يدور حديث واسع عن التورط الأميركي في العراق يعيد إلى الأذهان هزيمة اميركا في فيتنام وإمكان حدوث هزيمة مماثلة لها في العراق. عقب هزيمة عام 1967 دار جدل عربي واسع حول جدوى حرب العصابات في تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض وكان أصحاب الرأي الأخير يرون أن سيناء صحراء لا تصلح لحرب العصابات مثل فيتنام المليئة بالغابات والأحراش التي كانت مدعومة عسكرياً واقتصادياً بقوتين كبيرتين هما الصين والاتحاد السوفياتي اللذين كانا مختلفين حول كل شيء إلا على دعم مقاومة الشعب الفيتنامي وعدم السماح لأميركا بتحقيق نصر في فيتنام. وكانت حرب فيتنام ملهمة لمقاومة وصمود الشعوب الصغيرة ورمزاً لرفض الهيمنة الأميركية، وكان شعبها يحظى بإعجاب غير محدود. وكي تضعف الولاياتالمتحدة من القيمة الحربية للغابات والأحراش، التي تعد إحدى مزايا تلك الحرب، اتبعت وبصورة منهجية سياسة الأرض المحروقة لكسر إرادة الشعب الفيتنامي واستخدمت ضده أسلحة محرمة دولياً. التعاطف مع الشعب الفيتنامي ومع مطالبه بوقف الحرب لم تكن قاصرة على الشعوب الأوروبية بل شملت الشعب الأميركي الذي نظمت قوى عدة فيه تظاهرات واسعة تطالب بإنهاء الحرب وسحب القوات الأمريكية. ومع كل هذا الزخم المعادي كانت الإدارة الأميركية عنيدة لم تصغ لأحد ولم تلتقط إشارة رئيس وزراء بريطانيا الراحل هارولد ويلسون الذي رفض الاستجابة للإلحاح الأميركي المستمر بارسال قوات رمزية إلى فيتنام لا للمشاركة في الحرب وانما كي تكون تعبيراً عن تضامن الدولة التي ترتبط مع واشنطن بعلاقة خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقبل العدوان الأميركي - البريطاني على العراق أعاد معارضو الحرب التذكير بدرس فيتنام، وكانت التحذيرات لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا من تكرار مغامرة السويس عام 1956 ومواجهته مصير انتوني إيدن نفسه. لم يكن يريد هؤلاء الناصحون هزيمة عسكرية واخلاقية جديدة للولايات المتحدة. وككل قوة رعناء فقد اعمت الاميركيين والبريطانيين ايديولوجية الفتح واحتكار الصواب المعززة برؤية دينية واستراتيجية تتوخى اقليمياً أن تكون اسرائيل هي المهيمنة في المنطقة من دون تحد، وإضعاف قوى إقليمية عربية. ودولياً ساد الحرص على تعزيز الهيمنة الأميركية على مصائر واقتصاديات العالم فيما اصبح يعرف بالقرن الأميركي. وكانت الحرب ضد العراق من الحروب القليلة التي يخرج فيها الناس بالملايين قبل حدوثها للمطالبة بإيقافها لإدراكهم بانعدام مبرراتها وبأنها لخدمة مصالح ضيقة. وهذا كان موقف الرأي العام الاوروبي الذي خرج في 15/2/2003 في مظاهرات لم تشهد بريطانيا واسبانيا وايطاليا مثلها ضد مشاركة البلدان الثلاثة في تلك المغامرة التي وصفها وزير المال الفرنسي السابق دومينيك ستراوس - كان بأنها"ميلاد الأمة الأوروبية". لكن المحافظين الجدد لم يعبأوا بهذه التظاهرات التي لم تنظمها قوى اليسار وحده الذي يحتقرونه على رغم خلفية بعضهم اليسارية، ولكن من قوى وسطية ويمينية طالما دعمت الولاياتالمتحدة خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي وترى ان حربها مخالفة للقانون الدولي وتعيد البشريه إلى شريعة القوة وحدها التي حصرها القانون في حق الدفاع عن النفس وتضر بأوروبا وباستقرارها ومصالحها. المحافظون الجدد الذين بشرّوا بنظام اقليمي جديد في المنطقة عماده الديموقراطية أرادوا إعادة تطبيق تجربة تاريخية كانت صالحة في المانيا واليابان ولا تصلح بحذافيرها في منطقتنا لاختلاف مرحلة النمو ووضع الطبقات وتوازناتها ومصالحها. وهذا لا يعني قبول المنطق السائد في بعض دوائر الغرب ان الإسلام لن يعقد صلحاً مع الديموقراطية وانه على نقيضها، أو اننا نحن مسلمي القرن الحادي والعشرين لا نريدها. إن رفضنا هو للديموقراطية التي تفرضها اسلحة الدمار الشامل التي دمرت العراق وتذرعت بها الولاياتالمتحدة لخوض الحرب ضده، ولأننا نريد ان تكون ديموقراطيتنا معجونة ومخبوزة بمائنا وهوائنا وعرقنا وتستشرف مصالحنا وتحقق أمننا واستقلالنا، ولا تجعلنا تابعين لمن ظن ان"العناية الإلهية"خولته استخدام القوة لفرضها علينا. لنعد قليلاً إلى ما بعد انتهاء الحرب الباردة وتوريط المحافظين الجدد لبلادهم، اذا كان ولاؤهم لها، في حرب ظالمة كما ورطت النازية المانيا وكما يتسبب الاحتلال الإسرائيلي في تزايد العداء للسامية وكراهية اليهود في الغرب. كانت نهاية الحرب الباردة لحظة تأريخية بالنسبة الى المحافظين الجدد تتطلب"هيمنة خيرة"على العالم سمّوها فرصة القطب الواحد Unipolar moment بعد ان خلت الساحة الدولية من أي قوة عظمى تتحدى هذه الهيمنة"الرحيمة او الخيرة"لتحقيق ما سمّوه الصالح العالمي العام عن طريق الحروب الوقائية ونشر الديموقراطية وتغيير الأنظمة الديكتاتورية. وأقحم هؤلاء الدين في هذه المغامرة بدءاً من الرئيس بوش ونائبه تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذين خيل اليهم أنهم ينفذون إرادة إلهية يعبر عنها الرئيس بوش في ختام خطبه بعبارة"ليبارك الله اميركا". ومعلوم استخدامه عبارة"الحرب الصليبية"التي اعتبرها زلة لسان، ورغبة توني بلير في ان يختم إحدى خطبه قبل الحرب بعبارة"ليبارك الله بريطانيا"أسوة بالرئيس بوش الذي حال مستشاره الإعلامي اليستر كامبل بينه وبين تحقيق هذه الرغبة مذكراً إياه بأن بريطانيا غير الولاياتالمتحدة الأميركية. وأخيراً نسب إلى مسؤول اميركي رفيع قوله إن وزير الدفاع رامسفيلد يتصرف بوحي من الله ولو كان الأمر حقا كذلك لما كان رامسفيلد يعطي الاوامر بقتل المدنيين في العراق وافغانستان ويدعم القتلة الإسرائيليين في الضفة وغزة ولبنان. كان مشروع المحافظين الجدد طموحا جدا وكانوا يستهدفون سورية وإيران بعد العراق، بل فكروا في احتلال باكستان إذا سيطر عليها الإسلاميون، لولا انهم ادركوا ان مساحتها ثمانية اضعاف مساحة العراق. المشروع التوسعي لهؤلاء بدأ بعد سقوط نظام ميلوسوفيتش في عام 1999 وقبل ان يصلوا إلى البيت الأبيض عام 2000 وحينذاك وضعوا الصين ضمن الدول المارقة التي يجب العمل على تغيير نظامها لأنها تشكل اكبر تحد للولايات المتحدة، وهذا هو سبب رغبة قديمة لدى رامسفيلد كبحها فشله في العراق في ان يبقي الباب مفتوحا لخوض اكثر من حرب وقائية. لقد اعادنا رامسفيلد، الذي أتصور انه قرر التخلص من الرئيس صدام حسين عندما زاره في بغداد عام 1984 لإعادة فتح السفارة الأميركية ودعمه عسكريا في مغامرته القاتلة ضد إيران، اعادنا إلى العهد الذي كان فيه الرجل الأبيض يرى في احتلالاته رسالة مقدسة سميّت وقتها بعبء الرجل الأبيض - الذي كان يرى انه لا مناص من القيام به لتمدين الشعوب"البدائية". وقبل مغامرته في العراق لم يقرأ رامسفيلد كما يبدو ما قاله نابليون في مصر والجنرال مود قبله في العراق عام 1917 وإلا ما كان ليكرر ما قاله تقريبا العسكريان والفاتحان السابقان بعد سقوط بغداد بعشرة أيام بأن"الجيش الأميركي على عكس جيوش عدة في العالم لم يأت فاتحاً ولا محتلاً، ولكنه اتى محرراً والشعب العراقي يعرف هذا". والجيوش المقصودة بعضها رفيقة جيشه في احتلال العراق وقامت تاريخياً باحتلالات عدة، أما الشعب فهو نفس الشعب الذي حاصرته وعاقبته الولاياتالمتحدة ومات من ابنائه مئات الآلاف تحت وطأة الجوع والأمراض. المقولات الأميركية ان رسالتها مختلفة والحديث عن الديموقراطية لم ينطليا على من يدرك ان الحروب تشن لتحقيق مصالح وطنية وليست عملاً خيرياً. لقد نبه واعترض وتظاهر الملايين ضد السياسة الأميركية في العراق. ومنهم من لا يكنون أي سوء لأميركا وتنبأوا بفشل مشروعها هناك وان فيتنام أخرى تنتظرها، وها هو الواقع الدامي في العراق يعطيهم الحق. فالديموقراطية من دون الأمن لا معنى لها وإذا كان من اوصلته إلى سدة الحكم يمارسها وهو قابع في قلعة محصنة تحميه القوات الاجنبية فإن ذلك يقلل من قيمتها كإنجاز حتى ولو ذهب الناس إلى صناديق الإقتراع. إذ ما أهمية الديموقراطية إذا كانت الكلفة البشرية الباهظة المدفوعة من اجلها اغلى من كلفة أي حرب اهلية؟ لقد ضرب العراقيون رقما قياسيا بخسارتهم 655 ألف عراقي خلال ثلاث سنوات ونصف سنة، أي بمعدل مئتي الف قتيل سنوياً. نحن الآن امام عراق مختلف يقتل الأخ فيه أخاه واحتلال فشل في ضمان الأمن لنفسه وللعراقيين وبلد يخشى ان يتحول إلى دويلات لطوائف وعرقيات تقاتل بعضها بعضا. لقد كانت منطقتنا المنكوبة بالحروب منذ قيام إسرائيل اول منطقة يطبق فيها المحافظون الجدد افكارهم في حرب لم تكن وقائية بأي حال من الأحوال، و فيها تهاوى منطق الديموقراطية التدخلية التي كانت جزرتهم لشعوب لا تثق بهم ولم تعهد من دولتهم إلا العصي التي غالباً ما تكون عصيا بالوكالة تستخدمها إسرائيل. بعد كارثة العراق عسى ان تكون حربهم تلك آخر حروبهم وان تكون لديهم استراتيجية لخروج منظم وكريم تعود بعده للعراق حريته وسيادته وثقته بنفسه والحق في التمتع بخيراته الأسطورية. إن الولاياتالمتحده ستترك العراق عاجلاً ام آجلاً كحال كل احتلال بعد ان ادركت ان بقاءها يقاوم وبشدة وغير مرغوب فيه وانها تدفع ثمناً غالياً في الأرواح والأموال وان كل شعوب العالم ربما باستثناء شعب واحد، لا تريد ان يكون الدم العراقي جزءاً من مشاهداتها اليومية. لقد كان اللوبي اليهودي وإسرائيل هما من دفعا الولاياتالمتحدة الى التورط في العراق، ولذلك فإن الوقت اصبح مناسباً كي تفكر اميركا بمصالحها بمعزل عن مصالح إسرائيل وأن تعيد النظر في تحالفها غير المقدس مع تل ابيب، لأن العرب لا يشكلون مطلقاً تهديداً للمصالح الأميركية ويدركون الخرافة التي تبيعها إسرائيل في اميركا بأنها هي حامية هذه المصالح والعرب سيبيعون نفطهم وفق قواعد السوق لمن يحتاجه ويدفع ثمنه. إن اول الغيث قطرة وها هو مهندس الحرب دونالد رامسفيلد يقول للعراقيين إن العراق بلدهم وعليهم حكمه وتوفير الأمن له والقيام بذلك عاجلاً ام آجلاً. إن هذه المناشدة للعراقيين ابلغ مما قاله الرئيس بوش بأنه يغير تكتيكاته وليس استراتيجيته في العراق. وفي ضوء النفوذ الطاغي لرامسفيلد على رئيسه فإن ذلك يؤشر إلى ان هناك إدراكاً اميركياً متزايداً بأن حرب المدن في العراق قد تحوله الى فيتنام أخرى بدون الحاجة الى غابات واحراش لا تجدي معها القوة التي لم تكن تنقص الولاياتالمتحدة عندما كانت تحارب في فيتنام. لقد كان رامسفيلد هو الذي عين بول بريمر في العراق الذي بذر بذور الفتنة الطائفية وتسببت سياساته في تفكك المجتمع العراقي ودفعه الى الاقتتال ونهب ثروات العراق، وإذا تغير رامسفيلد بالإقالة او الاستقالة فقد يكون للعراق ولأميركا غد افضل. إن المطلوب ليس هزيمة الولاياتالمتحدة ولكن إنهاء احتلالها وإدراكها بأن للقوة حدودا وان لا تعالج خلافاتها مع الدول الأخرى بالقوة والغطرسة وانها إذا كانت تريد للعراق ان يستقر فلتكف عن استعداء سورية وإيران وان تشركهما مع غيرهما من الأطراف العربية والإقليمية في حفظ ماء وجهها وان تكون لها سياسة مستقلة في المنطقة عن سياسة إسرائيل. * كاتب يمني