يمكن اعتبار حرب حزيران 67 وما تلاها من احتلال أهم مفصل سياسي واجتماعي في تاريخ اسرائيل وأهم مفترق في تاريخ الحركة الصهيونية منذ بداياتها الأولى في أوساط القرن الماضي، من حيث علاقة الدين بالقومية اليهودية. ويمكن الجزم، ولو ببعض المجازفة بالتعميم، أن تاريخ الحركة الصهيونية وتاريخ اسرائيل ما قبل حرب 67 لم يكن إلا "تعهيراً للدين" كما نعته الفيلسوف اليهودي الراحل يهوشع ليبوفيتش، في حين ان حرب 67 وما تلاها من احتلال لبقية فلسطين، قد دفع بالجناح الديني للحركة الصهيونية الى الواجهة واعطاه استقلالية ما عن الجناح العمالي الذي هيمن طيلة القرن الذي سبق الحرب، واعطى المتدينين من اليهود من الاتجاهات المختلفة دوراً أكبر على صعيد التأثير في طبيعة المجتمع وفي بلورة السياسة العامة الداخلية والاقليمية لدولة اسرائيل. وأصبح من الصعب الحديث عن اجماع وطني أو قومي من دون شراكة أحد الاحزاب الدينية أو جميعها. وأصبح من المستحيل الحديث عن تعايش أثني أو سلم اجتماعي من دون الاخذ بالاعتبار الاحزاب الدينية شرقية كانت أم غربية، متطرفة كانت أم تقليدية. وكان أب الحركة الصهيونية هرتسل قد اعتبر المتدينين اليهود "أفضل الصهاينة"، إلا أنه لم يخف أهمية استغلالهم لانجاح المشروع القومي العلماني. وكذلك الأمر مع الأب المؤسس للدولة الاسرائيلية، دافيد بن غوريون، الذي رأى أهمية قصوى في استغلال المصطلحات والتعابير والشعارات الدينية لصالح المشروع القومي العلماني ومن أجل بناء الدولة على قاعدة "الحق التاريخي" للشعب اليهودي. واعتبر القياديان هرتسل وبن غوريون ان الدين اليهودي أداة مهمة بيد الحركة الصهيونية ولو انه يجب المحافظة على الاحزاب الدينية في "كفة اليد" لعصرها أحياناً ولاحتوائها ان كانت هناك حاجة الى ذلك. إلا ان بن غوريون كان يسعى الى بناء دولة يهودية علمانية، وهو الرجل الذي كان معجباً بنظرية داروين ولم تكن له علاقة شخصية بالديانة اليهودية، لا من قريب ولا من بعيد. وبالفعل فقد أذعنت الاحزاب الدينية، الصهيونية منها والتقليدية للحركة العمالية، بقيادة بن غوريون، والتي قادت الحركة الصهيونية واسرائيل في عقديها الأولين. ولكن ومنذ حرب 67 بدأت الحركة العمالية تضعف وأخذت تقل قوتها مع كل انتخابات بداية بانتخابات 69 مروراً بانتخابات 73 ولاحقاً 74. وقد خسرت الانتخابات سنة 77 لصالح حزب الليكود الذي وجد على الحال حليفاً أكيداً في الاحزاب الدينية وعلى رأسها الحزب الوطني الديني المفدال الذي رافق حكومات العمل منذ تأسيس الدولة، فيما عدا فترتين قصيرتين بعد حرب 67. ومنذ ذلك الحين تضاعفت قوة الاحزاب الدينية وتضاعفت نسبة المتدينين في اسرائيل حتى أنها أوصلت 30 أصولياً أو ربع المقاعد في الكنيست الأخيرة. ولم تكن صدفة بسبب الحرب ان يتلازم تدين الاسرائيلي مع تطرفه القومي والسياسي. وعلى العموم، فكلما زاد تدينه كلما زاد تطرفه السياسي نحو اليمين. وحتى هؤلاء الذين لا يعتبرون أنفسهم متدينين، لكنهم يقومون ببعض أو جميع الفرائض الدينية، تراهم على العموم يميلون نحن اليمين كلما زاد انضباطهم الديني. ولربما كان العكس صحيحاً، إلا في الحالات التي شهدنا فيها، في فترات لاحقة، عدداً من الاسرائيليين العلمانيين المتطرفين. وعلى خلاف العقدين الأولين حيث هيمنت الحركة العمالية العلمانية الاشتراكية والقوى العلمانية الاخرى على اجندة الدولة وعلى مؤسساتها وعلى جميع مرافقها الحياتية، فإن العقدين الأخيرين يعطيان صورة مغايرة كلية حيث انتشار المعاهد الدينية وحيث الالتزام بالطقوس الدينية والمناهج الدينية والمؤسسات الحزبية الدينية. ولم تكن صدفة ان نهاية هيمنة العلمانية الاسرائيلية على الحكم في اسرائيل قد أتت على يد المتدينين الذين استاؤوا بسبب استقبال رئيس الوزراء رابين سنة 1976 طائرات حربية اميركية بعد ان دخل السبت، وهو أمر محرم عند المتدينين المحافظين. نقول ان حرب 67 كانت المفصل لأنها هي التي سمحت بإعادة موضوع الأرض وقدسيتها والاماكن المقدسة وأورشليم الى واجهة الحياة السياسية الاسرائيلية. وما تلاها من احتلال كان بحاجة الى تبرير مقنع، خاصة ان اسرائيل التي نجحت في طرد غالبية العرب الفلسطينيين بعد سنة 1948 ونجحت في تناسيهم، وجدت نفسها تحتل مليون فلسطيني من جديد. وعملياً رجع ضحايا فلسطين الى قلب الوجود الاسرائيلي و"الوجدان" اليهودي، بعد ان "غاب" عنهما العقدين. وأدى الاحتلال الى المزيد من الاضطهاد والعنف والمجازر والتعذيب التي احتاجت الى تبرير يتعدى رغبات اميركا ومصالحها الاستراتيجية ويتعدى التفسيرات الأمنية. وكان أفضل التبريرات المقدمة للاسرائيليين دينية لاهوتية تعتبر ان كل فلسطين هي جزء من أرض اسرائيل الكاملة، التي وعد بها الله الشعب اليهودي. وكل من يسكنها عدو وشيطاني، وكان الاسرائيليون على استعداد كاف لقبول الطروحات الدينية، حتى ان أحد الاستفتاءات المهمة التي أدارها معهد اسرائيل للعلوم الاجتماعية التطبيقية قد وصل الى استنتاجات مفادها ان الدين كان أهم عنصر لتبرير حق اسرائيل على الأراضي التي احتلت، فيما كان منطق القوة هو السبب الذي تلاه. وجاء تردد حكومات اشكلون، وغولدا مئير ورابين في قبول المبادرات العربية، المصرية خاصة، والاميركية، ليعزز التطرف الديني والقومي في اسرائيل وليزيد من قوة هذين المعسكرين في السنوات اللاحقة. ويذكر ان لهنري كيسنجر كان دور مهم في تعطيل جميع المبادرات السلمية، بما فيها مبادرة روجرز وخطة ألون، باعتبار ان الوقت غير ملائم وانه لا بد من امتصاص المزيد من التنازلات العربية والسوفياتية مقابل اي انسحاب اسرائيلي. وعملياً لم تتبن حكومة اسرائيل خطة ألون رسمياً، بسبب معارضة اليمين والمتدينين لها من داخل الحكومة، بل شرعت في تنفيذ الاجزاء المتعلقة بالاستيطان وتعزيز التواجد الاسرائيلي في المناطق المحتلة، مما أعطى المتدينين الصهاينة فرصتهم ليكونوا مستوطني اسرائيل الثانية وليكونوا البديل الجديد عن الحركة الكيبوتسية العمالية العلمانية التي اجتاحت فلسطين قبل اعلان الدولة الاسرائيلية. وتشكلت بناء على ذلك حركات استيطانية يهودية مدعومة حكومياً وسياسياً. واصبح التطرف الديني جزءاً لا يتجزأ من تطور الاحزاب والحركات الدينية في اسرائيل، بما في ذلك تلك الأورثوذكسية التي فضلت الامتناع عن المشاركة في الحياة السياسية قبل 67 ولكنها انخرطت كلية في الحياة البرلمانية والمؤسساتية الاسرائيلية بعد الحرب. حتى ان مشاريع قرارات حزب اغودات يسرائيل الاورثوذكسي الأصولي غير الصهيوني في الكنيست قد تضاعفت بعد حرب 67، خاصة في شؤون الدولة العلمانية. وعملياً أدى تطرف بعض الاحزاب الدينية وتسييس الجزء الآخر منها الى توحيد الجهود الدينية مع اليمين القومي لتشكيل جبهة قادرة على ضرب أركان الحركة العمالية وشلها سنة 77. وعملياً هيمن هذا التحالف بين المتدينين والقوميين المتطرفين الممثلين بالليكود وتسوميت وما إليه من الاحزاب اليمينية على الخارطة السياسية الاسرائيلية في العقدين اللاحقين، ما عدا الفترة ما بين 92 - 96. في هذه الفترة جرت تحولات سياسية مهمة في الخارطة الحزبية في اسرائيل كان أهمها تشكيل حزب شاس الأصولي والذي وجد بين الشرقيين التقليديين والمحافظين قاعدة شعبية كبيرة له. وغالبية هؤلاء كانوا قد صوتوا الى أحزاب اليمين والليكود خاصة في نهاية السبعينات، وكان للاحتلال في 67 ولموجة التدين في اسرائيل أثر كبير في تجنيد الشرقيين في حزب شاس بعيداً عن اليسار العلماني وعن العرب الذين شاركوهم الى حد ما كونهم يعانون من سياسة التمييز التي اتبعتها حكومات العمل الاشكنازية. لقد انتجت حرب 67 وما تلاها من احتلال مجتمعاً اسرائيلياً أكثر عنفاً وتطرفاً وتديناً مما كان عليه قبل الحرب بل وغذى الاحتلال من قوة التطرف الديني وبلطجيته وهو الذي لا يعترف بالديموقراطية ولا بالقوانين العلمانية ولا بالمواثيق الدولية، بحجة ان مرجعيته إلهية وتوراتية فقط، مما أدى في نهاية المطاف الى امتداد حالة التطرف اللاقانونية من الأراضي المحتلة الى داخل المجتمع الاسرائيلي ذاته، حيث صعد التطرف الديني، على جميع أنماطه، من مواجهته مع اجهزة الدولة العلمانية. وعلى الرغم من موجة العصرنة المهمة، التي مرت بها اسرائيل في الثمانينات والتسعينات، وعلى الرغم من هجرة أكثر من مليون روسي، في غالبيتهم علمانيون، الا ان تأثير الدين في الدولة وفي الحياة السياسية ازداد بوتيرة ثابتة منذ حرب 67، وأدى عملياً الى انتاج مجتمعين منفصلين لهما تطلعات وتوجهات وعقائد متضاربة. وأصبح من الصعب جسر الهوة بينهما لمجرد اشراكهما في ائتلاف حكومي، وجميع المؤشرات تقول ان الهوة ستصبح شرخاً مهماً في المجتمع. * كاتب وصحافي فلسطيني، القاهرة