قبل حوالي مئة عام شرعت الحركة الصهيونية العالمية في الدعوة الى اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وحرصت خلال النصف الأول من هذا القرن على وضع قاعدة صلبة، بشرية واقتصادية وعسكرية، لاقامة هذه الدولة الجديدة. وتصادف في هذه الأيام ذكرى مرور خمسين عاماً على تأسيس اسرائيل، واذا كانت الدولة الجديدة قد وسعت رقعة سلطتها على مناطق فلسطينية جديدة بعد حرب 1967، ووظفت العلاقة بين الدين والدولة لاضفاء مسحة ايديولوجية تبرر الاحتلال، واستقطبت جاليات يهودية من الخارج. وأنشأت آلة عسكرية ضخمة، الا انها لم تنجح، بعد خمسين سنة، في بلورة هوية اسرائيلية، وهي مسألة بالغة الدلالة وكانت موضوع بحث جاد في معهد سبينوزا المشهور، شارك فيه باحثون اسرائيليون معروفون لم يتمكنوا، بعد يومين من البحث، من الاجماع على صيغة هوية اسرائيلية محددة فأكدوا وجود "تعددية" في اسرائيل. دولة من دون حدود ويبدو ان قضية الهوية الواضحة وبناء الأمة صاحبة هذه الهوية، لم يشغلا تفكير قادة الدولة الجديدة وممارساتهم، كذلك جرى التمسك بشعار "دولة اليهود"، اليهود اينما كانوا ومتى شاؤوا، وتوسيع رقعة الدولة - الأرض كشرط لازم لاستيعاب الشتات، ولذا لم تحدد قانونياً حدود الدولة. وكان واضحاً ان تحقيق هذين الأمرين، جمع الشتات والتوسع، يتطلب توافر آلة عسكرية قوية وقمعية، جيش ومخابرات وشرطة وصناعة عسكرية متطورة، كما يتطلب ممارسة العنف بمختلف اشكاله، بل الارهاب بكل فظاعته، ضد الطرف المستهدف، الشعب الفلسطيني الذي يجب نزع الأرض منه وتقليل وجوده الجسدي عليها مباشرة، من خلال الترويج ل "الحق الالهي" الممنوح ل "الشعب المختار"، الشعب اليهودي، ولغير ذلك من الاساطير والقصص الدينية، وتثبيت العلاقة بين الدين والشعب المُجمع من جديد وبين الدين والدولة. وكان من الطبيعي ان يسفر هذا الفكر وهذه الممارسة عن تعزيز اصوليتين: الأولى دينية ازددات قوة ونفوذاً في الثلاثين سنة الاخيرة، خصوصاً بعد حرب 1967، والثانية عسكرية. وكلتاهما تتحكمان في صياغة القرار السياسي وتحددان الطابع الاجتماعي والاقتصادي للدولة اليهودية. وعلى رغم حصول تناقض في حالات معينة بين مصالح هاتين الاصوليتين ومواقفهما، الا انهما متفقتان في الهدف، خصوصاً في الموقف من الشعب الفلسطيني ومن الأرض والتسوية، وتتقاسمان الامتيازات المختلفة التي تقدمها الدولة. لقد كان واضحاً منذ البداية لقادة الحركة الصهيونية، وقادة الدولة اليهودية لاحقاً، ان قيام اسرائيل بالشكل الذي خططوا له، يعني العنف ضد الآخر، واستمراريته، ونجح قادة الدولة الجديدة، في إحداث تغيير في طبيعة اليهودي الأوروبي المستضعف الذي كان ضحية الاضطهاد الأوروبي طوال مئات السنين، فحولته، فرداً وجماعات، الى مجتمع عنيف، ويرتكب المجازر، يمارس ما كان هو ضحيته ذات يوم، ويعتدي على الدول المجاورة، مصر وسورية ولبنان والأردن والعراق. حتى ان تاريخ الدولة اليهودية في الخمسين سنة الأولى، كان تاريخ حروب ضد الدول المجاورة وضد الشعب الفلسطيني. ولم يتجذر العنف بين جيل المؤسسين، بل امتد ليشمل الجيل الجديد الذي لم يتورع عن كسر العظام وتعذيب المعتقلين وتدنيس المقدسات والتنكيل بالنساء والاطفال، بل حتى ارتكاب المجازر. وإذا كان قادة الجناح العمالي في الحركة الصهيونية، قادة "مباي" وحزب "العمل" لاحقاً، قد خططوا ونفذوا كل هذا، فقد مهدوا الطريق بذلك للمحصلة الطبيعية: تحالف الاصولية الدينية والاصولية العسكرية مع قادة "حيروت" وكسر هيمنة التيار العمالي العلماني على السلطة، وانتقالها الى أيدي ممثلي التكتل اليميني - الاصولي في النصف الثاني من السبعينات. منذ ذلك الوقت هيمنت الاصوليتان، الدينية والعسكرية، على القرار السياسي في اسرائيل التي شهد مجتمعها عملية تغيير تركزت في اتجاهين: الأول تسييس الدين والآخر "تدين السياسة". وبالفعل اخذت الاحزاب الدينية التي اشتهرت بمعاداتها للصهيونية تتسيس بعد حرب 1967 وتتمركز في صلب حياة الدولة العلمانية وأجهزتها. حتى ان اعضاء حركة الاصوليين الشرقيين "شاس" المعادية للصهيونية، ولو نظرياً فقط، دخلت الجيش في الثمانينات. اما حزب المتدينين الوطنيين "المفدال" المتطرف فقاد حركة الاستيطان في الضفة الغربية بمساعدة الاصوليين العسكريين. وفي المقابل اخذ اليمين العلماني يتجه في خطابه السياسي الى الدين وصارت مصطلحات مثل يهودا والسامرة وأورشليم تمثل التوجه العلماني للدولة الاسرائيلية في نهاية هذا القرن. وأخذت ترجح كفة "المسيانية الدينية" التي تنادي بالتحضير اليهودي لمجيء المسيح على كفة "المسيانية السياسية" التي مثلها بن غوريون وزعماء الصهيونية، الذين رأوا في بناء دولة يهودية قوية ومزدهرة تحقيقاً لحلم اليهود. على هذه الخلفية اشتد الصراع بين هؤلاء الذين ينظرون الى مستقبل اسرائيل من زاوية حدودها الجغرافية - الدينية وأولئك الذين ينظرون اليها من خلال ما تنجزه من توسع على الجبهات الاقتصادية والاستراتيجية في ظل العولمة الحديثة. ومن الجدير بالذكر ان المسيانية السياسية والدينية كانتا، في العقدين الأولين، تسيران جنباً الى جنب وتقوي الواحدة الاخرى. وكانت اسرائيل توسع استيطانها على الأراضي التي بسطت نفوذها العسكري عليها وتبني اقتصاداً وتطور علاقاتها الدولية. اما بعد احتلالها الضفة الغربية وغزة فأخذ ينشأ تناقض بين استمرارها في السيطرة على الأراضي من ناحية وتحسين موقعها وعلاقاتها الدولية. وأخذت اسرائيل تتقوقع اكثر فأكثر دولياً وتثبت احتلالها محلياً وإقليمياً. دور اميركا ولا يمكن الفصل بين هذه التطورات في اسرائيل وبين علاقاتها الدولية، خصوصاً مع الولاياتالمتحدة التي لعبت دوراً مهماً في تعزيز قدرات اسرائيل واتساع الحدود بسبب الاحتلال وفتح الجبهات، موظفة في المقابل الدور الاسرائيلي لمصلحتها في ظل تأجيج الحرب الباردة اقليمياً في السبعينات والثمانينات. وتضاعفت المساعدات الاميركية العسكرية والاقتصادية التي لم تنلها اية دولة اخرى. وكان وزير الخارجية السابق هنري كيسينجر أول من عولم وأدلج احتلال اسرائيل للأراضي المصرية والسورية والفلسطينية الأردنية معتبراً ان هذا الصراع ضروري لحماية المصالح الاميركية ولضرب حركة التحرر الوطني العربية ولسد الطريق أمام نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اخذت الولاياتالمتحدة تبني نظاماً اقليمياً جديداً يتمحور حول اقامة علاقات استراتيجية في المنطقة وفتح اسواق جديدة للبضائع والخدمات الاميركية وأبقت اسرائيل في مركز هذا النظام. صحيح انه في ظل الظروف المستجدة لم تعد بضعة كيلومترات في الضفة الغربية والجولان تلعب الدور الاستراتيجي نفسه، كما في العقود السابقة، الا ان الولاياتالمتحدة ما زالت تقيم علاقات استراتيجية مميزة مع الدولة اليهودية، بلغت من التداخل والتفاعل حداً لا يمكن اعتبار الطرف الاميركي عاملاً خارجياً عند تحليل حقيقة ما يجري في اسرائيل. ان في اسرائيل اليوم من يعتبر ان المشروع الصهيوني يكتمل باكتمال الدولة وضمان امنها وازدهارها، وان عولمة الاقتصاد وانفتاح اسرائيل على العالم وعلى المنطقة لضمان ازدهارها وتقويتها يستحقان بعض التنازلات على صعيد تسوية الحدود، لأن تقوية الجبهات الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة وعلى الصعيد الدولي افضل ضمانة لاسرائيل، بل افضل من الحصول على مزيد من الأراضي. لانه يسهل الامر على الاميركيين لاقامة النظام الجديد في المنطقة. لكن الغلبة ما زالت للتيار المتشدد، الذي يمثله نتانياهو وحكومته القائمة على تحالف الاصوليتين: الدينية والعسكرية. وادى انقسام المجتمع الاسرائيلي على خط "الحدود" و"الجبهات" الي اختراق احزاب اليمين واليسار في حالات معينة. فعلى سبيل المثال أيد آخر رئيسين لبلدية تل أبيب - اكبر المدن الاسرائيلية وأغناها - وهما عضوان في حزب ليكود اجراء المفاوضات مع منظمة التحرير وأيدا انشاء دولة فلسطينية، في حين ان رئيس بلدية القدس السابق تيدي كوليك او حتى قادة المستوطنين في الجولان يؤيدون حزب العمل والاحتفاظ كذلك بأراضي العرب. واخترق هذا الانقسام الصراع الديني - العلماني، وكذلك الصراع الشرقي - الاشكنازي، وهي صراعات تشغل المجتمع الاسرائيلي، خصوصاً منذ ان عزّز التيار الديني نفسه وانخرط الشرقيون في احزاب وحركات اهمها حركتا "غيشر" العلمانية و"شاس" الدينية. ومع استمرار هيمنة صراع الحدود والجبهات واليمين واليسار على المجتمع الاسرائيلي استمرت الازمة بين العلمانيين والمتدينين في المقعد الخلفي. وادى بسط اسرائيل سيطرتها على الأراضي المحتلة الى تعزيز بقاء اليمين في السلطة وتجذّره في الثقافة السياسية السائدة. اما خروج اسرائيل من الأراضي العربية فيعني كسر جماح الاصولية الدينية - العسكرية، وظهور الصراعات الاخرى المذكورة، وتأسيس نوع آخر من السلطة السياسية في اسرائيل. ومن هذا المنطق يعتبر اليمين الاصولي الحاكم ان الانسحاب لا يعني خسارة الأراضي فحسب، بل انهيار منطق اليمين والاصولية وخسارة الحكم في اسرائيل. والوقت لا يعمل لمصلحة التغيير الايجابي. وهو ما اكده استطلاع اخير اجرته وزارة التعليم والثقافة في اسرائيل اشارت نتيجته الى ان الشباب الاسرائيلي يتجه نحو اليمين، ليس فقط في مواقفه من الفلسطينيين والعملية السلمية، بل في ما يخص طبيعة الدولة والسلطة فيها. فمعظمهم يرى انه يجب سحب الحقوق المدنية والسياسية من المواطنين العرب في الدولة. ويؤيد وجود قيادات اكثر مركزية وقوة ولو على حساب الديموقراطية. وهنا يتضح اكثر فأكثر ان استهتار اليمين السياسي والاصولية الدينية بالديموقراطية وأسسها وآلياتها امتد الى الشباب الاسرائيلي. تسوية ممنوعة وتؤكد الاصولية اليهودية ان "جلالتها الديموقراطية" لا تكفي لاعطاء شرعية للانسحاب من "أراضي اسرائيل" اي انه لا يحق للغالبية ان تفرط في الأرض، وتعتقد ان بيدها وسائل احتجاج كثيرة وعنيفة تمنع اي تسوية مع الفلسطينيين لا تضمن السيطرة على فلسطين التاريخية. وكانت عملية اغتيال ايغال عامير لرئيس الوزراء رابين جزءاً من هذه الثقافة. وليس مصادفة ان تقود مدينة تل أبيب جهود اسرائيل للانفتاح على جبهات جديدة وهي المدينة اليهودية العلمانية ومركز صناعات اسرائيل وبورصتها وقلب منشآتها التكنولوجية المتطورة وصاحبة اعلى مستويات المعيشة فيها. وليس مصادفة كذلك ان تقود القدس ذات الغالبية المتدينة والتي تضم بالقوة 250 الف فلسطيني سياسة اسرائيل الاستيطانية، وهي التي تعد حالتها الاقتصادية من ادنى مستويات الحياة بين المدن الاسرائيلية. وإذا كانت القدس تضم نحو مليون نسمة، الى جانب مليوني نسمة في تل أبيب،فمعني ذلك ان غالبية السكان تعيش في هاتين المنطقتين اللتين تمثلان الى حد ما وجهتي نظر مختلفتين. وقد انعكس ذلك في الانتخابات حيث حصل شمعون بيريز على غالبية اصوات سكان تل أبيب بينما حصل نتانياهو على ثلثي اصوات القدس. فشركات اسرائيل الكبرى ترى وجوب وقف الركود الاقتصادي التي تعيشه اسرائيل والناتج بصورة خاصة عن انحسار العملية التفاوضية ولا يمكن فهم ذلك من دون ربطه بالوضع الاقتصادي. لقد حققت اسرائيل انجازات مهمة في الحقل الاقتصادي، الا ان انعدام الأمن وانسداد آفاق التسوية السياسية، رافقهما ركود اقتصادي، ابرز ملامحه اتساع البطالة وتراجع الانتاج والتصدير. ولذلك تطالب الشركات الاقتصادية الكبرى بالعمل على اعادة تسيير العملية السياسية انقاذاً للوضع الاقتصادي. في هذه الاثناء يلاحظ استمرار انعكاسات سياسات الحكومات المتلاحقة في المجتمع الاسرائيلي اذ سجل قبل سنتين 200 الف اعتداء ضد نساء و70 الف اعتداء على الاطفال. واكثر من 21 الف حالة قتل نتيجة حوادث الطرق منذ 1948 اي ما يزيد على جميع قتلى اسرائيل في حروبها مجتمعة. وتزداد ظواهر التدين بين اليهود الشرقيين ومؤيدي اليمين في حين يتجه شباب العمل واليسار الصهيوني نحو الحداثة وما بعدها. وينقسم المجتمع وشبابه بين الاستهلاك الاميركي للسلع من ناحية واستهلاك الدين والخرافات التاريخية من ناحية اخرى. ويتجزأ الشارع الاسرائيلي الى مجتمعات منفصلة عن بعضها البعض في التقاليد والعادات. وحتى في اللغة، فهناك اليهود المغاربة والروس والبولنديون والاميركيون. وتتعمق الفروقات الاجتماعية - السياسية بينهم بعدما اوجدت كل فئة منهم لنفسها تمثيلاً سياسياً. ولا يمكن الفصل بين الواقع الذي تعيشه اسرائيل والمنطلقات الأولى لقيام الدولة. وما تشهده اسرائيل اليوم هو محصلة الشروط والظروف التي مهدت لقيام الدولة، ومحصلة السياسات التي نفذتها الحكومات المختلفة بدءاً من العام 1948. وهو نتيجة تراكمية لهذه السياسات. وقد أضحى التحدي الأساس والأهم امام اسرائيل، هل تتحول مجتمعاً متعدد الثقافات في ظل ديموقراطية تضيء لها طريق التعايش المشترك داخل الدولة ومع الجيران؟ ام انها ستنخرط في صراعات داخلية على خلفيات دينية وايديولوجية وحضارية في ظل انحسار الديموقراطية. ام ستبقى تتأرجح بين الديموقراطية المنتقصة والمشروطة من جهة، وبين الاصولية من الجهة الاخرى، بين العلمانية والدين وبين السلام والانسحاب؟ ان الجواب لا يكمن فقط في الحل السياسي، بل في طريقة تطبيع العلاقات الاجتماعية داخل اسرائيل وتطبيع علاقات اسرائيل مع جيرانها 0 * مدير معهد القدس للعلاقات الدولية.