تكريم 6 جهات متقدمة في مؤشر نُضيء    الرياض مقرا لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    اختتام أعمال منتدى المدينة للاستثمار    النفط يتراجع بسبب مخاوف زيادة المعروض وارتفاع الدولار    نقاط الخلاف تعرقل الحل النهائي لوقف الحرب في غزة    السعودية تنظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني فبرايل المقبل    لاجئو السودان يفرون للأسوأ    استبعاد صالح الشهري من المنتخب السعودي    القبض على شخص بمنطقة حائل لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    إصدار النسخة الأولى من السجل الوطني للتميز المدرسي    مشروعات علمية ل480 طالبا وطالبة    "كايسيد" يعزز من شراكاته الدولية في أوروبا    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    جامعة الدول العربية تعلن عن تجهيز 10 أطنان من الأدوية إلى فلسطين    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    إن لم تكن معي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخلفيات التاريخية - الاستراتيجية لقرار الليكود رفض الدولة الفلسطينية عودة الامبراطورية اليهودية ... وداعاً الدولة الاسرائيلية
نشر في الحياة يوم 20 - 05 - 2002

"هآرتس" أسمته "مسرحية الكذب". و"فايننشال تايمز" أطلقت عليه إسم "الدراما السياسية". هذا في حين كان كل من أرييل شارون وياسر عرفات يتفقان للمرة الاولى معاً على وصفه بأنه "غير مهم".
عما نتحدث هنا؟
بالطبع عن قرار اللجنة المركزية لحزب الليكود برفض قيام أي دولة فلسطينية، "لا الآن ولا في المستقبل".
فهذا القرار كان بالفعل تمريناً تطبيقياً لكل التوجهات النظرية التي تعتبر السياسة مجرد "بلف" وخدع وألعاب تكتيكية.
إذ من، في داخل إسرائيل وخارجها، لا يعرف أن الليكود يضع على رأس مانيفستو برنامجه السياسي ضرورة العمل ليس فقط على نسف فرص إقامة دولة فلسطينية، بل أيضا على مسح الوجود الديموغرافي الفلسطيني عن الخريطة؟
ومن، في داخل اسرائيل وخارجها كذلك، يشك بأن شارون ينام ويستيقظ على فكرة يتيمة: تيئيس الفلسطينيين والعرب والعالم من إمكان قيام دولة فلسطينية؟
لا بل من لا يعرف أن حزب العمل نفسه، سواء أكان بزعامة بنيامين أليعيزر أو شمعون بيريز أو اسحق رابين او ايهود باراك، عمل بكل طاقته طيلة حقبة التسعينات لتحويل الدولة الفلسطينية الى هيكل عظمي من دون لحم، أو كيان سياسي من دون سياسة، أو كما يقول الكاتب الاسرائيلي ألوف بن نصف دولة من دون سيادة؟
الجميع يعرف بالتأكيد. ومع ذلك، قرار اللجنة المركزية لليكود تذكرة مهمة وشهادة على شيء أهم: تذكرة بأن كل الاحاديث عن مؤتمرات السلام الاقليمية والدولية، والحلول السياسية، والمخارج الديبلوماسية، ليست أكثر من ذر للرماد في العيون.
أما الشهادة فتتعلق بطبيعة الازمة التي تثيرها المسألة الفلسطينية في الداخل الاسرائيلي، وهي أزمة تكوينية تتعلق بالماضي ووجودية ترتبط بالمستقبل.
فما في الميزان هنا ليس في الواقع معضلة الدولة او الكيان او الحكم الذاتي الفلسطيني، بل معضلة اسرائيل نفسها كدولة وكيان. وهذه المعضلة تبدأ وتنتهي بسؤال واحد: هل اسرائيل قادرة على الانتقال من مرحلة البناء الامبراطوري المنفلت من عقاله، والذي يجسّده الآن استمرار احتلال الضفة وغزة الى مرحلة بناء الدولة - الأمة الذي يكرّسه الانسحاب من الضفة وغزة؟
المحللون الاسرائيليون افترضوا أن مرحلة الانتقال هذه انطلقت مع بدء مسيرة التسويات السلمية مع الدول العربية في أوائل الثمانينات. لكن المفارقة هنا ان ملامح هذا التحول لم تولد، كما كان ينتظر منطقيا، مع توقيع معاهدة السلام مع مصر وما تلاها من الانسحاب الكبير من "القارة" المصرية المحتلة في سيناء. إذ ان اسرائيل حاولت بعد هذه المعاهدة اقامة امبراطوريتها الجغرافية الشرق أوسطية بالقوة العسكرية عبر غزو لبنان، مع ما كان يفترض ان يليه من اخضاع سورية والاردن ومن ورائهما منطقة الخليج للسطوة الاسرائيلية المباشرة.
التحّول بدأ بعدما انقلب المشروع الاسرائيلي من الاهداف الجغرافية العسكرية الى الاهداف الاقتصادية - الثقافية في أواخر الثمانينات. وهذا ما عكسته عشرات الدراسات التي اصدرتها مراكز الابحاث الاسرائيلية، والتي لم يكن مشروع بيريز حول الشرق الاوسط الجديد فيها سوى رأس جبل الجليد المختفي تحت سطح البحر.
وقد عنى هذا الانقلاب، من ضمن ما عنى، ضرورة تحوّل اسرائيل الى "دولة طبيعية" لها حدود معروفة ومعترف بها، كي تستطيع ان تتمدد "طبيعياً" بعد ذلك في مجالها الحيوي الامبراطوري في حلته الاقتصادية - السياسية الجديدة.
وهذا بالتحديد ما طرح مسألة بناء الدولة - الأمة في اسرائيل على بساط البحث.
بيد ان هذا الطرح حتى الآن على الأقل لا يزال في مأزق كبير و لم يحظ بأي لون واضح من ألوان الاجماع في الداخل الاسرائيلي. فلا يزال المجتمع اليهودي منشطرا الى قسمين متساويين تقريبا حيال طبيعة هذه الدولة - الأمة. وهذا على الارجح هو السبب الحقيقي للفوضى الراهنة في السياسات الاسرائيلية، والتي تبدو مفتوحة على جنة الدولة - الأمة كما على جهنم انفجار الدولة العبرية، اما ضد نفسها في الداخل واما ضد جيرانها في الخارج.
أبرز الكتاب الذين تطرقوا الى مأزق الدولة - الأمة في اسرائيل، كان المحلل العسكري والاقتصادي الاميركي اليهودي روبرت ليفاين، الذي كان معارضا للصهيونية حين أقيمت دولة اسرائيل، لكنه مشى بعد ذلك مع التيار العالمي الداعي الى حماية وجود الدولة العبرية بصفتها الوطن القومي لليهود.
يحدد المحلل طبيعة هذا المأزق وفق السياق الآتي:
اسرائيل كانت عند قيامها دولة - أمة في طور التكوين، وتمتعت بسمات ديموقراطية واضحة. وهكذا فإن مواطنيها العرب، برأيه، عوملوا على الاقل بالطريقة نفسها التي عاملت بها بريطانيا المهاجرين الهنود وباقي الآسيويين على أراضيها، وكان وضعهم حتما أفضل من وضع الاتراك في ألمانيا. ولذا كانت أزمة الدولة - الأمة الاسرائيلية سهلة وقتها.
لكن غزو الضفة الغربية في عام 1967 غيّر كل ذلك. فإذا كان يتعين ان تكون كل الأراضي تحت السيطرة الاسرائيلية ديموقراطية، فإن الدولة الاسرائيلية حينذاك لن تكون يهودية. واذا ما رفضت مواطنة العرب المهزومين، فإن الدولة لن تعود ديموقراطية.
ولذا فإن كل الحلول المطروحة راهنا للصراع العربي - الاسرائيلي، بما في ذلك الحل الباراكي المستند الى تخفيف عدد الفلسطينيين تحت السيطرة الاسرائيلية، لن يحل لا معضلة الدولة - الأمة الاسرائيلية ولا الصراع العربي - الاسرائيلي. فالهوية الاسرائيلية ستبقى مأزومة، والقضية الفلسطينية على مستويي اللاجئين والاقلية العربية في اسرائيل ستبقى معلقة في الهواء.
تحليل دقيق؟
أجل، لكنه لا يلم بكل جوانب الصورة. إذ على رغم أن الديموغرافيا الفلسطينية تشكل عائقاً حقيقياً أمام بلورة طبيعة الدولة - الأمة الاسرائيلية، إلا أنها ليست المشكلة الكبرى الوحيدة. فهناك مشكلة "الأمة اليهودية" مع نفسها. ذلك ان دولة اسرائيلية لها حدود دولية معترف بها دولياً او بالاحرى مفروضة عليها، وتقيم علاقات سلام مع كل جيرانها، ستكون أشبه بحال الدولة البونابرتية بعدما نجحت القوى الاوروبية في "إعادة الذئب اي بونابرت الى قفصه، ولم يعد بإمكانه سوى عض نفسه"، على حد تعبير مترنيخ.
بكلمات أخرى، "الأمة اليهودية" داخل القفص، ستجد نفسها سلسلة أمم لا رابط بينها سوى النزاع: أمة للشرقيين، وأمة للغربيين. أمة للاحافير التوراتية والتلمودية، وأمة للاساطير القومية العلمانية. أمة للكنيس وأمة للبورصة.
وسيكون من المفاجئ للغاية ان تتمكن الهوية الاسرائيلية، أي هوية الدولة - الأمة، من أن تشكل لحمة قادرة على جمع هذا الشتات. فالمواطنة الاسرائيلية لا تعني الشيء نفسه بالنسبة الى اليهودي الروسي والمغربي والالماني. لا بل هي لا تعني الشيء نفسه حتى بالنسبة الى اليهود الذين ولدوا داخل اسرائيل.
وفي غياب الهوية الاسرائيلية كقوة سياسية، لا يبقى هناك سوى الهوية اليهودية. وهي، كما هو معروف، موضع نزاع شديد بين القبائل الاثنية الاسرائيلية المختلفة.
ماذا يعني كل ذلك؟
انه يعني بوضوح انه سيكون على الاسرائيليين العثور على السلام الداخلي لمشروع الدولة - الأمة لديهم، في الوقت الذي يبحثون فيه اقامة السلام مع الفلسطينيين والعرب، وهذه مهمة شاقة ومؤلمة وعسيرة.
قد يقال هنا ان الديموقراطية الاسرائيلية ستشكل صمام أمان يخفف الى حد ما من غلواء هذه المهمة.
وهذه المقولة كانت صحيحة طيلة نصف القرن المنصرم. لكنها قد لا تكون كذلك الآن. فالقبائل اليهودية تعايشت ديموقراطيا حين كانت في حرب مع الآخرين. أما الان وقد اصبحت في شبه حال حرب مع نفسها، فسيكون عليها ان تثبت أن يهوديتها لا تتناقض مع ديموقراطيتها.
والواقع ان اي مقاربة متأنية للتطورات الاخيرة في اسرائيل، تكشف عن تفاعلات أكثر خطورة.
فانحياز الرأي العام الاسرائيلي الى الخيار الليكودي المتطرف، جاء في وقت تشهد فيه الصهيونية الاسرائيلية أزمة واضحة المعالم تتجسد في تراجع قيم العناصر العلمانية فيها وتقدم القيم الدينية التقليدية.
وهذا التطور لا يسير في اتجاه خلق التوازن بين الحداثة والتقليد، بل هو يدور في اطار حرب ثقافية حقيقية لإعادة تركيب الهوية الصهيونية نفسها.
وهكذا، فإن حزب "شاس" السفارديمي والاحزاب الدينية الاشكنازية، لا تتصارع في ما بينها فحسب، بل هي تشن ايضا، كل من موقعه، هجمات متتالية على المؤسسة العلمانية الصهيونية بهدف تغيير معالم دولة اسرائيل كما تأسست العام 1948.
ومضاعفات هذه الاحداث الجسام غير خافية: نسف كل الجهود التي قام بها كل رواد الصهيونية، من تيودور هرتزل وصولا الى بن غوريون، لبناء انسان جديد لا علاقة له بيهودية المنفى، وله كل العلاقة بالحداثة والعلمانية وبتذويب اليهود في ايديولوجية جديدة، تستند الى ادارة الظهر للتقاليد الدينية اليهودية ولذهنية المنفى.
البديل المطروح الآن هو إعادة دولة اسرائيل الى كنف الدين والتقاليد اليهودية، بكل ما يعنيه ذلك من سيادة مفاهيم الاستقطاب والتطرف بين مكونات الشعب الاسرائيلي، وبالتالي التطرف ايضا في مجال السياسات الخارجية.
الجذور
هنا قد تكون تجارب التاريخ مفيدة. اذ من المعروف ان مناحيم بيغن الاشكنازي لم يصل الى السلطة العام 1975 على أكتاف مواطنيه الاشكنازيين العلمانيين، بل على جماجم السفارديم وزملائهم الدينيين الاشكنازيين الذين يرفضون الطابع العلماني الراهن للدولة اليهودية.
ودشّن هذا التطور، آنذاك، بدء خروج الصهيونية العلمانية من قمرة قيادة المجتمع الاسرائيلي.
وبالمثل، فإن فوز ارييل شارون الكاسح في الانتخابات، كان مؤشراً على بدء مرحلة جديدة في تاريخ اسرائيل: مرحلة يخوض فيها الدينيون والتقليديون والاصوليون اليهود حملات كبرى من داخل الحكومة، لتغيير وجه الدولة العبرية ووجهتها.
وهم يفعلون ذلك استنادا الى تراث يهودي عريق يوضحه ألان دوتي، بروفسور العلاقات الدولية في جامعة نوتردام الفرنسية كالآتي:
"اليهود"، عادة، شعب يعيش وفق تقاليده حتى وهو يثور عليها. والصهيونية رأت نفسها على انها ثورة ضد التاريخ اليهودي، لكن الحركة الصهيونية ومعها دولة اسرائيل وجدتا نفسيهما تردّان "بشكل يهودي" على التحديات التي واجهتهما.
فحتى خلال فترة التنظيم لتدشين الثورة في الحياة اليهودية، استقى رواد الصهيونية قصداً او عن غير قصد من تجربة الحفاظ على الحياة اليهودية لمدة قرون عدة، ووضعوا ذلك في حلة غير يهودية. فاليهود، وفي سبيل الحفاظ على البقاء في وجه عداء دام الفي عام، احتاجوا ليس فقط الى القوة الروحية بل ايضا الى القدرة على التنظيم وعلى تأكيد المصالح الجماعية.
بكلمات أخرى، احتاجوا الى القدرة على ممارسة السياسة. وكما يقول ديفيد بيال: "من دون القوة السياسية والقدرة على استخدامها، لزال الشعب اليهودي من الوجود".
ان التجربة اليهودية في الحكم الذاتي طيلة قرون كانت غنية، وتمثلت في قيام اليهود بتدبير أمور نظامهم السياسي المغلق على نفسه. وموسوعة "جودياكا" تعدد 120 حالة من أنواع الحكم الذاتي اليهودي على مر العصور.
لكن، وكيفما عاش اليهود، فإنهم تمسكوا ليس فقط بتراث القانون اليهودي والمؤسسات اليهودية الاخرى، بل ايضا بالأنماط التي ولدت من موقعهم العام بصفتهم أقلية محاصرة: التعاطي مع بيئة معادية، الحاجات التي لا يمكن تلبيتها إلا داخل الطائفة اليهودية، التنظيم الذاتي لتقليص تدخل السلطات الخارجية والحفاظ على العلاقات مع هذه السلطات.
في الماضي، حتى حق الإقامة كان خاضعاً للتفاوض مع الحكام المحليين. وفي كل الاحوال، كان احتمال التدخل الخارجي في الشؤون اليهودية الداخلية، واحيانا نتيجة اعمال "مخبرين" من داخل الجالية نفسها، يضع حدودا لمدى النشاط السياسي.
واذا ما وضعنا في الاعتبار شعورهم باللاأمن في المجتمعات التي عاشوا بها بصفتهم الجماعة الاكثر اختلافاً، احتاج اليهود الى التعاطي مع السلطات الخارجية والمعادية غالباً حول قضايا يمكن ان تعتبر بديهية. وقد أفرز التاريخ اليهودي سايكولوجيا "تتميز بالحذر المفرط الذي يمارسه الشخص المطارد بفتح الراء، ويقظة غير الآمن، والشكوك الدائمة للمرء العرضة للخطر". لقد تعلم اليهود ان يخشوا الاحداث التي لا يستطيعون السيطرة عليها، وطوروا مهارات فائقة في اكتشاف الجانب الكارثي من التطورات التي تبدو ايجابية. وعقلية "يوم الآخرة" هذه تفسر التشاؤم عميق الجذور والقلق الدفين اللذين يشوبان التاريخ اليهودي.
الانفصال التاريخي
تاريخياً، ردت الجاليات اليهودية على التهديد بالانفصال عن العالم الخارجي، بإقامة افضل الحواجز للحفاظ على هذا الانفصال وتقليص التدخل الخارجي. وفي التقاليد اليهودية، اعتبر هذا الخارج "غريبا كليا وتجسيدا لقوى الشر". والممارسات اليهودية، مثل تجنب زواج اليهود من غير اليهود، اعتبرت غالبا بأنها تعبير عن الحاجة الى الحفاظ على أوضح انفصال ممكن عن العالم غير اليهودي. ومع الوقت، تم ربط البقاء كشعب في التفكير اليهودي بتقليص الارتباطات الخارجية. لقد بات الانفصال موازيا للبقاء اليهودي نفسه.
بيد ان هذا الانفصال عزز ايضا شعوراً قوياً بالمصير المشترك ودفع الى التماسك الملحوظ داخل الجاليات اليهودية. وهكذا فإن الاندماج الدفاعي بالجماعة كان خط الدفاع الاول ضد بيئة معادية. وهذا ما طور العلاقات والمشاعر القبلية بين اليهود التي تخلق دفئا دائما يكون احيانا ضرورياً ومريحاً. وهكذا فإن اليهود يعتبرون انفسهم اعضاء في جالية، وليس مواطنين في دولة وفق المفاهيم الغربية الحديثة للمواطنة التي ترى في الدولة كياناً غير شخصي له مصالحه الخاصة.
كما خلق الانفصال شعوراً قويا ضد "نشر الغسيل اليهودي أمام أعين غير اليهود". وهكذا تم غرس عادات السرية وانماط السلوك الباطنية عميقاً في النفس اليهودية. كما تم تطوير شعور بالاحتقار الكبير للمخبر ماليشين بالعبرية الذي يكشف معلومات مضرة للسلطات الخارجية. وينص القانون اليهودي على انزال العقوبات بأولئك الذين يقومون بهذا العمل التهديدي.
يعتبر ألان دوتي أنه ليس هناك نظرية منهجية للعلاقات الدولية في الفكر اليهودي، على رغم ان انفصالية الحياة اليهودية اثبتت انها أرض خصبة لقبول مبدأ الدولة - الأمة كحجر الزاوية في السياسات العالمية. وفي الوقت ذاته، فإن القانون والسياسات اليهودية طبقت اساساً على اليهود، ولم يكن هناك سوى خبرة ضئيلة في التعامل مع غير اليهود من داخل الجالية اليهودية. وفي كل الاحوال، لم يكن تحت سلطة الجاليات اليهودية أبداً عدد كبير من السكان غير اليهود الذين يسعون الى الحفاظ على هويتهم الجماعية. وبالتالي، لم تكن التقاليد السياسية اليهودية مجهزة للتعاطي مع مثل هذا الوضع.
ان التجربة التاريخية اليهودية، باختصار، تركت ميراثا قوياً في التعاطي مع العالم الخارجي: الاعتقاد بأنه بيئة معادية، سهولة اطلاق مشاعر فقدان الامن، التشاؤم عميق الجذور، التنظيم للاعتماد على الذات، الشعور القوي بالانتماء الى الجماعة، عادات الانفصال والسرية في العلاقة مع الخارج، تقليد الوساطة الديبلوماسية مع السلطات الخارجية، وتقليد قوي لحقوق الانسان غير قابل للتطبيق على اليهود.
ومهما كانت نقاط ضعف هذا الميراث أو قوته، فإن الحركة الصهيونية لم تسع الى البناء عليه. وسواء كانوا قوميين، او اشتراكيين، ام ذوي ايديولوجيات ليبرالية، فإن يهود وسط اوروبا وشرقها كانوا في أواخر القرن التاسع عشر يسعون الى القطيعة مع الماضي. انهم اجتاحوا الحركات الثورية غير اليهودية بأرقام لا تتلاءم مع عددهم. وأولئك الذين لبوا نداء الصهيونية رأوا أنفسهم ايضا على انهم متمردين على الانماط السابقة للتاريخ اليهودي. وسعى الصهيونيون الى الهرب من خصوصية الماضي اليهودي والانضمام الى التاريخ عبر إعادة انتاج الحياة اليهودية في قوالب عالمية جديدة قدمتها الايديولوجيات الحديثة. واعتبرت الحياة اليهودية التقليدية مع بعض المبالغة كحياة عاقر سياسياً، وتعبير عن ضعف لا تنفصم عراه عن حال المنفى. وفي بعض الحالات وصلت القطيعة مع الماضي اليهودي الى مستويات متطرفة.
لكن، فيما كان تيودور هرتزل وبعض الصهيونيين المتغربين يبدون قليل الاهتمام بالتاريخ اليهودي، إلا ان اتباعهم في شرق اوروبا كانوا أقرب اليه التقليد. فهم لم يرفضوا الماضي كليا، بل بحثوا عما يمكن ان يكون مفيداً لبناء المستقبل، باعتبار ان العلاقة مع التاريخ يمكن ان تكون انتقائية، شرط ان تتم ادانة ذهنية الدياسبورا المنفى. وعلى اي حال، قلة من الصهيونيين رفضت كل علاقة بالتاريخ اليهودي.
ومع ذلك، فإن استمرارية الثقافة والمواقف اليهودية في اسرائيل الحديثة تم تجاهلها عبر تجاهل الماضي اليهودي في كل أنواع الحركة الصهيونية. وهكذا، وحين نشر عالم اجتماعي العام 1970 دراسة موثقة حول استمرارية المواقف اليهودية بين المراهقين اليهود، أصيبت دوائر اسرائيلية كثيرة بالذهول والاستغراب.
ويرى دورتي أنه من المفارقات المذهلة ان الدولة اسرائيل التي اقيمت لحل مشكلة فقدان الامن اليهودي الأزلية، ابتليت هي نفسها بمشاعر اللاأمن. كل ما حدث هو ان المفاهيم المتعلقة بالتهديدات تغيّرت. وهكذا فإن القضية الاساسية التي تخترق معظم جوانب الحياة السياسية اليهودية، داخلياً وخارجياً، وتجاه الماضي والحاضر، هي الحاجة الى الامن. ومواقع اسرائيل المهتزة بعد 1948 عزّزت بدلاً من ان تليّن من المفاهيم التقليدية حول البيئة المعادية.
ان الامن لا يمكن قياسه ببساطة بالتهديدات الموضوعية التي تواجهها أمة ما. ففي النهاية، الأمن يتعلق بمشاعر الامن الذاتية في عقول الافراد. ووجهة نظر اليهود العالمية هي حصيلة 20 قرنا من الاضطهاد الديني والعرقي. وليست هناك أقلية كالاقلية اليهودية تنظر الى العالم مثل هذه النظرة على انه مكان شرير. والهولوكوست المحرقة كان آخر فصل وحشي من فصول تاريخ طويل. واليهود في كل أنحاء العالم ذهلوا من نقص رد الفعل لدى العالم على حرب الإبادة النازية. وبكلمات شخصية أدبية اسرائيلية بارزة، خلّف الهولوكوست "هستيريا مضمرة" في الحياة الاسرائيلية.
وهكذا، ومنذ ذلك الحين، كانت كل أزمة رئيسية في أوائل تاريخ اسرائيل، تعتبر تهديدا للبقاء القومي كما الشخصي. وهذا اسفر عما يسميه الخبير الاسرائيلي في الرأي العام آشر اريان "دين الامن"، اي ذلك المزيج من المعتقدات المشتركة المستندة الى الرموز الدينية والقومية، من ناحية، والى الاعتبارات العقلانية والمهنية، من ناحية اخرى. ويميل الاسرائيليون الى تفسير مفهوم الامن بشكل عام بوصفه الحرية من التهديدات للامن الشخصي، والقدرة على العيش من دون خوف من عنف تحركه السياسة.
والنزعة التشاؤمية تمتد الى قراءة الاحداث التي يمكن ان تكون عادة ذات مضمون ايجابي. ففي اعقاب الانفراج في العلاقات مع مصر العام 1977 والاعتراف المتبادل مع منظمة التحرير العام 1993، سرعان ما تبدد الفرح الغامر كي يحل مكانه الشعور بأن شيئاً ما لم يتغيّر.
ان الشكوك وعدم الثقة بالعالم الخارجي ميّزت كل ديبلوماسية الحكومات الاسرائيلية. فاليهود يشعرون دوما ان العالم الخارجي يخونهم باستمرار. وبالنسبة الى العرب، فإنهم لا يعتبرون عداءهم لاسرائيل نتيجة سياسات عالمية ناجمة عن نزاعات على الارض، بل حصيلة لعداء يعكس صور المحرقة والمحاولات التاريخية الاخرى لقتل اليهود. وهكذا، فإن أعمال الارهاب ضد المدنيين الاسرائيليين لا تعتبر نشاطات سياسية هدفها تحقيق الاهداف الوطنية الفلسطينية، بل مجرد نشاطات معادية للسامية.
ولخّص ديفيد بن غوريون موقف الاسرائيليين من العالم الخارجي بقوله: "ليس مهما ما يقوله الغوييم الامم الاخرى، بل ما يفعله اليهود".
ان أولوية الامن في كل مناحي الحياة تدفع، مرة اخرى، الى الوحدة والتعاون الاختياري داخل الجالية اليهودية. كما تترجم نفسها بالبحث دوما عن قيادة سياسية قوية، على رغم التقليد اليهودي بالشك الدائم في السلطة. وهذا الهوس بالامن يتلاءم تماماً مع الماضي اليهودي.
وأحد العوامل الرئيسية في استمرار الماضي اليهودي هو ان فقدان الشعور بالامن لا يزال يخترق السياسات اليهودية. فإقامة الدولة اليهودية استبدل المخاوف وعدم الثقة بمخاوف وعدم ثقة جديدة، واستمر بالتالي شعور اليهود بأنهم شعب يعيش بمفرده.
الى أين؟
كيف تعكس هذه المعطيات نفسها على الصراع بين اسرائيل - الامبراطورية وبين اسرائيل الدولة - الأمة؟
الخلاصة هنا لن تكون مفاجئة. فحين يتعّرض الاسرائيليون الى مخاطر امنية، لا يفعلون كما تفعل كل الدول "الطبيعية" في العالم: أي السعي لضمان الامن عبر ضمان الحدود. بل هم يندفعون الى توسيع هذه الحدود وتمديدها الى ما لا نهاية.
بالطبع، ثمة أسس توراتية - أيديولوجية واضحة لنزعة التوّسع هذه. لكن هذا لا ينفي وجود صراع حقيقي بين التراث اليهودي والحداثة الاسرائيلية في هذا الشأن. فمعظم اليهود يفضلون وجود امبراطورية يهودية حتى ولو كانت غير ديموقراطية، على دولة اسرائيلية حتى ولو كانت ديموقراطية.
وحين يكون الامر على هذا النحو، وبسبب الخلافات العميقة حول معنى اليهودية، سيبقى مشروع الدولة - الأمة الاسرائيلية ومعها مشروع الدولة الفلسطينية مجرد تذكرة سفر الى المجهول.
وهذه، على أي حال، كانت الرسالة العميقة ل"مسرحية الكذب" و "الدراما السياسية" اللتين أداهما حزب ليكود قبل أيام على مسرح القضية الفلسطينية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.