القول ان روسيا غاضبة جداً على أميركا بسبب تمادي الأخيرة واستهتارها يجانب الصواب. والقول ان الروس يجارون الاميركيين في كل صغيرة وكبيرة بعيد عن الحقيقة ايضاً. ان نظرة روسيا الى "النظام العالمي الجديد" مزدوجة، وفيها تناقض لافت تكشفه، من جهة، دلائل عدم رغبتها في قبول واقع انتهاء الثنائية القطبية وانفراد الاميركيين بتقرير مصير العالم، ومن جهة اخرى، ثمة دلائل على ان روسيا عاجزة عن ان تفعل شيئاً في مواجهة الإرادة الاميركية. وقد جاءت انتقادات الرئيس فلاديمير بوتين لتصرفات الولاياتالمتحدة، وهي تحارب وتهاجم في أي مكان شاءت، باهتة وضمنية لا تكاد تذكر الاميركيين بالاسم، بل تشدد على رفض هيمنة قوة واحدة في العلاقات الدولية وفي مكافحة الارهاب. وحول بدعة "محور الشر" التي تفتقت عنها قريحة الرئيس جورج بوش في خطابه عن "حال الاتحاد" قال وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف: "لا يجوز الخلط بين مكافحة الارهاب وشن الحرب على دول أو شعوب أو أديان. فهذا الخلط ينطوي على خطر انقسام الاتحاد الدولي لمكافحة الارهاب، وهو أمر ليس في مصلحة أحد. والمستفيد الوحيد منه الارهابيون". وزاد: "لا يجوز ان تتخذ مكافحة الارهاب ذريعة لبلوغ أهداف سياسية مهما كانت، خصوصاً اذا كانت ضد دول وأنظمة بكاملها". ومن جهة اخرى، اكد رئيس الوزراء الروسي ميخائيل كاسيانوف، قبل مقابلته الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني في واشنطن أخيراً "ان روسيا مستعدة لتوسيع التعاون الاقتصادي مع اميركا، لتوافر جميع الظروف لجهة توسيعه، وفي مقدمها تطور الحوار السياسي بين بلدينا"، وذكر كاسيانوف ان أربعة لقاءات تمت بين الرئيسين الاميركي والروسي، واللقاء الخامس على الأبواب، اضافة الى عشرات المحادثات على أصعدة أخرى، ما جعل البلدين "يبلغان في غضون عام واحد مستوى غير مسبوق من الثقة والتعاون". ويبدو هذا الكلام في أعقاب خطاب بوش مغالطة غريبة على ضوء اسقاطات افغانستان، الا اذا اعتبرنا ان الثقة بين البلدين كانت على مستوى الصفر قبل 11 ايلول سبتمبر 2001. ويمضي كاسيانوف في توضيح مسارات التعاون الروسي - الاميركي في السياسة الشكل الجديد لتعاطي روسيا مع حلف الاطلسي وايجاد صيغة العشرين دولة، وفي حل القضايا الدولية تقليص الأسلحة الهجومية وتأمين الاستقرار الاستراتيجي، وفي الاقتصاد "تشجيع الاستثمارات وتثبيت الاستقرار النفطي في العالم! ويفهم من كلامه ان المستوى غير المسبوق الذي يقصده لا يغدو ان يكون مجرد أمل منشود. إلا ان الكرملين شرع على أي حال بمراجعة حساباته العسكرية لمواجهة غير معلنة، وغير متكافئة بالطبع، مع الاميركيين، وأعاد النظر في قرارات عدة اتخذها وتراجع عنها الآن، وفي مقدمها: 1- محطات الانصات والانذار المبكر في الخارج: فقد عدل الكرملين عن فكرة اغلاق محطة غابالا للرصد الصاروخي في أذربيجان ووقع اتفاقية استئجارها لعشر سنوات اخرى، رداً على انسحاب الولاياتالمتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ. 2- الجيش الجوي السادس عشر: أصدر بوتين مرسوماً بإحياء هذا الجيش الذي كان يرابط في المانياالشرقية عشرات السنين ثم نقل الى موسكو بعد سقوط جدار برلين وصدر قرار بتفكيكه العام 1998. وسيغدو الجيش ال16 القوة الضاربة الرئيسية للدفاعات الجوية في منطقة موسكو، وستنسب إليه خيرة الوحدات الجوية كأسراب "فرسان روسيا" و"خيالة الجو" و"الخطاطيف"، وسيزود بأحدث الطائرات من الجيل الخامس. 3- الغواصات الذرية: كان الكرملين يريد ترك الغواصة "كورسك" بعدما غرقت العام الماضي هامدة في أعماق بحر بارينتس، الا انه عاد ورفعها مع جثث ملاحيها من القاع، وأنزل الى الماء بدلها غواصة جديدة أخرى من الجيل الخامس أحدث وأقوى. 4- التربية البدنية الشاملة التي اتخذت في العهد السوفياتي وسيلة للدفاع المدني. وقد طرح الكرملين قبل أيام مشروع احيائها، واعتمد لها مبلغ 50 بليون روبل زهاء 1.6 بليون دولار، في محاولة اعتبرها المحللون تمهيداً للتعبئة العامة عند الاقتضاء. 5- وثيقة الاستراتيجية العسكرية التي وقعها بوتين للفترة حتى العام 2010 وتبدي المزيد من الاهتمام بتكثيف القدرات العسكرية الروسية. والسؤال المطروح: هل روسيا قادرة فعلاً على المواجهة؟ ويأتي الجواب محيراً مفتقراً الى الجزم والتحديد. فلدى روسيا ما تستطيع ان ترد به على اميركا، ولا يعقل شطبها من الحساب قبل الأوان. ويكفي إنذار نووي واحد منها، لا سيما ان الشارع الروسي لا يزال يشعر بالحنين الشديد الى عهد الجبروت السوفياتي وسيؤيد كل محاولة للضرب بيد من حديد. الا ان المشكلة تكمن في غياب الإرادة لدى المؤسسة السياسية داخل الكرملين. لكن التدابير الآنفة الذكر لا تلبي استحقاقات التصدي الفاعل للطموحات والأطماع الاميركية، ما جعل المؤسسة السياسية الروسية خارج أسوار الكرملين تعمد الى لهجة أشد في انتقاد التوجهات الاميركية الجديدة من جهة، وتقترح على روسيا حلولاً اكثر جذرية من جهة اخرى. ويرى الخبير الاستراتيجي سيرغي روغوف مدير معهد دراسات الولاياتالمتحدة وكندا في موسكو ان نافذة الحوار والفرص المفتوحة حالياً بين روسيا واميركا يمكن ان تغلق. فالعلاقات الجديدة بين البلدين خلال السنوات العشر الماضية شهدت الكثير من التصريحات والأقوال والقليل من الاستحقاقات والأفعال. وسارت تلك العلاقات بفتور لم تتبعه تبدلات جذرية على الأرض. وعلى رغم الشوط الذي قطعاه، فإن البلدين اضاعا فرصة ايجاد منظومة جديدة للعلاقات وفشلا في إرساء أسس التعاون الفعلي. ولا يؤخذ في الاعتبار ما أعلن عنه الرئيسان السابقان بيل كلينتون وبوريس يلتسن في شأن الشراكة الاستراتيجية، فهو مجرد كلام. وكان في مقدم اسباب هذا الفشل غياب هيكلية التعاون التعاقدية بين البلدين، وافتقار روسيا الى استراتيجية مدروسة للاصلاحات الداخلية وللسياسة الخارجية في آن، اضافة الى افتقار الاميركيين الى استراتيجية محددة حيال الروس. وبدلاً من احياء مشروع مارشال لمساعدة روسيا مادياً يجري اليوم استنزاف مواردها لتسديد الديون السوفياتية القديمة والقروض المستحقة الجديدة. على ان ثمة فرصة ثانية توافرت بعد احداث 11 ايلول للتقارب بين الروس والاميركيين، لنشوء مصالح مشتركة للطرفين. وينصح روغوف بالاستفادة الآن مما تعذرت الاستفادة منه قبل عشر سنوات، على رغم ظهور حساسيات جديدة في العلاقة بين البلدين بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ وما الى ذلك. وبالإمكان تثبيت العلاقات وصولاً الى احيائها اثناء زيارة الرئيس بوش لموسكو في 23 - 25 أيار مايو المقبل. ولا بد من توقيع اتفاقات رسمية ملزمة أثناء الزيارة لايجاد آليات وأطر جديدة للعلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وإلا فستضيع الفرصة الثانية التي قد تكون الأخيرة. ويعتقد روغوف "ان ثنائية الخير والشر أو محور الشر كوريا الشمالية - العراق - ايران الذي أعلنه بوش أساساً لسياسته الخارجية الطويلة الأمد عبارة عن صيغة مركبة لمفهوم محور "برلين - روما - طوكيو" إبان الحرب العالمية الثانية ومفهوم "امبراطورية الشر" الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة. والحملة التي بدأها الرئيس الاميركي الراحل هاري ترومان لمكافحة "امبراطورية الشر" ظلت لحمة وسدى السياسة الاميركية على امتداد 50 عاماً. الا ان ما يسمى "محور الشر" يمثل بنظر روغوف مشكلة كبيرة بالنسبة الى روسيا، فهي لا تعتبر هذه البلدان عدوة ولا ترى فيها خطراً يهدد أمنها مباشرة. وينبغي لموسكو ان تعلن لبوش صراحة: لا أنت خير ولا هم أشرار. وكان الرأي السائد ان المهمة الأولى للولايات المتحدة في السياسة الخارجية هي الوقوف بوجه الصين، إلا ان بوش اعطى الأولوية لمكافحة الارهاب. فتمحورت استراتيجيته حوله. والجديد في موقفه تجاه "محور الشر" عدم حصر تلك المهمة في الحيلولة دون حصول الارهابيين والحكومات المؤيدة لهم على أسلحة الدمار الشامل، بل تجاوزها الى التحضير لتسديد ضربة وقائية، ما يعني الاستئثار بحق التدخل المطلق في شؤون العالم. وأقدم بوش، على صعيد السياسة الداخلية، على زيادة النفقات العسكرية. ويقول روغوف: "ان تلك النفقات بعدما زيدت قبل عام بمبلغ 30 بليون دولار كانت تشكل 38 في المئة من النفقات العسكرية العالمية. والآن بعدما زيدت مرة اخرى ب50 - 60 بليون دولار، فإن حصة الولاياتالمتحدة في النفقات العالمية لصنع السلاح أضحت 48 في المئة، أي ما يقارب نصف سلاح العالم، وباتت اميركا تقول لجميع الدول ان لا جدوى من التنافس معها، فالتفوق العسكري بيدها على مدى القرن الحادي والعشرين كله، بعدما كان بيدها طوال 50 عاماً في القرن العشرين". ويزيد رغوف ان مفهوم "الأمن" بات حلقة الوصل في مجمل سياسة الولاياتالمتحدة - الاقتصادية والدولية والداخلية والعسكرية للحقبة القادمة. ووصف المحلل ميخائيل ديلياغين مدير "معهد قضايا العولمة" في موسكو خطاب بوش عن "حالة الاتحاد" بالعدوانية غير المسبوقة لإثارة البلبلة في المناطق التي يريدها الاميركيون، ما يرغم روسيا على العيش في عالم اكثر عداء واضطراباً. وقال ان كلمة بوش تضع مهمات جديدة امام الديبلوماسية الروسية، فلا بد لروسيا ان تستخلص العبرة من أقوال الرئيس الاميركي وتحدد أولوياتها الوطنية وتعلنها على الملأ. وانتقد ديلياغين موقف الادارة الاميركية حيال مكافحة الارهاب، مشدداً على ان واشنطن لم تحاول اطلاقاً بحث اسباب تصاعد الارهاب في العالم، بل اكتفت بشن حملة على الأعداء الجدد رافضة الصلة العميقة بين الفقر والارهاب. وتحولت مكافحة الارهاب أداة لتأمين السيطرة الاميركية مثلما كانت مكافحة الشيوعية أداة لتلك السيطرة. فالولاياتالمتحدة التي تتجاهل مصالح دول العالم الثاني والثالث تقرر بنفسها من هم المذنبون وتعاقبهم كما يحلو لها. ويرى ديلياغين ان على روسيا في الظروف الجديدة ان تتقيد بسياسة خارجية براغماتية موزونة لا تثير حفيظة الاميركيين ولا تفرط بالثوابت، لتتمكن من استجماع القوى بهدوء وفاعلية، مثلما تفعل الهندوالصين اليوم، وصولاً الى النجاح في الدفاع عن المصالح الوطنية. ويعتقد ان الهندوالصين هما حليفتا روسيا بحكم الضرورة في المنافسة العالمية المفروضة على الكل ضد الولاياتالمتحدة.