في جلسة خاصة في القاهرة جمعت مسؤولين فلسطينيين مع بعض أصدقائهم الصحافيين المصريين، بادر أحد الصحافيين الى طرح السؤال: هل سيتمّكن هذه المرة بطل البقاء ياسر عرفات من كسب معركة البقاء الصعبة؟ إبتسم أحد المسؤولين الفلسطينيين وبادر سريعاً الى الرد: "إنطباعك في محله. الوضع صعب للغاية. لا بل هو قد يكون أصعب وضع واجههه عرفات شخصياً منذ 30 عاماً. لكني واثق بأنه سيتمكن من إستخدام "روحه التاسعة" لتجاوز المخاطر الحالية". ضحك الجميع، إلا طارح السؤال. فهو أعرب عن اعتقاده بأنه حتى لو تّمكن عرفات من امتلاك حتى "روح عاشرة"، فإنه لن ينجح في الخروج سالماً من الورطة الكبيرة الراهنة. من على حق: المسؤول الفلسطيني المتفائل، أم الصحافي المصري المتشائم؟ الجواب على هذا السؤال يستوجب الرد أولا على سؤال آخر قبله: هل عنى الرئيس الاميركي جورج بوش ما عناه في مبادرته الاخيرة، حين ربط صعود الدولة الفلسطينية بسقوط ياسر عرفات؟ وسائل الاعلام الغربية والاسرائيلية، اعتبرت أن الرسالة المتضمنة في الخطاب مفهومة وواضحة ولا لبس فيها: على الرئيس عرفات حمل عصاه على كاهله والرحيل الى كتب التاريخ. وعلى الفلسطينيين "انتخاب" قيادة بديلة تقوم بتنفيذ الاصلاحات، قبل أي تفكير بتأسيس دولتهم المستقلة. لكن من فتّش ملياً عن اسم الرئيس عرفات في الخطاب، لم يجده. صحيح انه كان هناك آثار أقدام تشير اليه، الا ان هذه قد تكون مؤشرات مضللة تدل على الشيء ونقيضه في آن. ما قرأه المحللون في الخطاب شيء آخر: خيبة أمل البيت الابيض من عرفات تحّولت الى نوبة غضب ضده، فصدر ما اعتبره الكثيرون قرار الاعدام السياسي بحقه. وهذا امر أكدته "نيويورك تايمز" حين اشارت الى ان النص الاصلي لخطاب بوش لم يكن يتضمن الدعوة الى إزاحة عرفات، وان الفقرة المتعلقة بهذا الشأن أضيفت فقط بعد العمليات الاستشهادية الاخيرة. "نوبة الغضب"، اذاً، هي السبب. وهذه النوبة ربما تهدأ لاحقاً لتفسح المجال امام دور جديد ما للرئيس عرفات في سياسات بوش الفلسطينية - الشرق أوسطية الجديدة. وهذا رهان عبّر عنه بوضوح ممثل عرفات الرسمي في واشنطن حسن عبد الرحمن. قال: "الرئيس بوش طلب انتخابات تنتج قيادة جديدة. ونحن مصممون على اجراء الانتخابات. ياسر عرفات ملتزم إجراء الانتخابات". لكن ماذا جرى؟تى وصلت الامور الى ما وصلت اليه الان من تهديدات وجودية على عرفات؟ الصورة تبدو كالآتي: الرئيس الفلسطيني قدّم للرئيس بوش التزامات محددة بتنفيذ كل طلباته السياسية والاقتصادية والامنية. وهو لهذا الغرض وقّع عشية مبادرة بوش المراسيم الخاصة باجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في كانون الثاني يناير 2003، أضافة الى القرارات الاخرى المتعلقة بتنظيم الاجهزة الامنية. لكن العمليات الاستشهادية، خاصة تلك التي نفذّها "التنظيم" التابع لحركة "فتح"، رسمت علامات استفهام كبرى في واشنطن حول دور عرفات: فإما انه ضالع او متورط فيها كما اتهمه بوش، ام انه عاجز عن وقفها بسبب خروج الوضع عن نطاق سيطرته. وفي كلا الحالين، على عرفات ان يثبت العكس. وهذه المرة ليس بالبيانات بل بالافعال، اذا ما أراد البقاء في لعبة السلطة. بالطبع، ما زال في امكان عرفات الاثبات لواشنطن مجدداً انه رجل لا غنى عنه، عبر استنفار الروح الوطنية الفلسطينية ضد محاولات مصادرة قرارها المستقل، وأيضاً عبر دحرجة رؤوس القادة المرشحين لخلافته. وفي وسعه مواصلة الرهان على تهدئة الغضب الاميركي، من خلال تقديم المزيد من التنازلات، كما فعل قبل أيام حين أعلن موافقته على خطة كلينتون التي تغلق ملف عودة اللاجئين الفلسطينيين. ثم هناك دوماً خيار قلب الطاولة على رؤوس الجميع، الذي يتمثل بترك موتى اوسلو يدفنون موتاهم، وفي عودته الى كنف منظمة التحرير الفلسطينية. كما يمكنه أيضا الرهان على جوانب "البلف" و"التكتيك" في خطاب الرئيس الاميركي.وهذا لن يكون رهاناً خاطئاً. فالكثير مما يجري من سياسات علنية في الشرق الاوسط، هو مجرد ظلال للسياسات الخفية التي تديرها اجهزة الاستخبارات والامن. الثانية هي الاصل، من أسف، والاولى هي الفرع، من أسف اكبر. والارجح الان ان المعركة الكبرى حول مصير عرفات، لا تبتعد كثيراً عن سياقات هذه الحقيقة. ومع ذلك، وعلى رغم هذه الحقائق المريرة حول معنى السياسة والسياسيين في الشرق الاوسط، ليس بالامكان القفز فوق المدلولات الاستراتيجية التي تضمنها خطاب بوش. وهي، على أي حال، مدلولات خطيرة. فكل المؤشرات يدل على أن مبادرة بوش، التي لا تبادر الى شيء، هي من حيث الشكل مجرد حملة "علاقات عامة" املتها العلاقات الخاصة للولايات المتحدة مع الحلفاء الاوروبيين وبعض العرب. فالاوروبيون قلقون جداً من احتمال خروج الوضع عن السيطرة في فلسطين وتمدده عبر العمليات الاستشهادية الى المنطقة العربية، ومن ثم قفزه عبر مضيق جبل طارق أو امواج المحيط الاطلسي الى القارة الاوروبية. والاصدقاء العرب ما زالوا يبذلون الجهود للخروج من دائرة الاتهام والادانة بعد احداث 11 ايلول سبتمبر، ويحاولون التأقلم مع متطلبات الحرب الاميركية ضد "الارهاب". لكنهم يحتاجون لاستكمال شروط هذا التأقلم، الى مظلة حل فلسطيني ما تقيهم لسعات ألسنة شعوبهم الطويلة. وكان يفترض أن تكون مبادرة بوش هي هذه المظلة او ورقة التوت. ثم هناك بالطبع الاجتهادات والانقسامات داخل الادارة الاميركية نفسها. فنائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد وباقي "الصقور"، يرفضون أية مبادرات ديبلوماسية قد يشتم منها الاصوليون العرب رائحة دم التنازلات. ووزير الخارجية كولن باول وباقي "الحمائم"، يعتبرون ان اقتصار الحرب ضد الارهاب على العنف دون الديبلوماسية، وعلى العصا دون الجزرة، سيسفر في النهاية عن انفراط عقد التحالف الدولي الكبير الذي أقيم بعد ضرب واشنطنونيويورك، وسيجعل الولاياتالمتحدة تبدو كفارس وحيد يحاصر منفرداً قلعة محّصنة. وبين صفوف الصقور ورفوف الحمائم، تحاول كوندوليزا رايس، مستشارة الامن القومي، أن تطوّر لنفسها شخصية أسطورية جديدة نصفها صقر ونصفها الاخر حمامة. ومع هذه الهوية الجديدة، تأمل كوندوليزا ان تكون المرجعية الوسطية والمقررة لكل الاطراف في ادارة بوش. ويبدو انها تحقق نجاحات. اذ تؤكد كل الترجيحات ان مبادرة بوش، التي جمعت بشكل متناقض مطلب المتطرفين والمعتدلين في آن، كانت أساسا من بنات أفكارها. نحوالتّعثر هذه، اذا، قد تكون بعض الظروف المعقّدة التي أملت ولادة المبادرة البوشية عشية قمة الثمانية الكبار في كندا. وهي، كما هو واضح، رد فعل لا فعل. استجابة لتحد عابر، لا محاولة حل جذري لمعضلة جذرية. وهذه المعطيات تزوّد المبادرة بشتى المبررات التي ستدفعها في النهاية الى التعثر أو حتى الانضمام الى رفوف التاريخ. وعلى أي حال، لا احد في فلسطين والمنطقة العربية يمكن ان يصّدق لحظة ان مشكلة الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي نابعة من غياب الديموقراطية الفلسطينية. ولا شارون ولا أي اسرائيلي آخر، سيكون مستعدا من الان وحتى قيام الساعة، لتسهيل ولادة دولة ديموقراطية فلسطينية، يمكن ان تشّكل نهاية الاستفراد اليهودي باللعبة الليبرالية في الشرق الاوسط. ماذا يعني كل ذلك؟ شيء واحد: مبادرة بوش قد تدفن قبل ان ترى النور. لا بل أكثر: كل شيء يوحي بأن بوش لن يكون حزيناً كثيراً اذا ما وصلت مبادرته الى نهاية حزينة. فهو، مثله مثل تشيني ورامسفيلد، لم يكن يريدها أصلاً. وحين أرادها، فعل ذلك بتردد وامتعاض شديدين، واعتبر انها ستحقق أهدافها بمجرد أن يصفّق لها الاصدقاء العرب والاوروبيون. اما وقد صفّق هؤلاء، فأن بوش سيّمني النفس الآن بطي صفحة فلسطين كيفما اتفق، تمهيداً لفتح صفحة العراق، وربما أيضاً لبنان وسورية وايران، كما اتفق هو مع مثلث تشيني - رامسفيلد - فولفوفيتز. ومع ذلك، وعلى رغم ان مبادرة بوش مجرد علاقات عامة لخدمة اهداف عامة خارج اطار القضية الفلسطينية، الا انها وضعت الرئيس ياسر عرفات أمام الخيارات المستحيلة الآتية: التخلي عن مضمون اتفاقات اوسلو، مقابل لا شيء. أو التخلي عن سلطته الوطنية، في مقابل لا شيء آخر. أو التخلي عن الانتفاضة، في مقابل لا اوسلو ولا سلطة. هكذا الامر بكل بساطة. اما كل تلك الاحاديث الوردية البوشية عن دولة فلسطينية تقود اليها اصلاحات ديموقرطية - سياسية، و اقتصادية - اجتماعية، وأمنية - قانونية، فليست سوى حرب شارونية بسياسة اخرى. وقد كشف شمعون بيريز اخيراً عن هذه الحقيقة حين قال ان "هدف الديموقراطية الفلسطينية ليس الديموقراطية في حد ذاتها، بل تحقيق السلام". وفي رسالة "من فوق الماء" الى عرفات، أردف بيريز: "اذا ما قام الفلسطينيون بحقيق السلام، فلا احد سيطالبهم بالديموقراطية". وحتى الرئيس بوش وصحبه في البيت الابيض لم يكونوا بعيدين عن هذا "التحليل" البيريزي. اذ ان مسؤولاً أميركياً كبيراً كشف النقاب قبل أيام عن ان الرئيس الاميركي لم يشترط دحرجة رأس عرفات لإقامة الدولة الفلسطينية لأن هذا الاخير تلكأ في تنفيذ الاصلاحات، بل لأنه تبّين لأجهزة الاستخبارات الاميركية انه لا يزال يدفع التعويضات لعائلات المقاومين الاستشهاديين. هذه الخيارات المستحيلة ستضع عرفات عاجلاً ام آجلاً وجها لوجه امام الحقيقة بأن مرحلة أوسلو ماتت وشبعت موتاً، وان الاميركيين والاسرائيليين لا يفعلون شيئاً الآن سوى الرقص فوق قبرها، وانه لكي لا يكون عرفات جزءاً من هذا الماضي الاوسلوي، يتعّين عليه أن يثبت بأنه جزء من المستقبل الانتفاضي الفلسطيني. وهذا ما يتردد الرئيس الفلسطيني الآن في فعله. صحيح ان تهديد أجنحة من "فتح" وكتائب الأقصى الاسبوع الماضي بالعودة الى نمط العمليات العسكرية التي نفّذت ضد المصالح الاميركية في السبيعينات، كان اول اشارة منذ وقت طويل الى أن عرفات ربما بدأ يفكر بالمستقبل الانتفاضي، الا ان الصحيح أيضاً انه ما يزال عليه أن يقطع أشواطاً عدة للوصول الى هذا الهدف. وهذا ليس امراً مفاجئاً. فالارجح ان عرفات ما يزال يراهن على أن الاميركيين "يبلفون" ويلعبون معه لعبة حافة الهاوية، لحمله على تنفيذ شروطهم. وهو ما زال أيضاً يأمل بأن يتمكن أصدقاؤه العرب في اقناع أصدقائهم الاميركيين بأنه لكي يطاعوا يجب ان يطلبوا منه ما هو مستطاع. ثم ثمة شيء آخر: على رغم ان أوسلو ماتت، الا ان احداً لم يعلن رسمياً بعد عن وفاتها. وهذا من شأنه أن يترك امام السلطة الفلسطينية حيزاً لا بأس به من حرية الحركة بصفتها حتى الآن على الاقل الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. بيد ان كل الرهانات، على منطقيتها، تبدو تكتيكية اكثر منها استراتيجية. لأن أميركا بعد مبادرة بوش، لم تعد هي نفسها اميركا قبل هذه المبادرة. فهي باتت شارونية وبالتالي لا اوسلوية الى حد كبير. وهي أصبحت أكثر تطرفاً حتى من شارون في اعتبار العنف الفلسطيني إرهاباً، والمقاومة الفلسطينية عنفاً. وفي مثل هذه المناخات، من المشكوك به كثيراً ان تنجح تكتيكات عرفات في كسر هذه التحولات الاستراتيجية الاميركية، والتي لم تكن تتراكم منذ اليوم الاول الذي تلى 11 ايلول. فهل يدرك عرفات هذه الحقيقة ويتصرف سريعاً على هذا الاساس؟ اذا ما فعل، فأنه سيجد منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها وامتداداتها وتاريخها، أكثر من جاهزة لوصل ما قطعته أوسلو من نضالات الشعب الفلسطيني. ومن يدري؟ ربما حتى "حماس" قد ترى نفسها حينئذ في مرآة منظمة التحرير؟ اذا ما فعل، فستكون "الروح التاسعة" قيد العمل، ولا تزال حية وتركل أيضاً من وماذا بعد عرفات؟ كيف يرى الاسرائيليون مرحلة ما بعد ياسر عرفات؟ في تشرين الاول اكتوبر العام 2001، صدر عن "مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الادنى" التي كان يرأسها مارتن انديك كتاب أشرف على تحريره روبرت ستالوف تحت عنوان "بعد عرفات: مستقبل السياسات الفلسطينية". في هذه الدراسة، يجمع ستالوف والعديد من الباحثين الاسرائيليين والاميركيين على أن الصورة يمكن ان تكون على النحو الآتي: بعد عرفات، لن يرتدي خلفاؤه البذة العسكرية، بل البذلة الغربية وربطة العنق، واحياناً الكوفية والعقال. وهذا سيكون رمزاً معّبراً عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. لكن ما السمات المحتملة لهذه المرحلة؟ الباحثون يقولون أن المخاوف من احتمال سقوط الاراضي الفلسطينية بين براثن الفوضى، مبالغ فيها. فعلى رغم ان السلطة الفلسطينية ليست دولة بالمعنى الشرعي او الرسمي، الا ان لها سمات مشتركة مع باقي الدول العربية المعاصرة: فهي سلطوية، وشديدة التمركز، وفردية السلطة. وهكذا، وعلى رغم وجود عشرات آلاف قطع السلاح في الضفة الغربية وغزة، الا ان معظمها تحت سيطرة المنظمات الحكومية او شبه الحكومية. اما حركتا "حماس" و"الجهاد"، فلا تملكان سوى مئات قليلة منها. اضافة، ليس في فلسطين تراث من الحروب الاهلية او مواجهات واسعة النطاق. قد تحدث اغتيالات او انقلابات، لكن ليس حروب أهلية. فحين تواجه النخب الحاكمة مخاطر التعرض للإطاحة بها، تلتف حول نفسها وتنشط للحفاظ على الاستقرار بأي ثمن. في الاوضاع الفلسطينية الراهنة، الاراضي مقسّمة عملياً بين القوات الاسرائيلية، والمستوطنات، والبنى التحتية للطرقات. واذا ما غاب عرفات، فسيتنافس القادة السياسيون والامنيون للسيطرة على المناطق التي يتمتعون بنفوذ أكبر فيها، لكنهم سيعملون أيضاً للمحافظة على تماسك السلطة الجماعية الفلسطينية. ويتوقع، تبعاً لذلك، أن تبرز "قيادة وطنية" من شخصيات سياسية وامنية. وفي المرحلة الاولى سيكون النفوذ العلني للسياسيين لكن السلطة الحقيقية ستنتقل بالتدريج الى القادة الامنيين بعد نهاية المرحلة الانتقالية. شعارات القيادة الجديدة ستكون الوحدة، والمساءلة، والشفافية، والمشاركة والديموقراطية. لكن هذا سيكون مجرد حبر على الورق على الغالب. وعلى رغم ان هذه القيادة لن تقدم لإسرائيل تنازلات سياسية اكثر مما قدّم عرفات، الا أنها ستكون جاهزة لتقديم تنازلات امنية لاسرائيل عبر الاميركيين. والحصيلة: السيناريو المحتمل بعد عرفات وفق الكتاب لن يكون حمام دم جماعياً، ولا استقراراً كاملاً، ولا تقدماً على جبهة السلام مع اسرائيل لكن لا حرب معها ايضاً. فالهم الاول والاساسي للسلطة الجديدة، سيكون المحافظة على سلطتها.