السياسة الأميركية نحو العراق كما عرضها الرئيس جورج دبليو بوش هذا الاسبوع سياسة خاطئة لأنها تنطلق من نفي صفات الواقع الأميركي في العراق ونفي ما يتطلبه الوضع الحالي عسكرياً وسياسياً. انها سياسة النفي والتخبط بين التظاهر والاقرار، وهي ايضاً سياسة انفصام بين احتياجات الشعب الاميركي واحتياجات الشعب العراقي في المعركة من اجل الرأي العام. ما يجب على الرئيس الاميركي ان يفعله هو اما ارسال المزيد من القوات الاميركية حتى وان اضطر الى استدعاء الشباب الى الخدمة العسكرية الاجبارية او تغيير المسار نحو استراتيجية خروج من العراق بعدما اصبحت القوات الاميركية نفسها عثرة في طريق تعافي العراق. فحوى اهم ما قاله بوش في خطابه ليل الثلثاء للاميركيين هو: اصبروا وتطوعوا للخدمة العسكرية. رفض التقدم باستراتيجية خروج من العراق وفق برامج زمنية لكنه في الوقت ذاته رفض المبادرة الى تعزيز القدرة العسكرية الاميركية في العراق. قال انه لن يزيد عدد القوات ما لم يطلب الجنرالات منه ذلك. والسبب، انه لا يريد ان يواجه واقعاً مكلفاً نظراً الى الحساسية الاميركية ضد تعبير draft اي الخدمة العسكرية الاجبارية. دعوة الرئيس بوش الى التطوع للخدمة العسكرية كانت لافتة حقاً بنبرتها شبه التبشيرية. استخدام تعابير على نسق"للذين يراقبون الخطاب المتلفز الليلة ويفكرون بمهنة عسكرية لا توجد دعوة اعلى من الخدمة في القوات المسلحة... وللذين يخدمون حالياً انهم يحتلون مكانتهم الصحيحة بين اعظم الاجيال التي ارتدت اللباس العسكري... يفترض حين تشعر امة انها في حال حرب، ان يبادر شبابها الى التطوع للخدمة العسكرية. اميركا لا تشعر ولا تتصرف وكأنها في حالة حرب. جورج دبليو بوش نفسه يتحدث عن الحرب ببعدها"العالمي"متجنباً الاقرار بان ما تطورت اليه الامور في العراق هو حرب بين اميركا وبين المعادين لاميركا. احد الخبراء بملف العراق قال"ليت الرئيس الاميركي يقر بحالة الحرب لأنه في ذلك الاعتراف بحد ذاته يكون قطع مسافة بعيدة وضرورية". الرئيس الاميركي والذي هو ايضاً القائد العسكري الاعلى للبلاد، لا يريد ان يبادر الى اتخاذ قرارات توحي باعترافه بأن اميركا نفسها في حرب وان هذه حرب"ثنائية"الى حد ما وليست عالمية حصراً. لذلك شدد في خطابه:"اذا قال قادتنا على الساحة اننا في حاجة الى المزيد من القوات، سأرسلها". الخلاف والاختلاف في التقويم بين الجنرالات العسكريين والجناح المدني في وزارة الدفاع البنتاغون بقيادة دونالد رامسفيلد ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني ليس سراً بل برز جزء منه امام الكونغرس الاسبوع الماضي. تشيني-رامسفيلد يعتمدان النفي سياسة تجنباً للانتقادات، لكن الذين ينتقدون قراراتهما قبل غزو العراق واثناء حربه المستمرة يعتبرون سياساتهما تضليلية عمداً. ما يقال وراء الكواليس هو ان القادة العسكريين يريدون حقاً تعزيز القوات العسكرية بأعداد اكبر، لأن الوضع العسكري على الارض يتطلب ذلك. قد يكون الجنرالات اقترحوا ذلك على اقطاب الادارة الاميركية مثل تشيني ورامسفيلد، لكنهم، حسب بوش"قالوا لي ان لديهم العدد الكافي من القوات للقيام بالمهمة". اضاف بوش:"ان ارسال المزيد من الاميركيين من شأنه ان يقوّض استراتيجيتنا القائمة على تشجيع العراقيين على قيادة هذه المعركة". اضافة الى ذلك، فانها تفتقد المنطق العسكري والمدني. ان التدريب الصحيح من أجل تأهيل العراقيين وتمكينهم من تحمل المسؤولية يقتضي عدم زجهم في ساحة القتال بلا كفاءات لمجرد سد العجز في عدد القوات الاميركية الضرورية لمثل هذا القتال. يجب ان تكون الاستراتيجية الاميركية قائمة على الاعتماد على قدراتها العسكرية، بأعداد كافية، كي لا تُستنزف هي ولا القوات العراقية التي تسد العجز بأدنى درجات القدرات والتأهيل. فاذا كان للولايات المتحدة ان تمحو انطباع الخسارة والضعف في معارك العراق، يجب استبدال استراتيجية الاستمرار بالاعداد الحالية من القوات والمضي بالمسيرة نفسها التي تطل يومياً بأرقام قتلى اميركيين وعراقيين. فهناك ما يكفي من الاندهاش والاستغراب لعدم تمكّن الدولة العظمى الوحيدة في العالم من الحاق الهزيمة ب"اعداء"أميركا في العراق. هناك أيضاً أقاويل بأن سسلسلة القرارات الخاطئة لا يمكن أن تكون أخطاء، وانما قد تكون سياسة عمداً كي تتحكم الفوضى بالعراق. فالفوضى، في فكر المتطرفين من المحافظين الجدد، كانت دائماً ركيزة سياسية في تطلعاتهم للمنطقة العربية ابتداء وانطلاقاً من العراق. لكل هذه الأسباب، يخطئ جورج دبليو بوش بقوله ان"ارسال المزيد من الأميركيين قد يترك الانطباع بأننا نريد ان نبقى في العراق الى الأبد، فيما نحن في الواقع نعمل لليوم الذي سيتمكن العراق فيه من الدفاع عن نفسه، ونتمكن نحن من المغادرة". فتعزيز عدد القوات الآن سيساعد في التمكن من مغادرة أقرب، فيما استمرار الأمور على ما هي عليه ستطيل البقاء. أما"الانطباع"، فأنها معركة مختلفة، ذلك ان الانقسام حول"الاستثمار"الاميركي في العراق في ذروته سيما وأن الرئيس الاميركي، مرة أخرى، أوضح للاميركيين ان أحد أهم اهدافه هناك هو تحويل الحرب على الارهاب بعيداً عن المدن الاميركية. العراق أصبح"آخر ساحات المعارك في هذه الحرب"، حسب تعبير بوش. لكن الحرب الاميركية في العراق هي التي حولته الى آخر ساحات الحرب على الارهاب. قد يرتاح الاميركيون لسماع بوش يتباهى بنقل الحرب الى الساحة العراقية. لكن هذا لا يريح ولا يطمئن العراقيين. حتى الذين يكنّون التقدير الكبير للحرب الاميركية في العراق لأنها اسقطت طاغية اسمه صدام حسين، غير واثقين من الادارة الاميركية. بعضهم يتخوف من مغادرة سريعة وهرولة أميركية خارج العراق بصورة تكشف درجة الفشل في تطوير العلاقة الى علاقة ثقة حتى بين الادارة الاميركية والحكومة الانتقالية. لكل هذه الأسباب، فالصورة غير مطمئنة سيما وأن الادارة الاميركية لم تتخذ القرار الضروري بين خياري الحل السياسي والحسم العسكري. الرأي العام الاميركي يتململ من كلفة الحرب وهو يعيد النظر بدعمه لها أساساً. لذلك اضطر جورج دبليو بوش الى مخاطبة الشعب الاميركي حول الوضع في العراق. انما الرأي العام الاميركي قابل للاستقطاب كما اثبتت حرب العراق. وهذا ما يفهمه كبار مستشاري بوش مثل كارل روف، الذي لا يريد للحزب الديموقراطي ان يكسب على حساب الحزب الجمهوري في الانتخابات النيابية المقبلة. توجد محاولات واطلالات على حلول سياسية تنطلق من حفر فجوة بين المقاومين أو المتمردين العراقيين وبين"الأجانب"من"الارهابيين". ويوجد منطق قوي وراء مثل هذا التوجه. لكن المشكلة هي ان معظم العمليات العسكرية عمليات منظمة يبدو ان العراقيين هم الذين يقومون بها وليس"السواح"العرب والمسلمين الذين لبوا الدعوى الأميركية الى حرب الارهاب في الساحة العراقية. انهم العراقيون الذين سُرحوا من الخدمة العسكرية باسم تنظيف العراق من البعثيين. عراقيون يريدون استعادة السلطة من الحكومة الانتقالية. عراقيون يقاومون الوجود والتواجد الأميركي العسكري في العراق بأي عدد كان، عابراً أو دائماً. الحسم العسكري يقتضي مضاعفة عدد القوات وخوض الحرب بجرأة وعظمة. الخيار السياسي يتطلب وضع استراتيجية خروج ببرامج زمنية عامة طبقاً لمعالم وأهداف. هذه موجودة في قرارات الأممالمتحدة. وعلى الادارة الاميركية ابرازها وابراز الالتزام بها كليا بلغة الخروج وليس بلغة البقاء. فالقوات الأميركية اصبحت جزءاً من الأزمة العراقية، ولا مجال لحل سياسي من دون معالجة مدى وظروف بقاء او مغادرة هذه القوات. هذا إذا كان الخيار سياسياً وليس خيار الحسم العسكري الذي يتطلب مضاعفة اعداد القوات، وليس بمئات الافراد وانما بمئات الآلاف. جورج دبليو بوش يتعمد ابراز دور أوروبا في العراق وليس الحليفة بريطانيا مستشهداً بأقوال وتعهدات المستشار الألماني غيرهارد شرودر. بريطانيا ما تزال الحليف الأهم، لكنها لا تبدو على الصفحة ذاتها عندما يقول الرئيس الاميركي ان هذه حرب هدفها استخدام العراق ساحة بديلة عن المدن الاميركية في محاربة الارهاب. لكن بريطانيا تتحدث بلغة مشابهة من ناحية رفض البوح باستراتيجية خروج ومن ناحية المزج بين الحلول العسكرية والسياسية. السفير البريطاني لدى الأممالمتحدة السير امير جونز بيري يستشهد"بالتجربة البريطانية في ايرلندا الشمالية عبر السنوات التي برهنت لنا ان الحلول العسكرية بحد ذاتها لا تنفع، وان لا بد ان تكون هناك حلول سياسية". يقول:"ان اسلوبنا في العراق هو توفير الدعم العسكري للحل السياسي هناك". العراق معضلة ومسؤولية، وهو الوعد وخيبة الأمل. معالجة العراق تتطلب ورشة دولية على رغم الاخطاء الاميركية. قد تكون هناك ردة فعل ضد الادارة الاميركية في العراق وفي المنطقة العربية تتمثل في الدعم الخفي لحركات المقاومة والتمرد والارهاب. وقد تكون الأكثرية العراقية والعربية ممتنّة للولايات المتحدة لخوضها الحرب ضد الارهاب، حتى ولو كانت الساحة المختارة هي العراق، لأن القوى التي تشنه تخريبية تريد السلطة والتسلط في كامل المنطقة العربية. عراقياً وعربياً، ان العراق يجب الا يستباح باسم العداء لأميركا فيما العراقيون أنفسهم يدفعون الثمن الأغلى. أميركياً، لن يفيد استمرار الادارة الاميركية في النفي والتظاهر، وعليها الآن ان تحشد وزنها وراء أي من الخيارين. فإذا قررت الحسم العسكري يجب على جورج بوش ان يدعو الى التجنيد العسكري الاجباري وارسال 200 ألف جندي الى العراق. فإذا لم يكن قادراً على ذلك، فإن الخيار السياسي يتطلب استراتيجية متكاملة غير تلك المسماة استراتيجية المضي في المسيرة العسيرة.