تبدو الصورة اختزالاً لظاهرة اجتماعية وثقافية، السيدة القروية التي كانت الى وقت قريب ترى العالم في أهل القرية ومزارعها وسوقها الاسبوعي، أصبح في وسعها الان ان تتحدث من قرية في ضواحي مدينة "الفقيه بن صالح" جنوب غربي الدار البيضاء الى ابنها المهاجر في روما، هي تفعل ذلك من سفح في القرية او لدى امتطائها الحمار عائدة من السوق، يداً تحمل العصا التي تهش بها على الكلاب والاخرى تحمل الهاتف النقال. هكذا تختزل الصورة عصرين، صفاء الحياة في الارياف وهدوءها ومحدودية فضائها وصخب التكنولوجيا في المدن، والأهم لدى السيدة الريفية ان ابنها الذي كانت تعتزم زفافه الى بنت العم اصبح الآن عريساً من نوع جديد، ففي الصيف المقبل، سيأتي من روما على متن سيارة فارهة وسيحكي عن مغامراته هناك وعن ظروف العمل الميّسرة وعن المال والعالم الاخر، لكنه لن يتحدث قطعاً عن مآسي الهجرة. ليست مدينة "الفقيه بن صالح" استثناء في الظاهرة، فقد تحولت إلى مدينة أحلام في عيون شبابها بعدما كانت مركزاً زراعياً صغيراً، انها تقدم النموذج لمغامرات أولئك الشباب الذين كانوا يراهنون على النزوح الى الدار البيضاء مركز النفوذ الاقتصادي والتجاري في البلاد بحثاً عن العمل. وأصبحوا الآن يتطلعون الى الهجرة نحو أوروبا في الضفة الاخرى شمال البحر الابيض المتوسط، وما حدث على امتداد سنوات الاحتقان الاقتصادي في المغرب منذ بدء تنفيذ برامج التقويم الاقتصادي والهيكلي وتراجع دور الدولة في القطاعات الانتاجية، ان آلاف الشباب المغاربة غامروا بالذهاب الى أوروبا عبر موجات متواصلة من الهجرات غير المشروعة، وبعدما كانت غالبية أولئك المهاجرين تتشكل من مزارعين وعمال بسطاء اصبحوا الآن خليطاً من الفئات والاعمار، وضمنهم حملة شهادات جامعية فضلوا العمل في المزارع الاسبانية وكروم قطف العنب الفرنسية او في التجارة غير المنظمة في شوارع روما او في مصانع وضيعة بعيدا عن رقابة القانون في المدن الاوروبية. لكن الحياة هناك على رغم قساوتها تبدو ملاذا افضل من انتظار المجهول داخل الوطن. ما بين السيدة القروية التي تمتطي الحمار وتتحدث عبر الهاتف النقال، وبين واقع ان الهجرة سكنت عقول الشبان، يلتقط مسرحيون مغاربة الجانب الهزلي في الظاهرة، حيث المهاجرون العائدون في مواسم الصيف يتحدثون بمزيج من اللكنات واللغات عن عالم سحري يقودهم الى جمع المال واقتناء السيارات واصطحاب النساء الجميلات، لكن برنامجاً تلفزيونياً قدمته إحدى القنوات يفضح المسكوت عنه في الصورة، إذ يتجمع المهاجرون المتحدرون من اصول مغربية في ملاجئ ويعيشون في تشرد ومطاردات هربا من اقتناص العنصرية او حملات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين. في حين ان احصاءات عن اعداد المتورطين في جرائم السرقة وتجارة المخدرات وتزوير تأشيرات السفر والاقامة تنقل أولئك المهاجرين الى مقدم الرتبة. وقد كشف رئيس الوزراء الاسباني خوسي ماريا اثنار ان 89 في المئة من المعتقلين في السجون الاسبانية أجانب لكن المهاجرين المتحدرين من أصول مغربية يأتون في الرتبة الثانية بعد الاكوادوريين، ولا زالت تسوية اوضاعهم القانونية بعيدة عن الانجاز، على رغم فتح السلطات سجلات، مرة كل سنة، لدرس طلبات التسوية. ويزيد عدد المهاجرين المغاربة في اسبانيا وحدها على اكثر من 180 ألف شخص من دون احتساب المهاجرين غير الشرعيين. الثمن الباهظ وإذ تبدو المسافة بين مدينة الفقيه بن صالح وضفاف طنجة والمدن الساحلية للبحر المتوسط لاتزيد عن400 كلم، فإن قطع حوالي 15 كلم في عرض الساحل المتوسطي في اتجاه أقرب ملاذ أوروبي على الساحل الجنوبيلاسبانيا عبر صخرة جبل طارق يحتاج الى ثمن أكبر، لا يحدده تجار الهجرة الموزعون في مناطق عدة، وإنما تكيفه الطبيعة، إذ تتعرض المراكب الصغيرة الى الغرق والاتلاف، ما حوَّل صفاء البحر الأبيض المتوسط الى مطاردات يستخدم فيها الاسبان والمغاربة على حد سواء الطائرات المروحية وأجهزة الانذار ومكبرات الصوت للتنبيه الى اكتشاف زورق تائه، ولا يبدو ان تزايد اعداد الضحايا في ممر الموت هذا الذي فاقت آلاف الاشخاص مابين غرقى ومفقودين يثني المغامرين الشباب عن معاودة ركوب المخاطر. إلا ان المأساة الانسانية بلغت ذروتها عندما تعرض زورق صغير للمهاجرين صيف العام الماضي للغرق في عرض البحر المتوسط بسبب حمولته الكبرى ورداءة احوال الطقس، ما حدا المغامرين الى الدفع برفاق لهم الى البحر للموت غرقاً، وبدت الظاهرة محيرة لرجال القانون عندما درست احدى المحاكم ملفات المتورطين الناجين، وهل كانوا مجرمين ينطبق عليهم القتل المتعمد ام انه الدفاع عن النفس حيال موت محقق في الامكان ان يخفف عنهم الاحكام القاسية، لكن انواع هذه المغامرات لا تقتصر على الشبان وحدهم وبعضهن حوامل. وصرحت احدى الضحايا التي كانت تحمل رضيعها في رحلة الموت الى اوروبا انها فقدت كل الامال ولا تريد لصغيرها ان ينال المصير نفسه. في حين ان احدى الحوامل من المهاجرات قالت إنها تأمل في ان يمنحها وليدها المرتقب الجنسية الاوروبية. وبالعودة الى حكاية المرأة القروية مع الهاتف النقال سنلاحظ ان الهاتف ذاته سيستخدم في رحلات قوارب الموت، ومكَّن من انقاذ أرواح مغامرين عندما أجروا اتصالات مع ذويهم وأصدقائهم طلباً للنجدة من موت محقق في عرض البحر. لكن الهاتف وحده لا يصنع الحياة. وكما ان الطلب متزايد على الهجرة، فإن العروض بدورها تكون أكثر. لذلك تنامت في غفلة شبكات الاتجار بالهجرة غير المشروعة واصبح لها زبائن ومروجون وآلة دعائية تنقل الاخبار من الفم والاذن مستغلة رغبة الناس في اقتناص الطرائد، لكنهم في الظاهر شبان حالمون بعضهم يوحي لعائلته انه وجد فرصة للعمل في الخارج ويحتاج الى بضعة آلاف من الدولارات لاقتناء عقد العمل، وبعضهم يدفع بما توافر اليه من تقشف وزهد في الحياة لقاء رحلة اللاعودة، وبعضهم يركن الى اصطياد فرصة سانحة للاختفاء بين عجلات احدى الحافلات أو وسط حاويات في البواخر التجارية لعبور الحدود، لكن المأساة ان الاختفاء في هكذا ظروف بسبب الاختناق في غالب الاحيان. وما أقصر العمر حتى يضاع في مغامرات من هذا النوع. يقول الشاب الذي جاء من قرية نائية جنوب البلاد الى مركز العبور في طنجة، "حاولت مرات عدة في ظروف اكثر صعوبة، لكنني مستعد لمعاودة المغامرة". والظاهر ان مقولة القائد المغربي طارق بن زياد لدى فتحه الاندلس عندما وجه الكلام الى رجاله: "البحر وراءكم والعدو امامكم"، انقلبت في المخيلة، فقد أمر القائد بن زياد رجاله باحراق السفن لقطع الطريق امام العودة وحضهم على القتال، لكن احفاد رجال طارق بن زياد يركبون زوارق صغيرة، ويتركون العدو الذي بات اسمه الفقر وانعدام فرص العمل وراءهم، ويغامرون في اتجاه بحر لا يرحم، لكن مراكز انطلاق المهاجرين لم تعد حكراً على طنجة او مرافئ تطوان، أو الامتداد الساحلي غرباً في اتجاه أصيلة والعرائش، بل شملت مواقع اخرى، حيث يسهل الاختفاء عن عيون الرقابة وتكون المسالك وعرة وغير لافتة، ومثل اي مواقع يستخدمها "أباطرة" المخدرات والمهربون للاحتماء وشق الطرقات براً وبحراً، استفادت شبكات الاتجار في الهجرة غيرالمشروعة من غنى الطبيعة المغربية وتنوعها، لكن إحدى غابات ضواحي طنجة التي كانت تستخدم للنزهة تحولت الى اوكار مشردين افارقة ومغاربيين جاءوا الى هناك لاقتناص فرص الهجرة نحو أوروبا، انها غابة تسودها اخلاق القوي او من يدفع اكثر في مقابل المغامرة، وامام قساوة الانتظار وطوله تصبح الاعشاب والحيوانات البرية والاحتماء من غضب الطبيعة عناصر في تأثيت المشهد الانساني الذي يطول اسابيع وشهوراً وأعواماً. وساعد تزايد الهجرة نزوح اعداد كبيرة من الافارقة المتحدرين من بلدان الساحل الذين اصبحوا يقيمون في المدن الشمالية للمغرب في أوضاع مأسوية. وتفيد تقارير انهم ينزحون عبر الحدود المشتركة بين المغرب والجزائر او عبر المناطق الجنوبية للمغرب الى الغابات المجاورة للمدن الآهلة بالسكان او الى احياء وضيعة، ويستطيع أي زائر لهذه الاماكن ان يشاهد افواج المهاجرين الافارقة يفترشون الارض ويمارسون التسول او الدعارة لتحصيل المبالغ المالية التي تكفل لهم المغامرة. طنجة الملهمة لو ان الكاتب تينسي وليامز او الشاعر بول بولز عادا الى طنجة لاكتشفا ان سحر المدينة التي اغرت كبار الكتاب ورجال الاستخبارات والاثرياء الباحثين عن متعة ما، لم تعد كما هي، ففي "السوق الداخل" الذي غرف منه الكاتب الفطري محمد شكري ينابيع الابداع، تضج حركة غير عادية بالمهاجرين الافارقة القادمين من بلدان الساحل في انتظار فرصة العبور الى الضفة الاخرى، انهم يقيمون هناك في فنادق صغيرة، يعملون اي شيء ويقتاتون من أي شيء لتأمين الحياة، والظاهرة التي يشتركون فيها تكاد تكون واحدة، أي احراق كل أوراق الهوية والتخلص من أي دليل حول انحدارهم من بلد ما. أسباب ذلك واضحة وهي ان السلطات الاسبانية حين تداهمهم بعد العبور غير الشرعي تعمد الى ترحيلهم الى أوطانهم، لكنها تحتفظ بهم في مراكز ايواء في حال تعذر التعرف على هوياتهم. وأبرمت اتفاقات في هذا الشأن مع السلطات المغربية والجزائريةوالتونسية، بيد ان الاتفاقات لم تحل دون تراكم مآوي المهاجرين الافارقة والمغاربيين في مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد، ومن هذه المآوي التي أقيم بعضها في ثكنة عسكرية مهجورة في سبتة يشن المهاجرون حملات للضغط على حكومة مدريد عبر تنفيذ اضرابات عن الطعام او انواع من الاحتجاجات للحؤول دون ترحيلهم الى بلدانهم الاصلية والافادة من قوانين الهجرة الاجنبية. ومثل أي مدينة على مرافئ بحرية تبدو طنجة العالية كما يسميها أهل الشمال نسبة الى احتلالها هضبة مرتفعة تطل على البحر مشرعة أمام الرياح، فقد كانت المدن البحرية تستهوي القراصنة والبحارة والمغامرين. إلى وقت قريب كان المغاربة يفخرون بالموقع الاستراتيجي لبلادهم على ضفتي الاطلسي والمتوسط، لكن الأمكنة لا تكون دائماً مصدر ارتياح، فمن البحرين جاءت غزوات اسبانية وبرتغالية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إلا ان الغزوات الجديدة تختلف في نوعيتها، فالمهاجرون الذين ينزحون من بلدان الساحل الافريقي يأتون عبر الحدود الشرقية للمغرب مع الجزائر او على متن طائرات تحط بهم الرحال في الدار البيضاء قبل الانتقال الى المناطق الشمالية للبلاد. في حين ان قرب جزر الكناري الاسبانية من الساحل الاطلسي المغربي جنوباً حوَّل هذه المناطق بدورها مراكز هجرة، ودلت احصاءات على تنامي الهجرة نحو هذه الجزر في السنوات الاخيرة، إذ كلما اشتدت الرقابة على المناطق الشمالية للبلاد، كلما غير المغامرون خطوط العبور. لكن السلطات الجزائرية أكدت بدورها اعتقال متورطين في شبكات الهجرة التي يقوم أفرادها بتسهيل العبور من الجزائر الى المغرب على رغم سريان مفعول اغلاق الحدود البرية بين البلدين منذ صيف 1994، ويزيد طول الحدود الشرقية للمغرب مع الجزائر على 1700 كلم، ما يتطلب وسائل حديثة لاحكام الرقابة وتمركز حراس الحدود في مناطق عدة. المغرب والبحر عبر التاريخ وإذا كان المغاربة والجزائريون على حد سواء يعترفون بصعوبة تشديد الرقابة على حدود شاسعة، لكن المغرب يحد غرباً وشمالاً بالبحر. ومن الظواهر اللافتة ان علاقة المغاربة تاريخياً بالبحر لم تكن تدفع الى الاطمئنان، ذلك ان موجات الغزو كانت تأتي من البحر، لذلك اقاموا مدناً حصينة في السواحل، ولا زالت قلاعها قائمة الى الآن، لكن المثير في العلاقة مع البحر ان كثيراً من المدن الساحلية كانت تختار مقابرها قبالة البحر، إلا أن اعداداً كبيرة من المهاجرين الذين اغراهم البحر المتوسط غيبوا بلا مقابر في حين ان القرصنة القديمة التي كان يمارسها قطاع الطرق البحرية اصبحت ترتدي ابعاداً اخرى، فقد تناسلت شبكات الاتجار في الهجرة غير الشرعية، كما المخدرات وأنواع التهريب تستغل سذاجة الناس أحياناً وتمارس اصناف الاحتيال احياناً اخرى. لكن المسؤولين المغاربة ينبهون ان ليس في امكانهم وحدهم محاربة الظاهرة الناتجة عن استخدام المغرب بلداً للعبور نحو أوروبا، ويقول كاتب الدولة المغربي في الخارجية الفاسي الفهري ان بلاده رحلت العام الماضي أكثر من 15 ألف افريقي وآسيوي، لكنها لا تستطيع ذلك إلا في حال ثبوت مخالفات الهجرة. ويعقب مسؤول آخر: "يجب عدم النظر الى الهجرة كقضية مغربية صرفة، انها ظاهرة عامة، وهناك اطراف اوروبية يهمها استمرار الظاهرة لاستغلال الأيادي العاملة بأثمان زهيدة". لكن وزير العمل المغربي عباس الفاسي يضع النقاط على الحروف قائلاً إن مافيا الهجرة غير الشرعية تنشط على الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر المتوسط، وغالباً ما يتم الحديث عن تواطؤ هذه المافيا مع عناصر من الحرس الاسباني. وعرض تقرير لمصالح الحرس المدني الاسباني انه لدى تفكيك عشرات الشبكات المتورطة في الهجرة غير المشروعة تبين ان مسؤولين في الامن والادارة الاسبانيتين متورطين كذلك في تشجيع الهجرة في مقابل مبالغ مالية كبيرة. وفي تقارير رسمية ان السلطات المغربية فككت في الاعوام الثلاث الماضية أكثر من 800 شبكة لتهريب المهاجرين غير الشرعيين واعتقلت اكثر من 30 ألف مرشح في الفترة ذاتها ضمنهم آلاف الرعايا الافارقة والمغاربيين، ورصدت ملايين الدولارات لتجهيز قوات خفر السواحل ونشر حوالي10 آلاف من العسكريين وقوات الأمن مراقبة السواحل، في حين نشرت الحكومة الاسبانية معدات حديثة وزوارق سريعة وسخرت معدات تكنولوجية لرصد القوارب التي يستقلها المهاجرون غير الشرعيين في اتجاه اسبانيا، علق مراقبون علىها بأنها تعد ل"أكبر قلعة في القرن الحادي والعشرين ليست سوى نسخة مكبرة لجدار برلين". لكن ذلك لم يحل دون تنامي الظاهرة، ويقول صاحب ورش لصناعة القوارب البحرية في مدينة ساحلية: "تلقينا أوامر بتحديد قوة محركات الزوارق في 25 حصاناً والتبليغ عن المشتبه في اقنتائهم معدات لصنع القوارب بطرق سرية"، إلا أن ذلك لم يمنع دون انتشار ورش صغيرة لصناعة الزوارق في بعض الضيعات الزراعية والاماكن المهجورة، بسبب تزايد الطلب على اقتنائها، واستطاعت قوات الدرك الملكي ان تدمر وتحرق العام الماضي زوارق صغيرة في ضواحي القنيطرة شمال العاصمة الرباط كانت تستخدم في الهجرة. السينما حقيقة ويقول اصحاب قوارب صيد صغيرة انهم باتوا مجبرين على العودة الى مراكز الانطلاق قبل غروب الشمس. وان اعداد الصيادين يُصرح بهم عند كل رحلة تحسباً لاستخدام القوارب في الهجرة غير المشروعة. لكن سينمائيا مغربياً استحضر الظاهرة موضوعاً لشريط سينمائي صيف العام الماضي، بدأ التصوير كما في أي شريط بعدما جمع بعض شباب القرية وآخرين، لكنه اكتشف في الغد ان أولئك الشباب الغرباء الذين قيل له ان في الامكان الاستعانة بهم كانوا مهاجرين حقيقيين، وحولوا الشريط الى وقائع حقيقية، لكن اخرين ممن كانوا ضحايا احتيال ركبوا زورقاً صغيراً بعد غروب الشمس، اطفأوا الانوار ومنعوا التدخين والتزموا صمتاً كانت تعكره امواج البحر. وقبل طلوع الفجر شاهدوا منارة صغيرة، قيل لهم انها سواحل اسبانية، ليكتشفوا بعد ذلك انهم نقلوا من مكان مغربي الى آخر، فقد كانت احلامهم تعلقت بالارض الاخرى التي لم يطأوها. لكن العاهل المغربي الملك محمد السادس دخل على خط الظاهرة حين اعلن ان بلاده تتوفر على دلائل حول استخدام زوارق مطاطية من صنع اسباني في الهجرة غير المشروعة، ما أدى إلى تصعيد الأزمة المغربية - الاسبانية، ذات العلاقة بالمواقف السياسية والاقتصادية حيال الصيد البحري وملف الصحراء والهجرة. ومقابل التشدد الاسباني في تسوية اوضاع المهاجرين من الشمال الافريقي، برزت ليونة في الموقف الايطالي، إذ عمدت روما الى تسوية اقامة ثلاثة آلاف مغربي ومثلهم من تونس من ضمن 63 ألف أجنبي من خارج دول الاتحاد الاوروبي. إلا أن أحداث الهجمات الارهابية على نيويورك وواشنطن أضفت طابعاً سياسياً على الهجرة غير المشروعة، إذ رددت تقارير ان نشطاء في التيارات الاسلامية يستخدمون الهجرة غير المشروعة لتجنيد المتعاطفين والشبان الغاضبين في صفوف الحركات الاسلامية. وكشف بعض النشطاء النقاب عن وجود حركات متطرفة وراء تشجيع الظاهرة لاهداف سياسية، إذ يسهل تجنيد المهاجرين غير الشرعيين المتحدرين من بلدان الشمال الافريقي في بلدان أوروبية للعمل في التنظيمات الاسلامية، أكان ذلك عن قناعة كما في حال النشطاء العقائديين او عبر التورط بالنسبة إلى آخرين. وتحول الموضوع ذاته محور جدل مغربي - اسباني على خلفية هجمات نيويورك وتحريك ملف الهجرة غير المشروعة كأحد روافد الحركات التي توصف انها ارهابية. مئات المحاكمات تنعقد باستمرار في انحاء شتى في البلاد، والمتهمون في غالبيتهم شبان من الجنسين كانوا مرشحين للهجرة غير المشروعة، لكنهم اعتقلوا في منتصف الطريق أحياناً بعد انطلاق رحلات الموت وأحياناً بعد الوصول الى الضفة الاخرى. لكن القوانين المغربية صارمة بهذا الصدد وتعتبرهم متهمين بتزوير أوراق السفر والعبور ولا حالمين بالبحث عن العمل. لكن مافيا الهجرة لا تتوقف عن اصطياد ضحاياها. وكشفت محاكمة جرت أخيراً في مدريد ان المنتسبين لهذه المافيا أصحاب شركات ورجال قانون وأباطرة مخدرات، واكتشف المغاربة لدى شنهم حملات ضد التهريب والمخدرات في منتصف التسعينات ان وعود البلدان الاوروبية لجهة مساعدتهم في هذه الحملات وتحويل المقاربة الأمنية في التعاطي والظاهرة الى مقاربة انمائية كان مجرد اوهام. لكن جارتهم اسبانيا عمدت الى اقامة أسوار تسيج المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية واستعانت بخبرات اسرائيلية بدعوى الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين، واكتشف المغاربة تواً على خلفية القرار الاسباني ان الأمر لا يعدو خطوة لفرض الواقع، لجهة الابقاء على الاحتلال الاسباني لسبتة ومليلية، ولم تفلح اسوار الحواجز الالكترونية والأسلاك الشائكة في ثني افواج المهاجرين غير الشرعيين من التزايد، خصوصاً أن شبكات المساعدة عبر الحدود تستخدم وسائل التزوير وعقود العمل المشبوهة وتنظيمات مختصة مزروعة في محطات الهجرة المحتملة. وأفادت تقارير اوروبية ان ارباح هذه الشركات تزيد على عشرات البلايين من الدولارات من دون احتساب مبيعات المخدرات التي تسرب مع افواج المهاجرين. وتترتب على الظاهرة نفسها انتهاكات تطاول حقوق الانسان ازاء ظروف العمل التي تكون غالباً سرية اضافة الى احتجاز المهاجرين في معسكرات اعتقال قبل ترحيلهم، ونبهت منظمة العفو الدولية الى هذه الخروقات في تقرير صدر قبل فترة من مدريد ان المهاجرين يرحلون بعد اعتقالهم في السواحل الاسبانية وهم يرتدون الملابس المبللة نفسها بسبب الابحار، كما أن أعداداً منهم يقتادون بالاصفاد ويشحنون في قعر البواخر التي تبحر نحو جبل طارق ثم طنجة في ظروف انسانية صعبة. وتعزو الخبيرة المغربية حليمة الورزازي استشراء الظاهرة الى التزام البلدان الأوروبية سياسة اغلاق الحدود، وترى ان تدهور الظروف الاقتصادية في البلدان النامية يدفع في اتجاه ترفيع اعداد الراغبين في الهجرة من أجل تحسين اوضاعهم. لكنها تنبه الى مخاطر بروز نظام عنصري في بلدان الاتحاد الاوروبي على خلفية تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية والعنصرية وكره الاجانب، وان كانت الهجرة تظل نتاج ظاهرة بنيوية ذات علاقة بالاختلالات الاقتصادية بين البلدان مصدر الهجرة والبلدان المرشحة لاستضافتها