قصة المافيا في العالم أقدم من أن تتذكر بداياتها الأجيال الحالية، التي تعرفت عليها من خلال أفلام سينمائية كثيرة، أشهرها على الاطلاق "آل كابوني". وهو اسم زعيم المافيا في مدينة شيكاغو الأميركية في عشرينات القرن الماضي، حيث يعلن المفتش "إليوت نِس" حرباً ضارية ضد رجل العصابات المذكور. وكذلك "دون كورليوني" في "العراب"، الفيلم الشهير الذي أخرجه فرنسيس فورد كوبولا. والمافيا ليست قصة خيالية للاستهلاك، بل هي واقع أليم عجزت الدول، طوال عشرات السنين، عن القضاء عليها. فهي، في عصرنا الحديث، تتغلغل في الاقتصاد العالمي لتنهشه من الداخل، على شكل مجموعات عالمية متخصصة في الجريمة، تعمل في مختلف المجالات ومنتشرة في كل القارات، مما دفع دول العالم الى التعاون للوقوف في وجهها وردعها. فكانت "معاهدة باليرمو" ضد الجريمة المنظمة عبر العالم، التي دعت إليها الأممالمتحدة وتم توقيعها عام 2000 في المدينة الإيطالية، وشاركت فيه 123 دولة رقم قياسي في تاريخ الأممالمتحدة. وبدأ تنفيذ هذه المعاهدة في 29 أيلول سبتمبر الماضي بعد الموافقة النهائية لنحو 40 دولة، من بينها دولتان فقط في الاتحاد الأوروبي فرنسا واسبانيا ودول عدة تعاني من خطر عصابات المافيا ألبانيا، المكسيك، نيجيريا، تركيا...، في غياب ملحوظ للولايات المتحدة والصين وروسيا حيث تنشط المافيا بشكل لا مثيل له منذ عشرات السنين. ورافق المعاهدة ثلاثة بروتوكولات مهمة عن المتاجرة بالأشخاص خصوصاً النساء والأولاد، وتهريب الأفراد، وصناعة الأسلحة وتهريبها. لقد وقف العالم في السنوات العشر الأخيرة عاجزاً أمام هذا السرطان المتفشي. وبعد انهيار جدار برلين عام 1990، انتشرت المافيات لتشمل دولاً كثيرة أخرى، تسرح وتمرح على هواها، في غياب قانون دولي موحد حيالها، وبوجود الرشوة والفساد على أعلى المستويات في الكثير من دول العالم، حتى في أكثرها "حضارة"، مما أطلق العنان للمافيات الكبرى مثل "الكازانوسترا" الصقلية، و"الياكوزا" اليابانية، والمجموعات المنظمة الصينية والمافيا الألبانية والتركية وغيرها. وأخذت هذه العصابات، وبوسائل معروفة كالترهيب وتشجيع الرشوة والفساد والعنف والقتل، تتغلغل وتنهب الاقتصاد الشرعي للدول. وهي عرفت كيف تنشر أنشطتها عالمياً، وتوسع "أعمالها" لتشمل العالم ببضائعها المتنوعة: مخدرات وأسلحة ومجموعات بشرية وأفراد. حتى أنها نجحت وتطورت اقتصادياً وعالمياً وبسرعة أكبر من الاقتصاد المشروع، فجنت أرباحاً هائلة. وفي هذا المجال، يقدّر مكتب مراقبة المخدرات ومكافحة الجريمة في الأممالمتحدة أن الرقم المتداول في تجارة المخدرات وحدها لعام 2002 يراوح بين 300 و520 بليون دولار. كما ان مكتب مراقبة المخدرات في الولاياتالمتحدة يقدر ما سينفقه الأميركيون على شراء المخدرات على أنواعها حتى نهاية عام 2003 بأكثر من 60 بليون دولار. من الواضح ان هذه المبالغ المالية الضخمة هي مبالغ استراتيجية، وبما أن مصدرها الجريمة المنظمة، فإنها تؤثر تأثيراً بالغ السلبية وتحدث أضراراً جسيمة في الاقتصاد العالمي، بحسب رأي خبراء في أموال العصابات العالمية. ونذكر، على سبيل المثال، ما حصل في اليابان عام 1990، إذ حدثت خضة مالية كبرى ناتجة من أعمال مضاربة في البورصة قامت بها المافيات اليابانية، أهدرت 16 في المئة من الثروة الوطنية، أي ما يساوي مجمل خسائر اليابان في الحرب العالمية الثانية! من هنا كان من الضروري وضع مخطط دولي منظم، والتوقف عن الأعمال الفردية المعزولة التي أظهرت عدم جدواها، خصوصاً ان معلومات للأمم المتحدة بينت ان عائلات المافيا الصقلية مثلاً البالغ عددها 190، توزع أنشطتها بين 44 دولة في القارات الخمس، حسب اعترافات أعضاء سابقين فيها. فكانت المعاهدة الأخيرة للأمم المتحدة التي تدحض الفكرة السائدة اليوم ومفادها ان المافيا في انقراض مستمر، ولم تعد تشكل خطراً حقيقياً، وهو ما درجت بعض وسائل الاعلام على نشره، مؤكدة "موت" العصابات المافيوية، ما يخفف من الحذر العالمي والتعاون الدولي تجاهها، خصوصاً ان الأعمال المنفردة لمواجهتها أظهرت عدم فاعليتها. وهذا ما حدث في إيطاليا، إذ تبين، من معلومات أصدرتها إدارة مكافحة عصابات المافيا ان عدد "العائلات" المافيوية في صقلية عام 1985 كان 181 عائلة، ينتمي اليها 5487 "رجل شرف". وبعد 10 سنوات من الحرب الشرسة ضدها بعد مقتل القاضيين فالكوني وبورسيللينو عام 1992 حيث بدأت وسائل الاعلام تتحدث عن احتضار المافيا، تبين انه في نهاية عام 2002، أصبح عدد العائلات المذكورة 190 عائلة، ينتمي إليها 5200 من رجال العصابات المعروفين! ويعتبر خبراء الاقتصاد الليبراليون أن الجريمة المنظمة ليست سوى محفزٍ على استثمار الممتلكات والخدمات غير المعلنة، لأنها ممنوعة من الحكومات المحافظة: نشاطات جنسية ودعارة وألعاب ميسر في الأمس القريب، وصناعة وتجارة المخدرات اليوم، وتهريب بضائع تفرض عليها الدول ضرائب ضخمة، كالتبغ والسيارات في بعض الدول. وهي، حسب الخبراء، فكرة خاطئة. ذلك ان لا وجود عالمياً، في هذه الأوساط، لعصابات تعمل في مجال محظور واحد، لأن كل من ينتمي الى هذه المجموعات ليس سوى انتهازي يبحث عن الربح في مختلف المجالات، مهما كان نوعها. فتجار المخدرات الكبار يعملون أيضاً، أو سيوسعون أعمالهم، لتشمل المتاجرة بالجنس البشري والأسلحة. وقد تبين على مر السنين ان العصابات المنظمة تسيطر أيضاً على هذه السوق المربحة التي تنتج منها كوارث انسانية مؤلمة. لقد بينت احصاءات الأنتربول ومكتب الهجرة الدولي ان هذه المنظمات تقوم سنوياً باستغلال حوالي 3 ملايين شخص - غالبيتهم من النساء - من المراهقين والأطفال، وتتاجر بهم في مختلف أنحاء العالم دعارة وسرقة وتسول، ما يجعل من النساء المهربات عبر الحدود وبأسعار بخسة، خصوصاً من دول البلقان، مصدر عذابات وآلام لهن ولعائلاتهن، ومصدر ثروات طائلة للعصابات التي تقوم بالمتاجرة بهن. ففي البوسنة مثلاً، حيث يبلغ الدخل الشهري للفرد 200 دولار، يجني بيت الدعارة الواحد الذي يستخدم 10 فتيات مثلاً، نحو مليون ونصف مليون دولار سنوياً. وأحصي نحو 260 من هذه البيوت في البلاد، يستخدم كل منها ما يزيد على 10 فتيات. في المقابل، تقوم تجارة أخرى لا تقل خطراً عن سابقتها، وهي تجارة الأسلحة الخفيفة بنادق ورشاشات ومسدسات وألغام، قدرت الأممالمتحدة قيمتها سنوياً ببليون دولار ناهيك بصفقات أسلحة ثقيلة ضخمة. وهي أسلحة فتاكة، إذ تبين أنها وحدها "أسلحة الدمار الشامل" الحقيقية، التي تستعمل حقيقة على الأرض، والتي نتجت عنها كوارث كثيرة، إذ أدت إلى سقوط حوالي 500 ألف قتيل في صراعات محلية واغتيالات وجرائم وانتحارات، أي نحو 57 وفاة في كل ساعة على مدار السنة! وهكذا يتبين ان نشاطات المافيا العالمية تلقى الدعم المطلوب وتتشعب في مجالات كثيرة، من دون حسيب ولا رقيب، حسب ما استنتجته مكاتب الأنتربول. ذلك ان ردع نشاطات هذه المافيات في تبييض أموالها يظهر من خلال الأموال والممتلكات المحتجزة من الهيئات الرسمية المولجة التصدي لها. وما تبيّنه أعمال التصدي هذه هو أن الأموال والممتلكات المصادرة قليلة جداً بالنسبة الى الأرباح الهائلة التي حققتها المافيات العالمية. فمنذ بدأ اعتماد سياسة عالمية لمكافحة تبييض الأموال أي منذ عام 1990 وحتى نهاية عام 2000، لا تتعدى الأموال المصادرة من الجريمة المنظمة 4 بلايين دولار، مع العلم ان ما جنته هذه العصابات لعام واحد 2002 يتعدى 350 بليون دولار! وهنا تظهر الهوة العميقة بين الرقمين، والكارثة الكبرى على الاقتصاد العالمي. لذلك كان لا بد من القيام بعمل دولي موحد، بإشراف الأممالمتحدة، لمواجهة هذه القوة المنظمة. تحدد المعاهدة أربعة اختراقات أساسية ينبغي على كل دولة وضع حد لها: المشاركة في احدى مجموعات الجريمة المنظمة، تبييض الأموال، الرشوة، وإعاقة التحقيقات. وهذه أعمال تقوم بها، بلا شك، كل العصابات المافيوية في العالم. لذلك رأت المعاهدة ان على كل الدول المشاركة في التوقيع إدخال هذه التصنيفات، من الآن فصاعداً، وكما تحددها الأممالمتحدة، في قانونها الجزائي. كما ان المعاهدة تشمل أيضاً الاجراءات الدقيقة للتعاون في التحقيق وتبادل المتهمين. ومن بين الاجراءات هناك خطوات جديدة لحماية ضحايا الجريمة المنظمة، كذلك حماية المرتدين التائبين الذين تشكل المعلومات التي يمتلكونها سلاحاً مهماً في يد العدالة، في حال ادلائهم بها. فأصبح بإمكانهم، في هذه الحال، الحصول على عفو خاص، وهوية جديدة، والانتقال الى بلدان أكثر أماناً. والأهم أنه أصبح في إمكان الأجهزة الأمنية في البلدان المختلفة، التعاون في ما بينها مباشرة من دون تدخل من الهيئات العدلية، لكشف هوية هذه العصابات، بأقصى سرعة ممكنة في غياب العوائق البيروقراطية. كما ان الدول الموقعة على المعاهدة ستزيد عليها لاحقاً بندين يتعلقان بالمتاجرة بالرقيق الأبيض والأطفال، وبتهريب الأشخاص عبر الحدود. يبقى ان على الدول المشاركة في هذه المعاهدة تطبيق بنودها بشكل صحيح، والتعاون الجدي في ما بينها للتوصل الى النتائج المتوخاة، ووضع حد لهذه الكارثة البشرية الحقيقية أشهر العائلات المافيوية العالمية 1- الإيطاليون - الأميركيون كوزانوسترا الأميركية: هنالك نحو 15 عائلة تعمل في الولاياتالمتحدة من أصل 24 أحصيت سابقاً، تعتبر 10 منها نشيطة ومخيفة، تمارس أعمالها في نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس ونيو أورليانز وفي كندا. وتقوم بأنشطة محظورة مختلفة أهمها: الخوّة على المؤسسات والتجارات الكبرى والمهن المختلفة وتجارة المخدرات والاحتيال والربى وألعاب الميسر وقرصنة نشاطات بورصة نيويورك وول ستريت. 2- المكسيكيون كارتل: تقوم 5 من أكبر المجموعات المكسيكية في الجريمة المنظمة باستيراد نصف كمية الكوكايين المستهلكة في الولاياتالمتحدة. وهي تنتج الهيرويين أيضاً والامفيتامينات وحشيشة الكيف. واستطاعة السلطات المحلية توجيه ضربة كبيرة الى ثلاث منها، بتوقيف زعمائها، وهي كارتلات غوادالاخارا، والخليج، وتيخوانا. 3- الإيطاليون كوزانوسترا: يبلغ عدد "عائلات" الجريمة المنظمة في جزيرة صقلية 190 عائلة، 89 منها في ريف باليرمو، يبلغ عدد عناصرها 5200 رجل. وفي كالابريا 155 عائلة و600 رجل تنتمي الى الندراغيتا، وفي نابولي وجوارها 100 عائلة و6000 رجل، وهي أوسع المافيات العالمية انتشاراً وأقدمها. من أهم أعمالها: الخوّة، قرصنة الأسواق العامة، أعمال التهريب العالمية الضخمة، المخدرات، الأسلحة، الأشخاص... وهي ما زالت تشكل أضخم قوة مالية في إيطاليا. 4- الأتراك مافيا: تعتبر المافيا التركية الأقوى والأكثر تأثيراً على السياسة بين الدول الأوروبية. من بينها عشر عائلات كبرى، تركية وكردية، بإمرة عرابين أمثال سادات بكر، أونور أوزبيزر ديك، حسين بايبسين، علاء الدين جاكيجي. وهي منتشرة في ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا ودول البينيلوكس وأوكرانيا والجزء التركي من قبرص. من أهم أعمالها تجارة الهيرويين بين آسيا الوسطى وأوروبا وأعمال التهريب المختلفة والتزوير والألعاب الممنوعة والخوّة والدعارة وقرصنة الأسواق العامة ومباريات كرة القدم والمتاجرة بالأشخاص من آسيا والشرق الأوسط باتجاه أوروبا. 5- اليابانيون ياكوزا: أحصت الشرطة اليابانية عام 2002 ما يزيد على 84400 شخص ينتمون الى المافيا اليابانية، بينهم 60 في المئة ينتسبون الى المنظمات الثلاث الأقوى في اليابان: ياماغوشي غومي، أيناغاوا كاي وسوميوشي كاي. وهي تنتشر في الكوريتين وفي تايلاند وفييتنام وكمبوديا والصين وتايوان والفيليبين وأسترالياوالولاياتالمتحدة هاواي والشاطئ الغربي. أهم نشاطاتها: الخوّة المكثفة شركات ومصارف وعقارات، قرصنة الأسواق العامة، الدعارة، الألعاب الممنوعة، تجارة المخدرات والأسلحة. 6- الكولومبيون كارتيليتوس: هناك نحو عشرين مجموعة انبثقت من المجموعات الأساسية في ميديلين وكالي، وهي تعمل عبر شبكات مترابطة ومتباعدة في الوقت نفسه كما تعمل بسرعة كبرى، وتقوم بأعمال قتل أقل، وبأعمال رشوة كثيرة. كما انها ما زالت تنتج نحو 700 طن من الكوكايين سنوياً و70 في المئة من الهيرويين المستهلك على الشاطئ الغربي للولايات المتحدة. زادت الأراضي الكولومبية المزروعة لإنتاج الكوكايين في كولومبيا، بين 1980 و2002، من 5000 هكتار الى نحو 150 ألف هكتار. وهذا دليل ساطع على ضعف أعمال التصدي لها في السابق. 7- الألبانيون: وهم الأكثر سرية وعنفاً بين عصابات العالم للجريمة المنظمة، ومجموعاتهم منتشرة في ألمانيا والنمسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ والنروج وهولندا والسويد وسويسرا وبلغاريا وتشيخيا وبولندا وتركيا. ومن أشهر أنشطتها سرقة السيارات والمتاجرة بها، وكل ما هو محظور عالمياً. 8- الصينيون: يبلغ عدد المافيا الصينية نحو 150 ألف رجل، ينتشرون في أسترالياوالولاياتالمتحدةوكندا وأوروبا الغربية والشرقية، ويقومون بتجارة المخدرات والأشخاص وتقليد الماركات العالمية والفيديو والبطاقات المصرفية والألعاب المحظورة والخوّة والربى والدعارة. 9- الروس براتفا: يندرج في المافيا الروسية نحو مئة "مؤسسة اجرامية" منظمة ومنتشرة في العالم، يبلغ عدد عناصرها 20 ألفاً. من بينها نحو 10 عائلات كبرى منتشرة بين موسكو وسان بطرسبورغ والشيشان. وهي منتشرة أيضاً في جنوب أفريقيا وألمانيا وبلجيكا وكنداوالولاياتالمتحدةوفرنسا واسرائيل وإيطاليا وسييراليون وسويسرا، تقوم بأعمال مختلفة محظورة كالاختطاف والخوّة والاغتيالات المدفوعة ونهب المواد الأولية نفط ومعادن... والتهريب والأسواق السود... داخل روسيا، كما تقوم عالمياً بعمليات تهريب ضخمة وتتاجر بالأشخاص والأسلحة والمخدرات والماس والابتزاز المعلوماتي