دانيال ميتران، المولودة في تشرين الأول أكتوبر من العام 1924، ستدخل عما قريب عامها الثامن والسبعين. وهي في الآونة الأخيرة أصيبت بذبحات صدرية خطيرة، غير ان هذا لم يمنعها من أن تظل امرأة نشيطة وحيوية، فهي تتوجه صبيحة كل يوم الى مكتبها في مؤسسة "فرنسا الحريات" لكي لا تخرج منه الا بعد السابعة مساء حين تشارك في سهرات عشاء مع الأصدقاء أو الرفاق المناضلين. ولا تعرف دانيال ميتران راحة في نهاية الأسبوع: "ان نهايات الأسبوع كلها، مشغولة من الآن وحتى شهرين بسفرات الى الخارج أو باجتماعات في باريس أو المناطق الريفية"، تسر لنا ارملة الرئيس الفرنسي الراحل خلال لقاء الحوار الذي بدأ في مكتبها في المؤسسة وأنجز في الشقة الصغيرة التي كانت اشترتها شراكة مع فرانسوا ميتران في الحي اللاتيني وسط باريس، غير بعيد عن كاتدرائية نوتردام قبل سنوات. كيف كان رد فعلك حين علمت بنتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية الاخيرة، وأدركت ان ليونيل جوسبان، مرشح اليسار قد استبعد، وان جان ماري لوبان هو الذي سينافس جاك شيراك في الدورة الثانية؟ - كان أول ما فكرت به هو عبارة "انها الكارثة". وبعد ذلك تذكرت ما كان يقوله دائماً رافاييل دويب، الأمين العام لمؤسسة "فرنسا الحريات" من أن "علينا ان نتعلم كيف نحول المصيبة الى فرصة لنا". فما الذي كان يعنيه ذلك التصويت الاحتجاجي؟ كان يعني رفض كل أولئك الذين كانوا يقولون انه لم يعد في الامكان مواصلة سياسة اليمين العالمية. والاشتراكيون، وهم في الحكم، لم يستطيعوا مقاومة هذه السياسة. ولنتذكر هنا ما قاله جوسبان يوماً: "ان لدينا حصيلة جيدة. نحن تلاميذ نجباء لصندوق النقد الدولي". لكنه لم يفهم ان المحتجين لا يريدون هذه السياسة. لذلك انتفضوا ضدها. إذن، هذا التصويت الاحتجاجي وصل حتى حدود الفوضى والعدمية. بيد انه كان، في الوقت نفسه، يذهب أبعد مما كان يُعتقد. انه، في الحقيقة، يحث الاشتراكيين اليوم على التسريع من وتيرة مقاومة النزعة البيو-ليبرالية. ومن المؤكد ان البديل في طريقه الآن الى التكوّن. وكان علينا ان نتوقع قفزة ما خلال الانتخابات التشريعية. صحيح انها لم تحدث، لكن الأمور ستسير حتماً في الاتجاه الذي كان المحتجون يتوقون اليه. على أية حال فإنني في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية اقترعت لمصلحة جاك شيراك أملاً في الحد من صعود الجبهة الوطنية. كان التغيب، بالنسبة إليّ، يعني التصويت الى جانب شخص مجرم. وكيف كان رد فعلك على نتائج الدورة الثانية وانتخاب شيراك؟ - شعرت بأنه كان من الخير للجمهورية أن تحقق ذلك الانتصار. لكنني لست أدري ما إذا كان شيراك كريماً الى درجة ان يحسب حقاً واقع كونه قد انتخب بفضل غالبية يسارية... فنحن إذا رصدنا تركيبة حكومته الجديدة سنكتشف ان ليس في الأمر أية ثورة راديكالية لديه. عندما صار فرانسوا ميتران وزيراً، بعد فترة يسيرة من زواجكما، رغبتِ في أن تصبحي معاونة له وتشاركيه في حواراته. لكنه قال لك: "ليست هذه بالفكرة الجيدة. ان الخلط بين العمل والعائلة أمر لا يلهمني جيداً" ألم تتمردي على هذا القول يومذاك؟ - كانت تلك وجهة نظره. وأنا كنت لا أزال يافعة. لم أكن قد نضجت كما هي حالي اليوم. ثم، هل ترى ان العمل معاً بشكل يومي كان حقاً أمراً جيداً بالنسبة الى زوجي؟ لقد كان فرانسوا ذا شخصية قوية جداً... ولطالما هزمت أمامه وتخلفت في سباقي معه. حدث لكِ ان لاحظت بسرعة ان لك غريمة في قلب فرانسوا ميتران وعقله: السياسة. يروي انه اختصر غداء عرسكما لكي يسرع الى اجتماع سياسي... - ان كل الأزواج يعيشون هذا الأمر حين تكون الزوجة حبيبته... وأنا قبلت الأمر لأن الأفضلية عندي كانت لبقاء الثنائي الذي كنت أعيشه مع فرانسوا. اليوم أرى انني لو كنت في الستين من عمري يومها لما كان رد فعلي على ذلك النحو الذي كانه. ان علينا ملاحظة الطريقة التي تتطور بها الامور. كان يحدث لي مرات ان أقول له: هيا نذهب الى السينما فيجيبني: "لكن لدي اجتماع سياسي". لو كنت، يومها ملحاحة، لفسد زواجنا وأصبحت شديدة الميوعة. انك لا تتوقفين عن المفاجأة والادهاش. لقد كتبت في صفحات كتابك "بكل حرية" ان "عيش غراميات متفرقة ليس بالأمر الذي يستحيل تصوره". كيف يمكن للفتاة الرومانطيقية التي كنتها ان تكتب مثل هذا الكلام؟ - هي الحياة التي جعلتني أفكر على هذا النحو... حين كنت في الأربعين ووجدت ان لفرانسوا غرامياته الخاصة. ولكن فرانسوا كان يحيطني دائماً بصداقته العميقة، وبتعلّق كبير. فلماذا كان علي أن أتخلى عن هذا من أجل أمور لا أهمية لها؟ وماذا عن مازارين ابنة فرانسوا ميتران من امرأة أخرى عشقها؟ - ليست لدي رغبة في الحديث عنها. أجل، لقد قلت ان ولادتها لم تكن بالنسبة اليّ اكتشافاً ولا مأساة. لكنني اليوم لست أراني راغبة في العودة الى هذا الموضوع. اننا نتطور وننمو، وفي خضم ذلك نتعلم كيف نفرق بين الأمور. نود ان نتكلم عما هو مهم. كيف وصلت الروح السياسية اليك؟ - كانت عندي منذ يوم ولادتي. ان المرء منذ يولد، يأخذ مكانه في المجتمع وفي البيئة. لكنك رويت يوماً انك عندما كنت تحضرين في العام 1948 في هولندا مؤتمراً لارساء قواعد الاتحاد الأوروبي، استأت إذ رأيت فرانسوا ميتران لا يهتم بك، فما كان منك اعتباراً من تلك اللحظة إلا ان حولت جزءاً من غرامك، المفرط في استحواذيته، نحو موضوع شغفه هو: السياسة؟ - لا، أبداًَ لم أكن يومها منخرطة في الأمر. كنت هناك، هذا صحيح، وكنت أشهد على ما يحدث. وأتذكر حقاً أنني كنت مشطت شعري على الطريقة الرائجة المرفوعة وكنت أرتدي ثوباً أزرق... كل هذا صحيح وأتذكره، لكني لا أذكر انني كنت أشعر بأنني أعيش لحظة تاريخية كبرى. ذهبت يومها لأنني كنت عاشقة لزوجي. كنت شديدة الالتصاق به. يوم 10 أيار مايو انتخب فرانسوا ميتران رئيساً للجمهورية. ودخلتما الى الاليزيه في 21 من الشهر نفسه. كيف يا ترى كنت تتصورين دورك كزوجة للرئيس؟ هل تكلمت في هذا، قبلاً، مع فرانسوا ميتران؟ هل قال لك شيئاً عما ينتظرك هناك؟ وأنت، هل حدثته عما كنت تنوين فعله؟ - أولاً، انا لست زوجة الرئيس. أنا زوجة رجل صار رئيساً. وأنا كنت الوحيدة، بين زوجات الرؤساء كافة، التي آثرت أن تبقى بعيدة يوم التسلّم. لم أكن الى جانبه يومها، ولم أتقدم قائلة: أنا زوجة الرئيس. ثم ماذا؟ هل كان علي أن أتناقش في الأمر معه؟ أبداً... ان الأمور لم تجر على تلك الشاكلة. ما يحدث هو ان المرء يدخل الى الميدان ويسأل نفسه: "ما الذي أريد ان أفعله؟" يومها دخلت مكتباً كانت تشغله السيدة فاليري جيسكار ديستان، وكان خالياً خاوياً تماماً. وهكذا أعدت تكوين أمانته العامة بشكل يتلاءم مع أهدافي التي كانت تقوم على تنوير كل أولئك الذين كانوا يكتبون إليّ طالبين مساعدتي في مشاكل العمل والسكن، وفي مسائل حقوق الإنسان والمغتربين واللاجئين السياسيين. هنا، أرجو ألا تنسى ان قصر الاليزيه دار عسكرية يديرها ضابط عسكري كبير. وهكذا حدث ان رُفضت من فوري، مثلما يُرفض المدنيون دائماً من قِبلَ العسكريين. مثلاً، بدت لي موازنة نفقات التغذية باهظة ومبالغاً فيها. درستها بعمق ثم رغبت في أن أغير بائعي الطعام الذين يموّنون حفلات الاستقبال في قصر الأليزيه. صحيح انني تمكنت من التعاقد مع واحد جديد، لكنني أدركت فوراً ان ليس في امكاني أن أغير كل شيء... ومع هذا تمكنت خلال 14 عاماً من أن أحدث بعض التأثير. وأنت وفرانسوا ميتران معاً... أفلم تحاولا تغيير النظام العسكري هناك؟ - وكيف يمكن تغييره؟ ان الأليزيه ليست له موازنة خاصة، فهو يعيش على موازنات الوزراء... ونحن لم ندخله من أجل احداث مثل هذا التغيير الجذري فيه. لم يكن هذا بالأمر الجوهري. الجوهري بالنسبة الينا كان يكمن في تطبيق ال110 بنود التي كان يتألف منها البرنامج المشترك لاحزاب اليسار... كان الجوهري يكمن في التصدي لبلدوزر النيوليبرالية. من بين زوجات الرؤساء السابقين، هل كانت ثمة واحدة كنت ترغبين في استلهام تجربتها؟ أم واحدة لم تكوني راغبة في السير على خطاها مهما كلف الأمر؟ - ان استلهم زوجات الرؤساء الآخرين؟ كان يمكن ان يكون في هذا تعبير عن نقص في الشخصية لدي، يحمل الكثير من المبالغة. ان المرء لا يحاول الدخول في رداء ما، بل على العكس يدخل الرداء في جسده. لم يكن من شأني أبداً أن أكرر تجربة "مؤسسة كلود بومبيدو" فأنا، في الحقيقة، لم أكن لأملك معارفها في فن الرسم. وسيلة التعبير لدي هي الدفاع عن حقوق الإنسان. في الاليزيه وطوال تلك الأعوام الأربعة عشر، هل تمكنت من احداث تأثير انعطافي في سياسة فرنسا؟ أو بالأحرى، أين كانت نجاحاتك الرئيسية واخفاقاتك الكبرى؟ - لقد سعيت جهدي، وكنت أقول للرئيس: طالما ان لديك السلطة، فلماذا لا تفعل هذا أو ذاك؟ فكان يجيبني: ليست هذه باللحظة الملائمة. اذا قمنا بهذا الآن فسيكون الفشل نصيبنا. وهذا من شأنه ان يضعف القضية. فمثلاً في العام 1989 حين تخلى السوفيات عن الكوبيين، كان الأمر محنة هائلة بالنسبة الى هؤلاء. يومها سألت فرانسوا: لماذا لا تحل أوروبا هنا محل الاتحاد السوفياتي؟ فأجابني: "لو اقترحت هذا لن يوافقوا. فأوروبا شديدة الخضوع لسياسة الولاياتالمتحدة الشاملة...". والأمر نفسه حدث بالنسبة الى نيكاراغوا. يومها قال لي فرانسوا: "اننا هنا نطأ المجال الحيوي للولايات المتحدة... وهو أمر ليس في وسعنا". وهو كان أكثر خيبة مني. لقد واجهتني، على أية حال، خيبات كثيرة في حياتي. لكني في الوقت نفسه عقدت صداقات كثيرة في تلك المنطقة من العالم، وأصدقائي هناك يعرفون انني حاولت من أجلهم كثيراً. ولكنك حين دعوت الى قصر الاليزيه شخصيات كردية مثل مهدي وليلى زانا، شعرت انك حققت نجاحاً كبيراً... أليس كذلك؟ - نجاح كبير؟ أي نجاح؟ اليوم ليلى زانا، التي انتخبت عضواً في برلمان انقرة، ها هي في السجن. هل ربح الأكراد؟ أبداً. ربما أكون قد دفعت الأمور بعض الشيء الى أمام... لكن هذه لم تكن أكثر من ضروب رضى عابرة. رويت مرة انه حين كان لديك امر تريدين من فرانسوا ميتران، كنت تفضلين ان تتوجهي به اليه كتابة، بدلاً من الحديث مباشرة... لماذا؟ - كان هذا حين يتعلق الأمر بمسائل حادة شائكة. فأنا أعرف نفسي، وأعرف انني شديدة الحيوية، يحدث لي أن أفقد اتزاني وأعبر بشكل صارخ. لذلك، كان يحدث لي أمام بعض الأمور أن أجلس الى طاولتي لأكتب اليه باجتهاد وتؤدة. بعد ذلك كنت أضع الرسالة فوق سريره... وهو حين كان يشاهد المغلف يقول: "أو... لا... لا... ماذا لديك هنا أيضاً؟!". حين كنت في قصر الأليزيه، هل كانت السفرات الرسمية بالنسبة اليك متعة أم مشقة؟ ثم أية لقاءات مع زوجات رؤساء أجانب أثرت فيك كثيراً؟ - ماذا لو ننسى قصر الاليزيه... صحيح ان هذا استغرق 14 سنة من عمري. ولكن كانت لي حياة ووجود قبل ذلك. وكانت لي حياة ووجود بعده... بل عشت بشكل أفضل. المهم، لقد التقيت رايسا غورباتشوف مرات عدة. وكانت صديقة لي. وماذا عن السيدة مبارك؟ لقد ذهبت الى مصر مراراً، وشاهدت ألاطفال الذين ترعاهم الأخت الراهبة ايمانويل... التقيت كذلك السيدة رفسنجاني مع مجموعة من النساء الايرانيات. حدث ذلك في العام 1991 حين زرت الأكراد اللاجئين الى ايران. ولست أدري لماذا لم تكن نظرة تلك النسوة الايرانيات اليّ نظرة طيبة. لقد دار لقاؤنا وسط مناخ غير مشجع. قلن لي انهن لسن مولعات بالنساء الغربيات اللواتي يهتممن بثيابهن وزينتهن أكثر من أي أمر آخر. فقلت لهن انني أسافر كثيراً من أجل شؤون جمعيتي الانسانية ولم ألتق ميدانياً، بنساء ايرانيات كثيرات يهتممن بمثل هذه الأمور. لماذا أنشأت مؤسسة "فرنسا الحريات"؟ - ذات يوم، حدث ان خضت نقاشاً مع فرانسوا بعد اجتماع عقد مع أكبر المنظمات غير الحكومية في فرنسا. يومها كنت قلت لمسؤوليها: "ربما تكون لدي علاقات مهمة... وربما أكون على هذا الصعيد مفيدة لكم". لكنهم اعتقدوا ان زوجة الرئيس انما تريد استيعابهم والتأثير عليهم. وأحسست بالخيبة ازاءهم. بعد ذلك كنت أتجول في الحديقة مع فرانسوا وقال لي: "لماذا لا تنشئين مؤسسة خاصة بك... عند ذلك يمكنك ان تحدثيهم حديث الند للند". وهكذا أسست جمعية أولى، ثم اثنتين اخريين. ثم، لكي أوفر لعمل جمعياتي مزيداً من التجانس جمعتها كلها تحت شارة واحدة هي "فرنسا الحريات". في كتبك لا تتحدثين عن الفلسطينيين. تهتمين بالأكراد وبالتيموريين، بالقومندان ماركوس في المكسيك، ونيكاراغوا، ولكن ليس بالفلسطينيين... لماذا؟ - ومع هذا تراني أهتم بأمرهم وأتابع الأحداث عن كثب. ان هذه الحرب مأسوية. وضحاياها فلسطينيون واسرائيليون سواء بسواء. أما مخططو العمليات فيعيشون بعيداً عن ديارهم. حين أتحدث عن الأكراد، فلأنهم طلبوا مني الحديث عنهم. سألوني ان أكون صوتهم في وقت لم يكن أحد يصغي فيه اليهم. والتيموريون كذلك طلبوا مني ان اتكلم من أجلهم يوم كانت أندونيسيا من تلامذة صندوق النقد الدولي النجباء. لكن الفلسطينيين لم يطلبوا مني أن أتكلم من أجلهم. لقد عبرت عما أعرفه بشكل جيد. لكنني قابلت ليلى شهيد مفوضة فلسطين في فرنسامرات عدة. انها امرأة لطيفة تعيش جرحها العميق ويمكنني أن أفهمها. الأكراد يسمونك أم الأكراد. فكيف بدأ هذا كله بالنسبة اليك؟ - بدأ هذا مع مهدي زانا، عمدة ديار بكر السابق، ذات يوم جاء شخص لمقابلتي - وكان ذلك أوائل الثمانينات - وأخبرني ان مهدي يعذب في السجن، وان محاكمته قيد الاستئناف وانه قد يحكم عليه بالاعدام. على الفور أرسلنا مراقبين. ويومها بفضل وجود عين أجنبية، تفادي مهدي الحكم بالاعدام. وفي خضم ذلك تعلمت كل شيء، وتحديداً بفضل كيندال نيزان الذي علمني من هم الأكراد، وجعلني التقي زعيميهم: جلال الطالباني ومسعود البارزاني. التقيت كذلك موسى عنتر وهو مثقف كردي من تركيا اغتيل في شهر أيلول /سبتمبر 1992 وكان في الرابعة والسبعين من عمره وسافرت الى ديار بكر حيث واعدني موسى على اللقاء عند منتصف الليل وجاء سراً لملاقاتي في الفندق. ليلى زانا جاءت أيضاً للقائي تلك الليلة. وبعد ذلك ساهمت احدى جمعياتي وهي جمعية "القضية المشتركة" - في انشاء "المعهد الكردي" في باريس في العام 1983... ثم كان تحول الاهتمام وتشعبه، وهكذا بعد أكراد تركيا كان دور اكراد العراق. كيف تشرحين انه، على رغم كل جهودك، فإن ليلى زانا التي انتخبت، ديموقراطياً، عضواً في برلمان انقرة، لا تزال نزيلة السجن؟ كيف يمكن للنواب في البلدان الأوروبية ان يتهاونوا مع مثل هذا الأمر؟ - انك من دون شك تعرف الاطروحات الرسمية: ليلى زانا تمثل حركة ارهابية، ولم ينلها إلا ما تستحقه. وانه لمن الصعب علينا ان نُفهم أوروبا ان العكس هو الصحيح: الارهابيون هم الدولة التركية. هل تفكرين في بعض الأحيان انه كان في امكانك ان تحققي أفضل مما حققت؟ - ان احد أكبر مسراتي وأحد أكبر انتصاراتي يكمن في عقد قمة بورتو اليغريه. لقد توجهت اليها والتقيت هناك أشخاصاً كثيرين كنت التقيهم في أماكن أخرى، وكانوا يرغبون في أن يعيشوا حياة مختلفة. ومن دون أن نعرف، كنا نبني عالم الغد، مع اننا لم نزرع في كل الرياح. لماذا تراني أشعر دائماً بألم في رأسي؟ انني أعيش وسط حسابات تملأ هذه الرأس. حسابات بعضها يتعلق بمشكلات الماء: كيف العمل من أجل توفير 40 ليتراً من الماء يومياً لكل فرد. من دون ماء لا يمكن ان يكون هناك عيش، بل موت لا أكثر. إذا أعطيت الحياة لشخص ما، عليك ان توفر له امكانات الحياة أيضاً. إذن، على البلديات ان "تفوتر" ابتداء من الليتر الحادي والأربعين، بمعنى ان على الأربعين الأولى ان تكون مجانية. وفي مثل هذه الحال من المؤكد ان الناس لن يبذّروا المياه، لأنهم يعرفون انهم سيدفعون ابتداء من الليتر الاضافي. فلنعد اليك... كنت تعانين من المرض؟ - كنت على وشك أن أموت. بل حدث لي أن مت مرتين. اليوم تحسن وضعي، وأملأ وقتي بشكل جيد. لكن امامي أمور كثيرة يجب القيام بها لكي أستعيد ماضيّ وأعود اليه. لكنك تعلمين ان الرسالة لكي تصل جيداً، يجب ان تكون شخصية... - لقد عانيت كثيراً من الشخصنة، وليس بالأمر السهل ان يكون اسم المرء ميتران. الناس إما أن يرموك بالحجارة، واما أن يحتفوا بك معانقين بحماس... لكنهم في الحالين لن يصغوا جيداً الى ما تقول. تتحدثين غالباً عن "ملعونك الصغير" عن ذلك العفريت الصغير الذي يهمس أشياء في أذنك. ما هو هذا العفريت بالتحديد؟ - انه "ملعوني الصغير" الذي يقول لي: افعلي هذا، أو لا تفعلي ذاك. لكنه بين الحين والآخر يمنعني من التفكير، ويدفعني الى عمل أمور لا أفكر فيها. حين كان فرانسوا رئيساً، كنت أصل الى مكان ما، حين يكون الناس جميعاً متنبهين. يومها كنت أعبر عن أفكار فضفاضة بعض الشي. ما هي؟ لن أقول لك. أقول فقط ان على المرء ألا يحمل نفسه على محمل الجد كثيراً. وأقول أيضاً انني كنت على الدوام ذات عين نافذة. وكان يحدث لي أحياناً أن أقهقه أمام أمر ما في ضحكة مجنونة. في كتبك غالباً ما تتساءلين عما إذا كان من شأنك أن تفعلي الأمور بشكل أفضل لو قيض لك ان تفعليها من جديد... فما الذي كان يمكنك ان تفعليه بشكل أفضل؟ - أنا واقعية بما فيه الكفاية، وأعرف ان المرء لا يمكنه صنع حياته من جديد. لذا فلننظر الى المستقبل. أنا اليوم أشتغل في منزلي على جهاز الكومبيوتر الخاص بي. وأكتب كثيراً. وما سأنجزه سيكون عن الارهاب الامبريالي