل اخفاقاته في الشيشان على رغم تمكنه من تمرير دستور جديد ينص على ان الجمهورية المتمردة جزء لا يتجزأ من روسيا الاتحادية وكذلك انتخاب رئيس شيشاني موال لموسكو، لكن الهجمات الشيشانية لم تتوقف ضد المواقع الروسية بل انتقلت الى عمق الاراضي الروسية من خلال موجة اعمال انتحارية روعت الروس وحولت حياتهم ذعراً دائماً، لجأ الكرملين الى التركيز على ملف محاربة الفساد، والاكيد ان الصدفة وحدها لم تلعب الدور الحاسم في توقيت اطلاق المرحلة الثانية من عملية تصفية نفوذ كبار رجال المال. اذ اختار الكرملين فترة التحضير لانتخابات البرلمان الروسي في تشرين الثاني نوفمبر الماضي لفتح النار على اغنى اغنياء روسيا ورئيس كبرى شركاتها النفطية "يوكوس" ميخائيل خودوركوفسكي الذي انتهى في السجن انتظاراً لحكم قضائي في تهم عدة بالاختلاس والتهرب من دفع الضرائب. واعتبر عديدون هذا التطور بمثابة انذار أخير لطواغيت المال في روسيا بعدم المس بهيبة الدولة والقبول بالقواعد الجديدة للعلاقة بين النخبة السياسية و"حيتان المال". واللافت ان ملاحقات نشاط شركة "يوكوس" وكبار مستثمريها أتى ثماراً سياسية لم تكن متوقعة. وبدلاً من انهيار أسواق المال ودخول البلاد في موجة جديدة من الاضطرابات الاقتصادية بحسب توقعات معارضي الكرملين فان أسهم بوتين ارتفعت في شكل غير مسبوق وبات زعيماً لا منازع له بعدما حقق حزب "روسيا الموحدة" الموالي للكرملين انتصاراً ساحقاً في انتخابات مجلس الدوما البرلمان، وسعى الرئيس الروسي الى توظيف "انتصاره" في اقصى درجة ممكنة فأجرى تعديلات في الديوان الرئاسي ابعد خلالها رموز العهد القديم عن مراكز القرار ثم حل الحكومة في شكل مفاجئ ومهد لانتخابات الرئاسة بتشكيل حكومة جديدة خلت للمرة الاولى من شخصيات موالية للحرس القديم. لكن معارضي الرئيس الروسي لم يتوقفوا عن اتهامه بأنه مارس تهديماً منظماً لمعايير الديموقراطية التي وضعها سلفه. واعتبر كثيرون ان بوتين استهلك شعار محاربة الفساد من اجل تعزيز سلطاته، والاكيد ان الكرملين نجح في توجيه ضربات قوية الى خصومه بمختلف تلاوينهم السياسية، اذ اسفرت الحملة الاعلامية التي سبقت انتخابات البرلمان عن تحويل الحزب الشيوعي الذي شكّل دائماً القوة الثانية، وأحياناً الاولى، في روسيا الى معارضة هامشية لم تحصل على اكثر من 13 في المئة من اصوات الناخبين، فيما اخفق ممثلو قوى اليمين في ايصال ممثلين عنهم الى البرلمان للمرة الاولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ويعتبر رموز المعارضة اليسارية ان بوتين "سرق شعاراتهم" التي تقوم على المطالبة باعادة هيبة الدولة وتعزيز نفوذها وسيطرتها على المقدرات العامة اضافة الى عودة روسيا الى لعب دور اساسي كقوة عظمى على المسرح الدولي. وأشار ميخائيل خاريتونوف الذي رشحه الحزب الشيوعي لمواجهة بوتين في انتخابات الرئاسة الى ان "الانجازات التي يفخر الكرملين بتحقيقها" هي في الواقع شعارات يراد منها التمويه على حقيقة ان روسيا ما زالت لا تستطيع تلبية شروط امنها الغذائي، اذ ان القوانين الزراعية التي سنت في "مرحلة الفوضى" تحرمها من "القدرة على اطعام نفسها"، اضافة الى ان الشعب الروسي يواصل على نحو كارثي التناقص بمعدل مليون نسمة سنوياً بسبب الظروف المعيشية القاسية وتفشي الامراض وضعف نسبة الولادات. كما ان حملات الكرملين ضد "حيتان المال" لم تقلص معدل تهريب الرساميل من روسيا الذي يصل الى نحو 25 بليون دولار سنوياً، ما يعني ان ظروف النهوض بالاوضاع الاقتصادية لا تزال غير مهيئة في روسيا على رغم الضجة الكبرى المثارة حول الاصلاحات الاقتصادية. اما قوى اليمين فدقت ناقوس الخطر واعتبرت سلطة بوتين تهديداً جدياً لحقوق الانسان والمجتمع المدني في روسيا. وفي حديث الى "الحياة" اثناء التحضير للانتخابات اعتبرت مرشحة اليمين ايرينا خاكامادا ان ولاية بوتين الثانية ستشهد توزيعاً جديداً للخريطة السياسية، يتحول فيها التيار الموالي للكرملين الى قوة لا منافس لها تتحكم بالسلطات التشريعية والتنفيذية. ولم تستبعد ان "يصنع" الكرملين "معارضة تتناسب مع اهوائه" من خلال الابقاء على تيار يساري ديموقراطي وآخر يميني، بهدف تجميل الصورة الديموقراطية للسلطة. ولفتت خاكامادا الى ان ازمة الديموقراطية ستشكل التحدي الاساس امام بوتين خلال فترته الرئاسية الثانية. واللافت ان معارضاً آخر هو سيرغي غلازيف الذي رشح نفسه عن التيار القومي المعتدل اعتبر ان بوتين استنفد جميع فرصه لوضع حلول لمشكلات روسيا المتعددة من دون ان يقدم انجازات تذكر غير اعادة بناء هرم السلطة في شكل يستبدل نفوذه بطواغيت المال "طواغيت السياسة" من افراد حاشيته والمقربين اليه خصوصاً في الاجهزة الامنية. لكن الضجة الكبرى التي اثارتها المعارضة حول ملفات الديموقراطية جوبهت بحدة من جانب الموالين للكرملين، الذين اعتبروا ان اعادة بناء السلطات في هذا الشكل وفّر فرصة للتخلص من ترهل الادارة السابقة وحال الفوضى والتسيب التي كان يسيطر عليها ما فتح الباب لتحقيق قفزات عدة في مجالات اقتصادية ومعيشية. ويورد اصحاب هذا الرأي أرقاماً حول ارتفاع معدل دخل الفرد خلال فترة حكم بوتين وتحسن العديد من النواحي المعيشية. ويشير الاكاديمي نوادر سيمونيا الى ان "احدى اهم فضائل عهد بوتين تمثلت في وقف الانزلاق الاقتصادي في شكل نهائي" وتحقيق خطوات على طريق اعادة سيطرة الدولة على الثروات العامة، ويعتبر سيمونيا ان "بكاء المعارضين على اطلال الديموقراطية" هي خديعة كبرى، مشيراً الى ان "الساذج فقط او صاحب المصلحة يمكنه الادعاء بأن التسليم بسلطة طواغيت المال نوع من انواع الديموقراطية". ويضيف ان سيطرة الاوليغارشية على الاقتصاد لا يمكن ابداً ان تجتمع مع معايير المجتمع المدني. ويعتبر الاكاديمي الروسي ان على روسيا ان تشعر بالارتياح لتخلصها الى الابد من الفوضى التي غلفت "ديموقراطية يلتسن"، معتبراً ان حكم الاخير "كان تسلطياً لكن تسلطه في الواقع كان فاسداً مترهلاً ومفسداً للجميع". واذا كانت روسيا تدخل اليوم مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر وسط هذا الكم الهائل من التعارض بين شعارات السلطة والمعارضة، فان من الواضح ان الرئيس الروسي الذي غدا اقوى وأشد اصراراً على مواصلة برامجه الاصلاحية خلال فترة رئاسية قد تكون الاخيرة لم يعد يلتفت كثيراً الى انتقادات خصومه في مجال الديموقراطية وحقوق الانسان، وهو ما بدا بوضوح عندما رد في احد المؤتمرات الصحافية اخيراً على سؤال حول غياب الديموقراطية بسؤال مقابل: "وهل كانت موجودة؟!".