تتنافس مدينتا بورتو أليغري في البرازيلونيويورك في محاولة الإجابة العملية على مجموعة من التحديات التي تحدد وجه عالم الغد، وترددت في أجواء المدينتين أصداء النقاشات الساعية إلى رسم ملامح ما يمكن أن تصبو إليه مجتمعات العولمة في مرافق الحياة كافة، من الزراعة إلى الصناعة مروراً بالمال والتمويل والعلم والتعليم والإعلام. فمن دافوس إلى سياتل مروراً بجنوى، نشهد "ثنائية" تتشكل من مؤيدي العولمة الاقتصادية يواجههم نشطاء معادي العولمة بكل وجوهها. وكما هو في كل أوجه السياسة العالمية، أصابت أحداث 11 أيلول سبتمبر والحرب التي تلتها هذه "الثنائية" في الصميم وتغيرت أهداف هذه التجمعات كما تغيرت أشكال تقاربها لمشاكل "عالم ما بعد 11 أيلول". وإذا كان يمكن اعتبار نقل اجتماع دافوس إلى نيويورك بمثابة مساندة معنوية للمدينة الجريحة فإن تجمع بورتو أليغري كان مقرراً عقده في المدينةالبرازيلية منذ السنة الماضية في إشارة رمزية لتحية "مدينة الديموقراطية المباشرة" حيث تتخذ القرارات التي تمس حياة مواطنيها بتصويت مباشر من هؤلاء. ولا يتوقف التمايز بين المدينة العملاقة محط أنظار العالم ومحور التجارة العالمية والقرارات الدولية: نيويورك وبورتو أليغري الضائعة في مجاهل الأمازون على الرمزيات، بل يتجاوزها نحو جوهر الاجتماعات وطبيعتها. ومن المفارقات التي أدهشت المراقبين، أنه في حين كانت محادثات ومناقشات زعماء المال والتجارة، تصب في السابق في معالجة أفضل الطرق لفتح أوسع الطرق أمام التبادل التجاري وتشجيع حركات رؤوس الأموال، فإن مؤتمر نيويورك شهد انعطافاً لم تتردد بعض الصحف في وصفه بالانعطاف نحو "حديث يساري مليء بالإشارات العاطفية". في حين أن مؤتمر بورتو أليغري الذي جمع ما هب ودب من مناهضي العولمة والمتصدين لهيمنة الاقتصاد على الحياة اليومية للشعوب، والذين لم يترددوا في السابق بالنزول إلى الشارع واثارة الشغب لإسماع أصواتهم، بدت توجهاته تخطيطية رصينة وبات يجمع العديد من اللجان لمحاولة طرح حلول بدلاً من الاكتفاء بالتنديد بالحلول المطروحة. ومن المتوقع أن يترك هذا الانقلاب في الأدوار أثراً كبيراً على مستقبل العلاقة بين التجمعين. ولا يمكن الحسم إذا كان التغيير الذي أصاب تجمع نيويورك مرده الإحساس بضرورة الإجابة على التساؤلات التي طرحتها ردات الفعل على أحداث 11 أيلول وتوجهات الحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة في سياق حملة محاربة الإرهاب، أم هو محاولة لامتصاص القوة المتزايدة للتجمع المضاد الذي يمثل كل الرافضين لأهداف التجمع المالي والصناعي. ولكن ما يمكن الجزم به هو أن تغييراً قد حصلَ، وأن المجتمعين في نيويورك قد أدركوا، كما يقول مصرفي كبير يشارك في مؤتمرات دافوس منذ انشائها، أن فرض توجه اقتصادي ومالي ينعكس على كل أوجه الحياة لسكان المعمورة، لا يمكن تمريره بالقوة، من دون الأخذ في الاعتبار مواقف الافرقاء الضعفاء والدول الفقيرة. ويمكن اعتبار هذا الاخذ بهذا الاعتبار انتصاراً لمناهضي العولمة، من حيث أنهم نجحوا في فرض "فترة السماح" هذه، وأجبروا المجتمعين في نيويورك على الالتفات الى أمور اجتماعية والأخذ في الاعتبار أبعادها على حياة الآخرين. فهيلاري كلينتون تتحدث من دون خجل عن ضعف التعامل الأميركي في معالجة تحديات الفقر في العالم والأمراض في الدول الفقيرة، فيما ابتعد بيل غيتس عن حديث النمو الاقتصادي ليغوص في الكلام عن "معايير التجارة العالمية التي تميل لمصلحة الأغنياء مما يعزز الحرمان في العالم ويغذي مشاعر السخط وينتج الإرهاب". ولم يتردد أغنى أغنياء العالم، في القول بأن التظاهرات في الشوارع دليل صحة، وهي تهدف الى المطالبة بتوزيع عادل للثروة العالمية! وكانت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وكأنها لسان حال المجتمعين في مؤتمر بورتو أليغري، فهو تتطرق الى الصورة الحالية للعالم حيث الانطباع "بأن العولمة تقاد من جانب نخبة عالمية مكونة من شخصيات تشارك في هذا المؤتمر"، وحذر من أن ترتد العولمة عكسياً وتترك أثراً سلبياً على الاقتصاد العالمي. ولم تغب الانتقادات للسياسة الخارجية الأميركية عن "منتدى الأغنياء". وإذا كان التطرق الى سياسة واشنطن في هذا الإطار هو بحد ذاته تطور جديد فإن حصوله في نيويورك، مدينة 11 أيلول التي يكرمها المنتدى، وبعد أيام من حديث جورج بوش عن حالة الاتحاد الذي لاقى ترحيباً من الأميركيين يعادل شعبيته التاريخية 83 في المئة، يعتبر تطوراً نوعياً، ويشير إلى "الإزعاج والقلق لدى شركاء واشنطن من هذا التوجه الجدي الانفرادي والسلطوي في إدارة شؤون العالم"، حسب ما تردد على لسان العديد من المسؤولين الأوروبيين. ولا يتوقف هذا الانتقاد على غير الأميركيين، فقد انتقد العديد من الخطباء الأميركيين السياسة الأميركية، أكان من حيث توجهها الانفرادي في تصنيف الدول وفرض طرق التعامل معها، أم في انطلاقها في سباق تسلح مخيف. وحتى مواقفها من الأزمة الفلسطينية كانت تحت مجهر الانتقادات. فمستشار الأمن القومي السابق للرئيس رونالد ريغان زبغينو بريجينسكي، الذي لا يمكن اتهامه بالتودد للفلسطينيين، حذر من أنه في غياب سياسة حازمة من قبل واشنطن فإن اتساع العنف الفلسطيني، قد يجبر إسرائيل على زيادة وتيرة رد فعلها العنيف ما يمكن أن يحولها إلى نظام شبيه بنظام التمييز العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا قبل الاستقلال. وشدد على ضرورة إيجاد "تشريعات حقوقية قانونية مدنية" داعياً واشنطن إلى حملة اجتماعية لتخفيف مشاعر الغضب من سياستها. كذلك انتقد السيناتور ليهي باتريك المساعدات الأميركية الضخمة لإسرائيل، ودورها في تأجيج غضب العديد من الدول الفقيرة. وفي حين كانت نبرة الخطابات في منتدى الاقتصاد تأخذ توجهاً سياسياً منتقداً لأكبر قوة اقتصادية في العالم، كان "منتدى الفقراء" في بورتو أليغري، يأخذ توجهاً أكثر مسؤولية. وعوضاً عن الاكتفاء بالتنديد بالعولمة بأشكالها كافة، انكب المجتمعون على صياغة خطط لتوجيه هذه العولمة. ومن أجل ذلك تم وضع برنامج محدد يأخذ في الاعتبار القاسم المشترك بين مختلف المشاركين من أنحاء العالم، في محاولة للخروج من "وودستوك المناهضة لكل شيء" والدخول في مرحلة جديدة للسعي للتأثير على مجريات الاقتصاد العالمي بصيغته الهيكلية التي تقرر معالم عالم الغد. ونظراً الى اختلاف أهداف المنظمات العديدة المشاركة بشكل "فولكلوري" في المنتدى، وحسماً للخلافات التي يمكن أن تعطي انطباعاً عن وجود تيارات متنازعة، تقرر الاكتفاء بحد أدنى يمكنه أن يفتح باب المناقشة مع المنظمات الدولية في محاولة للتأثير على قراراتها. وعلى رأس الأهداف التي اتفق الفرقاء عليها: 1- إلغاء الجنات الضريبية والقوانين التي تحميها. 2- فرض ضرائب على "التيارات المالية" وهو برنامج واسع يقضي بفرض ضرائب على التحويلات المالية والمضاربات على العملات في الأسواق العالمية. وكذلك الاستثمارات الدولية في الدول الأجنبية، مما يساهم بتخفيف التلاعب بقيم الضريبة التي تقوم بها الدول لجلب الاستثمارات الأجنبية إليها. 3- فرض ضرائب عالمية على الشركات العالمية للحد من إمكانية الشركات الكبرى في إنشاء المصانع في الدول الفقيرة وجني أرباح طائلة ودفع الضرائب. إما في الجنات الضرائبية إما في دولها الأصلية. 4- إعادة تنظيم الانتاج الزراعي والتخلي عن المواد المعدلة جينياً في الزراعة حفاظاً على الصحة والسلامة العامتين ومنعاً لاستفراد الدول المتقدمة بالأسواق عبر إغراقها بمنتوجات مشكوك بصلاحيتها الصحية على المدى الطويل، وقتل الزراعات الوطنية. 5- الإقرار بأولية "الأمن الغذائي" للدول. 6- تعزيز دور الديموقراطية في الدول عبر تعزيز دور المواطنين في تقرير شؤونهم البلدية والحياتية. وقد تم تشكيل لجان لدرس هذه الاقتراحات ومحاولة تقريب وجهات النظر بين تطلعات منتدى بورتو أليغري وسياسات أصحاب القرارات السياسية والمالية. وفي المقابل، وحسماً للنزاعات التي يمكن أن تنعكس سلباً على الصورة الإيجابية التي ظهرت في بورتو أليغري ومحت صورة الشغب والعنف في جنوى، تقرر تجاوز العديد من المطالب التي يمكن ان تسبب تفسخاً في مواقف المشاركين ومن أبرز القضايا التي تركت جانباً، التعليم والإعلام، حيث كانت بعض المنابر تطالب بدرس تأثير التكتلات الكبرى والشركات العالمية على الإعلام في العالم، وإمساكه بزمام الموازنات الإعلانية، أو بطريقة مباشرة عبر شراء التكتلات الإعلامية. وقد ساهم هذا التوجه "الرصين" لمنتدى الفقراء باستقطاب العديد من المسؤولين السياسيين وحتى كبار المصرفيين بعدما كان مقتصراً في السابق على النشطاء في هامش السياسة وبعيداً عن عالم المال. ولوحظ أن العديد من الوزراء الأوروبيين، خصوصاً المرشحين للانتخابات، وأبرزهم خمسة مرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، أخذوا عناء السفر إلى المدينةالبرازيلية، في محاولة لركوب الموجة الجديدة بعدما خرجت من إطار الهامشية التي حشرت نفسها فيها سابقاً. وتساءل بعض المشاركين إذا كان يمكن اعتبار هذا التوجه الجديد لمنتدى الفقراء انتصاراً وتأكيداً لصحة طروحاته. فقد بدأ المسؤولون عن المنتدى في غمرة نجاحهم غير المنتظر، بالسعي الى تسويق صورة المنتدى وسياسته وذلك حسب تقنية التسويق المتبعة في الأنظمة والشركات التي ينددون بها. خصوصاً أن التحضيرات للمنتدى المقبل بدأت تخضع لشروط ومقاييس شبيهة بالمنتديات التي تنظمها الشركات الكبرى والمصارف العالمية ومنتدى دافوس. وفي المقابل فإن انفتاح منتدى دافوس العتيد على جهات مدنية وشعبية وسياسية وتطرقه الى معالجة طروحات كان يعف عنها، تجعله منافساً لما كان عليه تجمع المناهضين للعولمة في عملية انقلاب في الأدوار، مع فارق بسيط هو صفة الغنى والفقر الملازمة لكل منهما