يتحدر مسعود كابوك وجوخان ايلالتونتاس، الشابان اللذان نفذا أخيراً عمليات انتحارية ضد كنيسين يهوديين في اسطنبول، من مدينة بينغول الجبلية شرق تركيا. وإلى المدينة نفسها ينتمي آزاد كينجي وهو أحد منفذي التفجيرات ضد مصالح بريطانية في اسطنبول. ولا يتجاوز عمر أي من الشبان الثلاثة أواسط العشرينات، وعمدت عائلاتهم إلى دفن ما تبقى من جثثهم بعد أن تناثرت أشلاء وسط دمار الانفجارات. دفنتهم عائلات وسط صمت وتساؤلات عن أهدافهم وكيف استطاعوا تنفيذ عملياتهم. تملك عائلة ايلالتونتاس مقهى انترنت في بينغول، وفيها أمضى الشبان الثلاثة، قبل أن يفجروا أنفسهم ويقتلوا ويجرحوا العشرات، معظم أوقاتهم، بحسب ما قال صديق لهم لإحدى الصحف التركية. وتعكف الشرطة التركية على تفحص رسائل كابوك وايلالتونتاس وكينجي الالكترونية وصفحات الانترنت التي كانوا يتابعونها ومعلومات أخرى كان مقهى الانترنت ساحة لها. وايلالتونتاس نفسه كان مرتبطاً بفتاة وعلى وشك الزواج منها، وهذه الفتاة تعرف عليها عبر الانترنت، بحسب ما تروي والدته سكينة. ومن خلال متابعة سيرة ايلالتونتاس التي ملأت صفحات الصحف التركية والعالمية منذ تنفيذه عمليته الانتحارية يمكن تتبع يوميات مألوفة على غرار حكايات كثيرين من الانتحاريين الذين نفذوا عمليات أخيراً. فهو شاب مسلم يصلي خمس مرات يومياً، وبدأ يظهر ميولاً أكثر تطرفاً منذ أن افتتح والده مقهى الانترنت العام الماضي. وتشير عائلته إلى أنه قرر الانتقال إلى اسطنبول حديثاً وأخبرهم أنه افتتح متجراً لبيع الهواتف وأجهزة الكومبيوتر مع صديق له. وكان هذا الصديق كينجي الذي باع حصته في مقهى انترنت آخر يملكه مع شقيقه. وعلى رغم أن الشرطة التركية لم تعلن وجود أي رابط بين ايلالتونتاس ومنظمات مسلحة، يقول أفراد في عائلته إنه كانت له ارتباطات بحزب الله التركي، وهو حزب نشط في بينغول حيث ولد وعاش كابوك وايلالتونتاس. وفي مدينة بينغول القريبة من الحدود مع إيران وسورية، بدأت الشرطة التركية تحقيقاتها بحثاً عما تصفه بشبكة إسلامية متطرفة ذات امتدادات دولية تتخذ من هذه المدينة الصغيرة التي تنشط فيها الجمعيات الإسلامية، مقراً لها. وأوقفت الشرطة تسعة أشخاص وصادرت عشرين جهاز كومبيوتر من مقهيين للانترنت في المدينة. وكان هؤلاء الانتحاريون من المواظبين على ارتياد مقاهي الانترنت التي تمتلكها عائلاتهم. ايلالتونتاس نفسه كان يدير المقهى المركزي للانترنت الواقع في الشارع للرئيسي للمدينة. كما أن اكينجي كان باع حصته في مقهى آخر للانترنت وكان يعتزم فتح محل كومبيوترات مع ايلالتونتاس. وتأمل الشرطة أن تقودها المعلومات التي ستحصل عليها من أجهزة الكومبيوتر العائدة للانتحاريين إلى ما يمكن أن يساعد في حل ألغاز ارتباطات المفجرين والشبكة التي يعتقد أنهم ينتمون لها. وتظهر المسارات التي اتبعها هؤلاء الشبان في حياتهم، من خلال روايات المقربين منهم، أنها تحمل معالم التطرف المألوف في سير من سبقوهم من الانتحاريين. ومن بين هذه المعالم الدعوة الصارمة إلى الصلاة وإطلاق اللحية والسفر إلى باكستان والشيشان بهدف التدرب الديني والجهاد وتبني أفكار متشددة تجاه العائلة والمحيط وتجاه الغرب. وفيما لم يظهر دليل فعلي على انتماء هؤلاء الشبان إلى تنظيم "القاعدة"، إلا أن الأسلوب الذي اعتمدوه في تفجيرات اسطنبول يحاكي أسلوب عمليات سابقة نفذتها "القاعدة" في مناطق مختلفة من العالم. ومن المعروف أن شبكة "القاعدة" غير مترابطة وقراراتها غير مركزية، ويمكن أن تكون التقنيات المتطورة، خصوصاً الانترنت ساهمت في تطوير قدرات هذا التنظيم على التخطيط والضرب في مختلف أنحاء العالم. وشبّه بعض الخبراء علاقات المنتمين إلى هذا التنظيم بشبكة عنكبوت عالمية بحيث أن التخطيط لهجوم يكون تخطيطاً محلياً لكن يبقى الهدف والشعار وكذلك المساعدة دوليين. الانترنت: رسائل مخفية منذ هجمات 11 أيلول سبتمبر، أظهرت المجموعات الإسلامية المتطرفة احترافاً واهتماماً كبيرين في استخدام الانترنت لنشر الدعاية ولأغراض جذب أنصار وانتحاريين وكذلك لجمع التبرعات. وغرف الحوار الشائعة على مئات المواقع، ومن خلال صناديق بريدية الكترونية لا تحتاج إلى إثبات هوية، تقدم نسبة عالية من السرية لهذه المجموعات التي تتمكن من تبادل الآراء والمعلومات من دون خوف فعلي من كشف هويتها أو خططها. فمن باكستان إلى العراق إلى تركيا، أبدى تنظيم "القاعدة" احترافاً وشغفاً واضحين في ايصال رسائله سواء عبر التلفزيون أم عبر الصحف أم عبر الانترنت. وبذل عناصر هذا التنظيم جهداً في الاستفادة من التقنيات الحديثة، وتجلى ذلك في الكثير من افلام الفيديو والرسائل الصوتية للانتحاريين ورسائل أسامة بن لادن ومساعده أيمن الظواهري. وقدمت الانترنت تحديداً أداة رحبة للتواصل ونشر المعلومات والأفكار بشكل أوسع وأسرع من قدرة أجهزة الأمن أو الاستخبارات الدولية والأميركية على تعقبها وإقفالها وملاحقة من يقف وراءها. ومواقع الانترنت يستخدمها تنظيم "القاعدة" كأداة لتبادل الأخبار والمعلومات وأحياناً لنشر صور فيديو لما يقوله قادة وأعضاء التنظيم في وصف سوء معاملة الولاياتالمتحدة للمسلمين في العراق وفي مناطق أخرى من العالم. وعبر الانترنت أعلنت مجموعتان مختلفتان مسؤوليتهما عن سلسلة التفجيرات التي وقعت في تركيا وحذرت من وقوع مزيد من الهجمات ضد الولاياتالمتحدة وحلفائها. وتشير المعلومات المتداولة إلى أن "القاعدة" بدأت عبر الانترنت منذ أشهر حملة جذب واسعة لمتطوعين لشن حرب ضد الولاياتالمتحدة والدول المتحالفة معها في العراق وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. ونشرت شبكة بن لادن منذ فترة ثلاثة كتب الكترونية على مواقعها، اثنان منها يفصلان التكتيك والأهداف في المملكة العربية السعودية والعراق، والكتاب الثالث بعنوان "تسعة وثلاثون خطوة إلى الجهاد". لكن أكثر ما يثير قلق الأجهزة الأمنية هي تلك المعلومات التي تظهر على شكل ملفات عادية متداولة عبر الانترنت، إلى أن يظهر لاحقاً أنها رسائل مشفرة تنقل معلومات وخططاً لتنفيذ هجمات ضد أهداف معينة في مناطق محددة. وما يساعد على انتشار هذه الرسائل هو إمكان تفقدها من خلال أماكن عامة حول العالم، سواء في مقاهي الانترنت أم في الجامعات وأماكن عامة أخرى، وبالتالي جعل إمكان ملاحقة هؤلاء الأفراد صعبة جداً. ومنذ هجمات 11 أيلول تبين أن معظم الانتحاريين أو الأشخاص المنضوين تحت لواء "القاعدة" تبادلوا رسائل ومعلومات عبر مقاهي انترنت وأماكن عامة في الغالب. وما يثير قلق أجهزة الأمن الغربية هو تلك النماذج المتقاربة في تقنية وسائل الاتصال بين هذه المجموعات، وكذلك طريقة صناعة المتفجرات المستخدمة في سلسلة العمليات التي نفذت منذ 11 أيلول وحتى اليوم. إذ يعتقد بأن أعضاء "القاعدة" تم تدريبهم ليقوموا هم لاحقاً بتدريب أفراد من مجموعات أخرى على كيفية استعمال الانترنت لبث رسائل مشفرة لتجنب الملاحقة. ويعتقد بأن تقنيات صنع القنابل، إضافة إلى معلومات كيميائية، تم تسريبها عبر الانترنت. وهذا ما استنتجه محققون غربيون وبعدما وجدوا الأسلوب نفسه في استخدام المتفجرات في بلدان مختلفة في العالم. واللافت أنه ما أن تقفل الأجهزة الأمنية أحد المواقع، التي تعود إما مباشرة لأفراد ينتمون فعلياً إلى "القاعدة"، وإما لأولئك الموالين لها، حتى ينشئ هؤلاء مواقع جديدة. وتستفيد هذه الشبكات من أسماء المنتسبين إلى لوائحها البريدية الالكترونية لإعادة الاتصال بهم وإعلامهم بعناوين مواقعها الجديدة وتزويدهم البيانات والمعلومات التي ترغب في نشرها. ويبدي الأشخاص الذين يوالون ويتبنون الأفكار التي ينشرها تنظيم "القاعدة"، من دون أن يكونوا منتمين أو منخرطين فعلياً فيها، اعجاباً شديداً وشغفاً بملاحقة هذه المواقع التي تثبت دوماً أنها قادرة على الانتشار كالفطر. فسعيد مثلا وهو شاب لبناني في الثلاثين من عمره ويعمل في مجال الكومبيوتر يقول إنه حريص على تتبع المواقع التابعة لتنظيم "القاعدة" أو التي تبث دعايتها، ويبدي احترافاً في كيفية البحث عن المواقع الجديدة لهذا التنظيم وتنظيمات إسلامية أخرى، خصوصاً بعدما تتعرض للملاحقة والإقفال من قبل أجهزة أمنية أو من قبل ال Hackers الذين درجوا على استهداف مواقع "القاعدة" واتلافها. وكثيراً ما يسعى سعيد إلى متابعة أخبار عمليات "القاعدة" عبر الانترنت، وهو لا يقتنع بما تورده وكالات الأنباء من معلومات متعلقة ببن لادن و"القاعدة"، إلا إذا وجد تأكيداً أو نفياً لها على مواقع "القاعدة" التي يتتبعها عبر شبكاتها على الانترنت. هاغانا الانترنت خلال الأشهر القليلة الماضية كان محققون في مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي يعتبرون موقع "النداء" أنه الموقع الرسمي الذي يعتمده تنظيم "القاعدة" للتواصل مع مجموعاته. وموقع "النداء دوت كوم"، يظهر بشكل مفاجئ في مواقع أخرى بعد أن تمت ملاحقته وتدميره الكترونياً من قبل الأجهزة الأمنية. وظهر هذا الموقع للمرة الأولى بعد هجمات 11 أيلول، مستفيداً من موزعين في ماليزياوالولاياتالمتحدة التي سارعت إلى إزالة الموقع بعدما اطلعت على محتواه وأهدافه. وفقد موقع النداء ملكيته حين عمد جون ميسينر وهو قرصان يملك موقعاً إباحياً على الاستيلاء عليه. لكن في الواقع فإن موقع النداء لا يزال يعمل على الانترنت، وخلال السنة الماضية ظهر هذا الموقع مختبئاً في صفحات داخلية لمواقع وشبكات مختلفة. وعلى رغم أن تحديث هذه المواقع ليس سريعاً، لكنها كانت دائماً تبث أخباراً تتعلق بمقاومة الأميركيين، بداية في أفغانستان ولاحقاً عن المقاومة ضد الأميركيين في العراق والحثّ على قتلهم. ولا تستهدف هذه الشبكات الأميركيين والغرب فقط، إذ هناك أبواب ومواقع متكاملة تحرض ضد حكومات وفرق وطوائف وحتى أفراد. وفي حركة لافتة تظهر الفرز الذي رسخته مثل هذه الشبكات، أنشأت مجموعة من الخبراء الأميركيين والاسرائيليين شبكة أسموها "هاغانا الانترنت"، على غرار عصابات الهاغانا التي شكلتها الحركة الصهيونية في بداية احتلال فلسطين لملاحقة المقاومة الفلسطينية. وهاغانا الانترنت هذه يقول عنها الخبراء المنتسبون إليها إنها لمواجهة الانترنت التابع ل"القاعدة". ومن بين لوائح عدة لشبكة الهاغانا هذه يبرز موقع النداء على أنه الموقع الأبرز لهذا التنظيم، وباتت سمة هذا الموقع التنقل الدائم من محرك إلى آخر والاختباء والظهور في مواقع جديدة. ويعتقد الخبراء التابعون لهاغانا الانترنت أن متتبعي موقع النداء يعرفون كيف يجدونه بحيث باتت محركات البحث والعناوين التي يمكن استخدامها تسهل هذه المتابعة. ليس صعباً على من يريد تصفح المواقع التي إما تتبع تنظيم "القاعدة" أو تتبنى أفكارها أن يجد سبيله عبر الانترنت. فهذه المواقع غالباً ما تستخدم عناوين وأسماء رنانة لمواقعها: النداء، الكلمة الحقّ، المهاجرون، الأنصار، الجهاد، السلف الصالح، المجاهدون، السرداب، وغيرها من العبارات المتداولة في أدبيات الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولا يسع من يمضي بعضاً من الوقت في متابعة هذه المواقع وما تبثه من معلومات ومقالات وحوارات إلا أن يشعر بأنه في ساحة حرب افتراضية فعلية، إذ يبدي المساهمون في هذه المواقع صراحة أكبر في التعبير عن آرائهم وربما يعود ذلك إلى شعورهم بأنهم أكثر تحرراً من الملاحقة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم الفعلية مما قد يفعلون علناً لدى التقائهم بآخرين يعرفون هوياتهم وبالتالي تسهيل ملاحقتهم. لذلك فإن الحدّة التي يعبّر عنها هؤلاء في مواقفهم تصل كثيراً إلى مستويات عالية من الانفعال والتزمت. ففي صفحات الحوار على شبكة "أنصار الإسلام" مثلاً، يعبر كثيرون من المشاركين عن تحذيرهم وتهديدهم المباشر للعديد من المخالفين لتوجهاتهم السلفية عارضين كماً هائلاً من الأحاديث غير الموثقة والتي تساعدهم على تأكيد معتقداتهم وتبرير استهدافهم وقتلهم لمن يخالفها. وتظهر صفحة الحوار في شبكة "أنصار الاسلام" نقاشات بين المنتسبين في شأن تفجيرات تركيا الأخيرة والتي أدت إلى مقتل وجرح العشرات معظمهم من المسلمين. وحفلت ساحات الحوار على هذه الشبكة بأسئلة عن جواز ما حدث في تركيا شرعاً، خصوصاً أن هذه التفجيرات أدت إلى مقتل مسلمين. وفي هذه الصفحة يبدي كثيرون من المشاركين الذين لا يعلنون هوياتهم الحقيقية شكهم بالمعلومات الرسمية عما أعلن، بانتظار أن يعلن "المجاهدون" عبر هذه الشبكة حقيقة ما جرى في تركيا. بمعنى آخر باتت هذه الشبكة بالنسبة إلى مجموعة كبيرة، المصدر الحقيقي للمعلومات، وأمام ما تعلنه هذه الشبكة تسقط جميع الصور الحية والمباشرة التي بثتها الشبكات العالمية عن تفجيرات اسطنبول والدماء والأشلاء التي تناثرت والبيانات الرسمية المتعقلة بها. إذا وفي ظل الحقيقة الافتراضية التي يبثها موقع أنصار الإسلام تتلاشى وقائع اعتقدنا ربما أنها حقائق مثبتة لكنها على هذه الشبكة تبدو غير ذلك. وتظهر هذه المواقع تشابها في تبويبها ولغتها وساحات الحوار فيها ومعلوماتها والصور والأخبار التي تبثها. فهي دائماً ما تعرض نصوصاً متزمتة عن الجهاد وقتال الأميركيين والكفار. وفي شبكات مثل موقع "الكلمة الحق"، باب خاص بحكايات وسير غير منسوبة أو موثقة لمجاهدين قاتلوا في أفغانستان والشيشان والبوسنة، وغالباً ما ترفق هذه السير برسائل من مشاركين يبدون فيها إعجاباً كبيراً وشغفاً بانتهاج سير مماثلة في العراقوفلسطين. بل ان العديد من هذه المواقع يخصص أبواباً لاحصاءات تتعلق بعدد المتصفحين والأبواب والأخبار الأكثر اجتذاباً للزائرين. وتكاد تكون أبواب الجهاد والصفحات المتعلقة بأخبار المقاومين في العراقوأفغانستان هي الأكثر جذباً للزوار. وفيما لا تزال الشرطة التركية تعكف على حل ألغاز أجهزة الكومبيوتر والبريد الالكتروني العائد للانتحاريين الذين نفذوا هجمات اسطنبول، يواصل الآلاف من الشبان على غرار كابوك وحاجي وايلانتاتوس، تبادل أفكارهم وربما خططهم عبر الشبكة العالمية، لكن قد يستحيل علينا أن نعرف متى وأين سيضربون قبل أن نفاجئ بثلاثي أو رباعي انتحاري جديد!