طرحت زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الى بريطانيا في شكل عميق ومباشر موضوع العلاقات بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وبالتالي رؤيتهما لعالم اليوم ودورهما فيه، لا سيما بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001. هذه بعض الأضواء على الزيارة... وبالتالي على العلاقات بين الجانبين. 1- هناك اجماع على اعتبار زيارة الرئيس بوش حدثاً رسمياً هو الأول منذ العام 1918. هذا المعنى الاستثنائي للزيارة يبرز عمق الراديكالية لدى الملكة اليزابيث الثانية من جانب وعمق الشرخ داخل المجتمع البريطاني من جانب آخر. فالطابع الرسمي الملكي للزيارة، والاقامة في قصر باكنغهام هما تعبير عن تقدير خاص من جانب الملكة ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير للرئيس الأميركي. وعلى رغم الصخب الذي طبع الشارع البريطاني من قبل، خصوصاً قبل حرب العراق وابانها، فإن القيادة العليا البريطانية حسمت أمرها بقوة واصرار الى جانب موقف الرئيس بوش في معالجته القضايا الدولية، لا سيما الحرب على العراق. 2- منذ البداية، كان هناك رأيان في توقيت هذه الزيارة: رأي أول: ينظر اليها بايجابية إن بالنسبة الى بوش ام الى بلير. فالرئيس الأميركي وهو يقف الى جانب ملكة بريطانيا يود ان يستفيد دعائياً لدى الناخبين الأميركيين، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، بأنه ليس وحيداً او معزولاً بل لديه حلفاء أقوياء، ما يعطيه، اعلامياً على الأقل، صدقية دولية. وبلير يود ان يؤكد للبريطانيين انه حليف محترم وليس مجرد تابع لأميركا. وأنه قادر على احياء الصداقة الاطلسية بعد تصدّعها بسبب حرب العراق. الرأي الثاني يرى في الزيارة عناصر سلبية تضر بكل من الرئيسين الأميركي والبريطاني. فبالنسبة الى بوش سيتساءل الأميركيون، وهم يرون التظاهرات الضخمة في شوارع لندن ضد السياسة الأميركية، وضد الرئيس بوش بالذات، لا سيما في حربه في العراق، عن مدى تدنّي شعبية رئيسهم في الدولة الأقرب الى أميركا وهي بريطانيا. فكيف هي الحال بالنسبة الى الدول الأخرى الأبعد عن أميركا؟ بمعنى آخر هذه الزيارة أعطت الشارع الأميركي صورة سلبية عن نظرة الأوروبيين الى الرئيس بوش والى أميركا بالذات وسياستها في العالم. ولهذا تساءل كثيرون عن مدى اختيار الظرف المناسب لهذه الزيارة التي تمت في جو شديد التوتر سواء داخل الادارة الأميركية وموقفها من حرب العراق، وسواء داخل الشارع البريطاني المتحفّز بمختلف مكوناته من أعداء الحرب وجماعة البيئة، ومناهضي العولمة، ومعارضي التعرفة الجمركية الأميركية على الصلب، وخصوصاً اولئك الذين اعتبروا ان بلير عبر بوش خدعهم في تأييد الحرب ضد العراق بسبب أسلحة الدمار الشامل التي ثبت بطلانها حتى الآن. جميع هؤلاء نزلوا الى الشارع لتأكيد رفضهم الحرب وغضبهم على السياسة المتبعة من جانب الرئيس الأميركي. 3- ان ما شهدناه قبل الزيارة وأثناءها وبعدها، ليس سوى ارهاصات تعكس اختلافاً في الرأي والرؤية حول نظرة الرئيس بوش وادارته الى عالم اليوم ونظرة الاتحاد الأوروبي الى هذا العالم والى أي مدى يمكنه ان يمارس نفوذه في هذا العالم بالتفاهم مع الولاياتالمتحدة، أم بالتنافس والصراع معها حول هذا النفوذ وذلك ضمن النظام الدولي الجديد. فأين هي نقاط الاتفاق والاختلاف بين أميركا وأوروبا؟ 4- إذا نظرنا الى الأمور في العمق لوجدنا ان ما يجمع بين الجانبين الأطلسيين هو أهم مما يفرّق بينهما، بدليل انهما يتفقان على الأهداف ولكنهما يختلفان بعض الأحيان على أفضل الوسائل لتحقيق تلك الأهداف. فبيان قمة الاتحاد الأوروبي في اليونان حزيران / يونيو 2003 يؤكد أمرين أساسيين: مكافحة الارهاب ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهما ما تقول بهما أميركا وتعمل لهما. ولكنهما يتفقان على التدخل في أفغانستان، ولكن بعض دول الاتحاد الأوروبي وقف ضد التدخل في العراق الا من خلال أمرين: الأول: استمرار التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل بواسطة المفتشين الدوليين في العراق. والثاني: ان يكون التدخل بقرار من مجلس الأمن لإعطائه الشرعية الدولية، وهو قرار لم يكن مؤمّناً للأميركيين من جانب المجلس. ولذا تجاوزوا المجلس وتدخلوا من دون شرعية منه على اساس ان الشرعية تأتي لاحقاً إذا لم تأتِ سابقاً وهذا هو معنى القرار 1483 وهو أسلوب اعتمده الرئيس بيل كلينتون من قبل بعد تدخله في كوسوفو البلقان. أي الحصول على شرعية ذات "مفعول رجعي". 5- هذا الاختلاف في الرؤية والاجتهاد قسّم الاتحاد الأوروبي، في موقفه من الحرب على العراق الى تيارين: واحد تقوده فرنسا وألمانيا وبلجيكا يدعو الى معارضة هذه الحرب في شكل مبدئي. وثان تقوده بريطانيا واسبانيا وايطاليا والدانمارك ودول أوروبا الشرقية المرشحة للانضمام الى الاتحاد وقد أعلنت وقوفها الى جانب الولاياتالمتحدة، ما هدّد وحدة الاتحاد، مع العلم ان الشارع في الدول الأوروبية لا يتماهى بالتأكيد وفي شكل دائم مع قرارات الحكومات. 6- هذا الاختلاف على الموضوع السياسي / العسكري هو انعكاس لاختلاف أوسع وأعمق حول رؤية العالم. بين ان يكون عالماً أحادياً تهيمن فيه وعليه قوة عظمى وحيدة هي الولاياتالمتحدة، أو أن يكون عالماً متنوع الاستقطاب تجد فيه القوى الكبرى الأخرى مكاناً ومجالاً لتأكيد وجودها ودورها في تحديد مصير العالم وفي اتخاذ القرارات الخاصة بموضوعات السلم والحرب في العلاقات الدولية. وكان الرأي التقليدي على ان تشكل أوروبا الموحدة قوة توازن القوة الأميركية. على ان هذا الرأي يفتقر في اعتبار الكثيرين الى الواقعية. ذلك ان أوروبا قادرة الى حد ما على منافسة قوة الولاياتالمتحدة من حيث الحجم الديموغرافي والحجم الاقتصادي، ولكنها تقصّر عنها كثيراً في القدرة العسكرية بحيث ان ما تقرره أميركا لموازنة الدفاع يكاد يعادل 50 في المئة من مجمل موازنات الدفاع لدى القوى الكبرى مجتمعة. وهذا ما جعل الولاياتالمتحدة، خصوصاً في عهد بوش تأخذ المبادرة، فتمانع في ذلك دول أوروبية وأخرى عالمية، كروسيا والصين. وتتخطى أميركا المنظمات الدولية التي لم تعد تثق كثيراً بنشاطها وفاعليتها ودورها وعلى رأسها الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وتعود هذه جميعاً فيما بعد لتوافق و"تشرعن" الواقع الجديد الذي فرضته أميركا بالقوة، سواء في كوسوفو أم في العراق! 7- هذا الاختلاف يجد مرجعه "اللاهوتي" في تصور الرئيس بوش الذي تسلّم الرئاسة الأميركية وهو شاب، وتأثر سلباً بمواقف سابقيه: الرئيس كلينتون الذي كان متردداً وحتى جورج بوش الأب والده الذي لم يكمّل في نظره ما كان عليه ان يفعله، وهو اسقاط صدام حسين منذ حرب الخليج الثانية عام 1991. ان شخصية الرئيس بوش الابن تحمل بعداً خلاصته: ان للولايات المتحدة دوراً انقاذياً في العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين. ولذا اختار معظم مساعديه، خصوصاً في القضايا الأمنية، من لائحة المحافظين الجدد، نائب الرئيس ووزير الدفاع ومساعد وزير الدفاع ومستشارة الأمن القومي. كان ذلك قبل 11 أيلول 2001. ثم جاء هذا التاريخ المفصلي لينهي الى الأبد أسطورة الولاياتالمتحدة المتراخية باتجاه التحدي الشامل: الأصدقاء والأعداء على حد سواء بهدف فرض الولاياتالمتحدة قوة عظمى وحيدة في العالم. ومن قبل ان تشرع الولاياتالمتحدة في إحياء الدرع الواقي من الصواريخ، وقبل اعلان الحرب الوقائية، كان عليها ان تثبط عزيمة كل قوة كبرى تحاول ان تنافسها من جهة، وان تضرب الارهاب الدولي من جانب آخر. ولكن كيف يتم لها ذلك؟ بتهميش دور القارة القديمة القارة الأوروبية من جانب والتحكم عملياً بقدرتها الاقتصادية المنافس الوحيد الفعلي لأميركا من جانب آخر، ولكن ذلك لن يتم الا بوضع اليد على ثروة استراتيجية مهمة جداً لأميركا وأوروبا والعالم في آن هي الثروة النفطية الموجودة عموماً في مناطق العالم الاسلامي. ف"عقب أخيل"، في الاقتصاد الأميركي هو النفط، لأنه المادة الوحيدة المستوردة من خارج أميركا. وبهذا يكون استشراس أميركا في وضع اليد على النفط حول بحر قزوين، وحول الخليج، أي ما يعادل أكثر من ثلثي احتياط النفط العالمي، بمثابة ضربة تصيب فيها الولاياتالمتحدة عصفورين بحجر واحد: الأول: تأمين اقتصادها وحضارتها بمخزون هائل من النفط العراق وحده قادر على تأمينه لأميركا لمدة مئة سنة. الثاني: استخدام النفط الواقع تحت الهيمنة الأميركية من حيث الشركات والواقع الجيو - استراتيجي لفرض نمط معين وسرعة معينة على المسار الاقتصادي للدول الصناعية، خصوصاً الأوروبية واليابان والصين وروسيا، في اطار التنافس السياسي والاقتصادي الدولي. انطلاقاً من هذه الحقيقة المؤكدة كان يمكن بوش وبلير ان يردا في آن واحد على المعترضين والمتظاهرين في شوارع لندن وغيرها ليقولا لهم: "كفى أيها البلهاء... أنتم تتسلون بأسباب الحرب الشكلية ونحن نعرف بالتمام أهداف الحرب الحقيقية. ومهما جرى في العراق وسواه، فإن مصير الحضارة الغربية لن يكون خارج القدرة الغربية الكبرى المنوط بها تطوير هذه الحضارة والمحافظة عليها..." وهو ما يشكل الخلفية الفكرية لبوش وبلير في آن. 8- ما دام العالم الاسلامي يمتلك غالبية الاحتياط العالمي من النفط، فقد ربطت أميركا بين فكرة الارهاب وبعض الحركات السياسية ومنها "القاعدة" التي خرجت من دول نفطية. ولهذا رأت أميركا، وهذا بارز في خطاب الرئيس بوش الى دول المنطقة، ان الحل المطلوب هو تعميم الديموقراطية على هذه الدول كجزء من تغيير النظام الدولي بكليته بما فيه نظام الأممالمتحدة. وحول الانتقادات التي توجهها الدول الأوروبية لأميركا حول هذا الأمر ترد أميركا بأن أوروبا هي أكثر من استعمل أسلوب القوة في القرن الماضي وأوائل القرن العشرين عندما كانت تتمتع بفائض القوة بريطانياوفرنسا وألمانيا... وهي انما تنتقد هذه الممارسة لأنها لم تعد قوية كفاية لتقوم بذلك. بهذا تكون الولاياتالمتحدة، في موقفها من العراق وعدد من الدول العربية تجاوزت نظرية السيادة الوطنية مدعية بذلك ان الارهاب هو عملية دولية والعولمة هي سمة دولية فلم يعد بدّ من فرض رؤية أميركية عالمية تتخطى نظم المؤسسات العالمية وسيادات الدول الى معيار هو الأهم في نظرها، ألا وهو احترام حقوق الانسان بموجب الاعلان العالمي لهذه الحقوق من جانب، واستعمال القوة في العلاقات الدولية ضد قوى الشر "محور الشر" من جانب آخر بعد اجراء التصنيفات المناسبة في القاموس الأميركي وبالتالي الوصول الى مجتمعات ديموقراطية ترفض الارهاب. باختصار، اذا انطلقنا من زيارة الرئيس بوش الى بريطانيا لوجدنا ان كل شيء يرتبط الى حد كبير بمدى قدرة أميركا والدول الأوروبية على قيادة عالم اليوم: ما هي حدود تلك وحدود أولئك؟ وبعيداً عن الجدل والصخب الذي رافق هذه الزيارة من دعاة بوش وبلير وخصومهما، فإن ما يقال وينادى به في الشوارع هو بالتمام غير ما يقال ويخطط في مراكز الأبحاث الاستراتيجية في لندن وواشنطن على حد سواء. وإن عند شركات البترول الأميركية والبريطانية "بعض" الخبر اليقين!